كلمة الدكتور السيد عبد الحليم فضل الله (رئيس المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق):
التكافل الاجتماعي في الإسلام وأثره على الأمن الأسري:
بسم الله الرحمان الرحيم
نقاش في المناهج والمبادئ والمفاهيم:
التكافل الاجتماعي في الإسلام هو جزء من منظومة متكاملة، لا تختصرها مبادئ الإحسان والعطاء والإنفاق. وفي قلب هذه المنظومة تتقاطع أسئلة عن طبيعة الاقتصاد الإسلامي أو المذهب الاقتصادي في الإسلام، وعن المبادئ والقواعد العامة التي يمكن استخراجها من الفرائض المالية، وعن موقع الاقتصاد في النظرية السياسية الإسلامية التي تسعى وراء هدف جوهري هو العدالة.
لا يمكن تركيب صورة نظام التكافل دون التعامل مع هذه المسائل وما يماثلها، ولا يمكن الإجابة عن تلك الأسئلة دون العبور بالاجتهاد إلى ما وراء حدود استنباط الأحكام الفردية والخاصة. ففي رحاب النظريات القائمة على التجريد والتعميم، يمكن أن ينسج من خيوط الشريعة والوصايا الأخلاقية والمبادئ العقائدية، إطار معرفي أوسع يتضمن الدلالات الغائرة والمعاني المشتركة للنصوص.
سنعالج في هذه الورقة أولاً، وضمن هذه المنهجية، المقاربات المختلفة لمسألة التكافل الاجتماعي، آخذين بعين الإعتبار اختلاف الإتجاهات الفكرية في مسألة الاقتصاد الإسلامي، وسنستعرض ثانياً المباني الأساسية التي يقوم عليها نظام التكافل، لنخلص أخيرا إلى تحليل مكثف للعلاقة بين نظام التكافل الاجتماعي والأمن الأسري.
أولاً: الإتجاهات الفكرية والمنهجية في مقاربة مسألة التكافل الاجتماعي في الإسلام:
ملاحظات منهجية:
تتنوع المداخل والمنهجيات التي يعتمدها الباحثون والمفكرون الإسلاميون في فهم نظام التكافل في الإسلام، وذلك ضمن التعدد الأوسع التي تتصف به مناهجهم في تناول قضايا الاقتصاد الإسلامي وصوغ مفاهيمه ومبادئه.
قبل ظهور أطروحة الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده) الشاملة، توزعت الأفكار والاجتهادات المرتبطة بالتكافل والاقتصاد الإسلامي على مدخلين تقليديين، يمكن تسميتهما بالمدخل الفقهي-الحقوقي، والمدخل الأخلاقي- الاجتماعي. استندت اجتهادات واستنباطات المدخل الأول إما إلى أحكام الشريعة الإسلامية مثل تحريم الربا والاحتكار وفرض الزكاة والخمس، أو إلى النصوص التي تعلي من شأن مبادئ اجتماعية معينة مثل التعاون والبر والتكافل والإنفاق في سبيل الله. يعتمد المدخل الثاني أيضاً على النصوص المأثورة لربط الخطوط العامة لنظام التكافل بالقيم الأخلاقية المعتبرة في الإسلام والتي قامت عليها عمارة العلاقات الاجتماعية والإنسانية فيه.
لم يذهب الدارسون والباحثون في كلا المدخلين إلى أبعد من ذلك. كان الاقتصاد الإسلامي بالنسبة إليهم وبكل بساطة المجمّع الكبير للأحكام والقواعد الفقهية والأخلاقية التي تنعكس على السلوك الاقتصادي للفرد. تولي الاتجاهات التقليدية عناية خاصة بظاهر النص ودلالة ألفاظه والتفسير الأحادي غير المترابط لمعانيه. وحتى المفاهيم الكلية كالرحمة والإحسان والقسط فإنها ترد لديهم في سياقات متفرقة ومبعثرة الدلالة، حتى أنها لم توظف بالحد الأدنى في استنباط الأحكام والتمييز بين المباحات والمحرمات والواجبات.
برزت جهود متفرقة لتطوير المدخل التقليدي من خلال إسباغ الطابع الحقوقي على موضوعاته، وتفصيلها بما يتماشى مع التقسيمات المعاصرة والموضوعات المستجدة. لكنها توقفت عند هذا الحد، ولم تجرؤ على القيام بمراجعات أعمق للقواعد والمبادئ العامة، بحيث تمس في الفقه السياسي مثلاً التبدل الذي طرأ على مفهوم الدولة والتي غدت علاقتها بمواطنيها قائمة على التعاقد المتكافئ والمشروط وليس على التبعية المطلقة. واستطراداً، تصير الشرعية السياسية متعلقة بناء على ذلك، بمدى رعاية الدولة لمنظومة الحقوق الأساسية ذات الطابع التعاقدي وليس فقط بدقة تطبيقها لأحكام الشريعة ومراعاة لأحكامها.
وعلى أي حال إنّ تطوير فهمنا لمنظومة التكافل في الإسلام لا بد وأن يكون مسبوقاً بتطوير مماثل لفهمنا لطبيعة الدولة. فإضفاء الطابع التعاقدي على الدولة الإسلامية يعني فيما يعنيه أنّها تكتسب صفة معنوية مستقلة، تكون فيها مشروعية الحكومة منفصلة عن شرعية الحاكم. ويعني أيضاً أنّ العلاقة بين الحكومة والمجتمع الإسلامي تأخذ شكلاً أفقيا قائماً على الندية والتوازن (في ظل إشراف الولي ورعايته)، وتكفل مبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق الأساسية دون تمييز، وهو مبدأ لا غنى عنه في إقامة نظام التكافل، وتطوير منظومة حقوقية متكاملة.
نماذج عن التنوع المنهجي:
استقطبت مساهمات سيد قطب في مجالي التكافل والعدالة الاجتماعية انتباه الباحثين الإسلاميين على نحو عام. وهي أتت في سياق الجدل عن علاقة الدين بالدولة وبالمجتمع الذي تصاعد في بداية خمسينيات القرن الماضي. بالنسبة إلى قطب الذي كان قريباً في تلك المرحلة من المنهج التقليدي ولم يصبح بعد رمز السلفية الجهادية، فإن التكافل هو نظام كامل أوسع من الصدقة والبر والزكاة، لكنه لا يرادف في التعبيرات المعاصرة التأمين أو الضمان الاجتماعيين كونهما الوسيلة إلى تحقيق التكافل.
يفضل قطب ربط مدلولات التكافل الاجتماعي بالنطاق الأخلاقي والقيمي للمجتمع الإسلامي، "إذ أنه نظام لتربية الفرد وسلوكه.. ولتكوين الأسرة وتنظيمها وتكافلها"، وهو أيضاً "نظام للعلاقات الاجتماعية التي تربط الفرد بالدولة"، كما أنه في نهاية المطاف "نظام للمعاملات المالية والعلاقات الاقتصادية التي تسود المجتمع الإسلامي"(1)
يتأرجح قطب بين المدخلين التقليديين الفقهي والأخلاقي، لكنه يبدو أكثر تركيزاً على المعاني التربوية لنظام التكافل من غيرها، مولياً اهتماما بارزاً للأسرة التي يعدها "النواة الأولى في الإسلام" كونها ناشئة من "ميل ثابت في الفطرة الاجتماعية"(2).
لكن نظام التكافل بحسب قطب الذي يبدأ بالأسرة ويمرُّ بالمجتمع لا بد وأن ينتهي بالدولة، "منتقلاً من محضن الأسرة إلى المجتمع.. على أساس التكامل بين الفرد والجماعة وبين الجماعة والفرد"(3). وفق هذه النظرة يكون التكافل جزءاً لا يتجزأ من الروابط الأولية التي تشد اللحمة داخل الأسرة وتؤلف بين الأسر في النطاق الأوسع للمجتمع، وهو ذو بعد عبادي تشريعي يمثّله الالتزام بالأوامر والنواهي الإلهية كإخراج الزكاة ومنع الاكتناز. لكن التكافل وفق ذلك لا يحتل موقعاً محدداً داخل النظرية السياسية العامة، بل إنّ دور الدولة يبدو الأضعف فيه، إذ ما بنينا على الرأي الذي يتبناه قطب ومفاده أنّ التكافل الاجتماعي هو "نظام إنتاج وكفاية ذاتية وليس نظام إحسان وصدقات (وتوزيع)، مستنداً في ذلك إلى حديث شريف يقول: أنّ رجلاً جاء إلى الرسول الأعظم(ص) وهو يسأل فلم يعطه مالاً بل أعطاه فأساً وكلّفه أن يذهب ويحتطب"(4)
لا يبدو منهج الشيخ محمد أبو زهرة بعيداً عن قطب في الالتزام بالمدخل التقليدي، لكن نظام التكافل لديه لا ينفصل عن "العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي أقامتها النصوص الإسلامية على مبدأ عام هو التكريم.. الذي لا يفرق بين لون ولون وجنس وجنس وعالم وجاهل"، وهو أيضاً نظام يستق مع الأهداف التي جاءت بها الشريعة، والمعاني الاجتماعية المستترة لأحكامها فالكفارات مثلاً تعذب الأفراد من أجل تهذيب نفوسهم، لكنها في الوقت نفسه تعاون اجتماعي و"ثمن يؤديه المرتكب على أفعاله حتى لكأن الذنب هو بمثابة اعتداء اجتماعي"(5).
إنّ الكرامة الإنسانية هي أيضاً محور التشريع، "والتي يدلّ عليها احترام الإنسان حتى لو كان عبداً، فالرسول أمر بألاّ ينادى العبد بـ "ياعبدي": المالك يقول فتاي والعبد يقول مولاي. والإسلام منع الإكراه في العقائد وأباح حرية التفكير (في الدعوة الى الله)، وكفّ أيدي الولاة عن الأذى كالضرب. فالأخلاق الفاضلة ليست شأناً عبادياً روحياً صرفاً، بل إنّ لها مهمة اجتماعية هي التأليف بين أفراد الأمة(6) ولمّ شملهم. لكن أبو زهرة بالمقابل يرى أن الفقر والغنى هما حقيقتان ثابتتان(7) ولا يعودان إلى سوء تصرف البشر وطغيانهم وظلمهم كما تطورت إليه فيما بعد الرؤية اللاحقة إلى المشكلة الاقتصادية في الإسلام.
مع ذلك، يقود المنهج الفقهي التقليدي أبو زهرة إلى إلقاء مسؤولية التكافل الاجتماعي على الفرد والأسرة والأمة أكثر من الدولة. يظهر ذلك على نحو واضح في تعداده طرق التكافل المتمثلة في: نفقات الأقارب والزكاة والتعاون داخل المجتمعات الصغيرة والكفارات والصدقات غير الواجبة. يدعو أبو زهرة أيضا إلى الأخذ بما اقترحته حلقة الدراسات الاجتماعية المنعقدة عام 1952 والتي دعت إلى الأخذ بالمذهب الفقهي القائل بأنّ الكفالة الواجبة تشمل القرابة كلها، الفروع منها والأصول وغيرهم، دون حاجة إلى حكم القاضي كما في مذاهب أخرى، أما العاجزون الآخرون فعطاؤهم من بيت المال.
وعلى العموم، يظهر التقاطع واضحاً بين المدخلين الفقهي والأخلاقي في عدّ التكافل الاجتماعي أحد وجوه التعاون في نطاق المجتمع الإسلامي القائم على رعاية المحروم من العائل أو المال أو الوطن، وإغاثة الملهوف (تحقيقاً) للسلام الاجتماعي وإصلاحا لذات البين(8).
في المقابل، فإنّ التكافل الاجتماعي وفق المنهج الاجتهادي-النظري الذي أسس له الشهيد الصدر، هو جزء لا يتجزأ من رؤيته للمذهب الاقتصادي في الإسلام. استعان الصدر بأدوات تحليل واجتهاد متنوعة في بناء نظرية اقتصادية متناسقة(9). لكنه اعتمد القطع المنهجي بين المجال الفقهي ومجال بناء النظرية، مما جنّب هذه الأخيرة الخضوع للمعايير الصارمة المعتمدة في استنباط الأحكام. فالنظرية بطبيعتها ظنية ومتغيرة ومرنة عند التطبيق وخاضعة للتبدل مع تطور العلوم الأخرى. والغرض الأساسي من وجود نظرية إسلامية هو التعمق بفهم مدلولات الدين ومنطوياته في سياقات نسبية لا تتعلق بالتكاليف والأحكام، بل تسعى بالدرجة الأولى إلى فهم وظيفة الدين في المجتمع من ناحية، وتحليل دور الفرد والمجتمع في إطار المنظومة الدينية، وذلك على نحو مترابط، في حين يسعى الاجتهاد الفقهي وراء حقيقة شرعية ثابتة في مسائل متفرقة. إنّ القطع المنهجي الذي اعتمده الشهيد الصدر ما بين حقلي الفقه والنظرية هو بداية كان من شأنها لو استكملت أن تساهم في تطوير قواعد الاجتهاد الفقهي نفسه.
إنّ طموحاً من هذا النوع لا بدّ وأن يرتوي من معين ثورة منهجية تقوم على أمرين:
الأول: فتح الأبواب الموصدة بين علوم الإسلام: الفقه، والأخلاق، والكلام، والعقيدة، إلخ..، وتوسيع معنى الاجتهاد ليشملها جميعاً.
والثاني: النظر إلى الدين على أنه أوسع من النص، تبعاً لما يؤديه العرف والفطرة والسيرة التاريخية وغيرها من أدوار هامة فيه، ولأنّ للعقل حضوراً قوياً في مجال الاجتهاد، كونه أحد أدلة الإستنباط المعتبرة، وله حضور أيضاً في مجال القراءة واستخراج الإتجاه العام للتشريع.
لا ينفصل التكافل عند الشهيد الصدر عن المذهب الاقتصادي في الإسلام، الذي يقيم صلة غير قائمة على التبعية بين الإنتاج والتوزيع، كما هو حالها في القانون الطبيعي، بل صلة تشريعية يفرضها المذهب. إن قواعد التوزيع ومن بينها التوزيع التكافلي، التي يقررها الإسلام ثابتة ولا تختلف مع اختلاف درجة التطور، ومجال الإنتاج هو الظرف الذي تطبق فيه قواعد التوزيع، بل إنّ قواعد التوزيع التي يقررها الإسلام تزداد أهمية مع تطور أدوات الإنتاج. فمثلاً العمل الزراعي اليدوي لا يمكنه احتكار مساحات واسعة من الأراضي، في ما يمكن ذلك مع إدخال الآلات، مما يضاعف أهمية قواعد التوزيع السابقة للإنتاج كالملكية. ووفق المدخل الاجتهادي- النظري لا يتحقق التكافل الاجتماعي من خلال تطبيق الأحكام ذات الصلة فحسب بل إنه يتطلب قبل ذلك تطبيق قواعد الاقتصاد الإسلامي ومبادئه بدءاً من تقاسم أدوات الإنتاج وعوامله وانتهاء بدور الدولة والمجتمع على صعيدي التكافل العام والضمان الاجتماعي وفي مجال إعادة توزيع المداخيل الناشئة عن الإنتاج.
وبحسب هذا المدخل فإن التكافل -على ما يقوله الصدر- جزء من الرؤية الإسلامية العامة التي ترمي إلى إيجاد اقتصاد واقعي وأخلاقي يندرج في البناء النظري العام للإسلام، حيث للنظرية السياسية والمفاهيم العقائدية والعواطف الإنسانية والسياسات العام للدولة دور في وضع الإطار العام للتكافل(10).
ثانياً: المبادئ الأساسية لنظام التكافل في الإسلام:
يقع مفهوم التبادل ما بين ثلاثة فضاءات مفهومية لها وقعها على تيارات الفكر الاقتصادي عموماً والإسلامي منه على نحو خاص: الأخلاق والعدالة، وظائف الدولة وأدوارها وسياساتها، والتشريعات والأحكام.
يرتبط البعد الأخلاقي بسؤال طالما تكرر في الأبحاث الاقتصادية والأدبيات المرتبطة به، عن العلاقة التي تربط بين القيم الأخلاقية والثقافية ومقتضيات العلم، وإذا كان من علاقة سببية أو غير سببية فأيّهما يسبق الآخر؟ يتفرع من ذلك سؤال آخر: هل أنّ علم الاقتصاد علم خارجي قائم على أسس تجريبية صارمة أم أنّه علم نسبي متغير وخاضع لإرادة الإنسان وصيرورة المجتمع؟
في المدارس الوضعية، تعددت النظرة إلى الأخلاق بتعدد الموقف من الأسس العقلانية التي قامت عليها، والتي تراوحت بين الطبيعة البشرية التي هي أصل الأخلاق عند "بيكون" والقوة عند "سبينوزا" و"نيتشه"، وسنجد في الصيغ الليبرالية الأولى أنّ النمو والتطور هما معيار الأخلاق، ورأت المدرسة التاريخانية أنّ الأخلاق هي جزء لا يتجزأ من علاقات الإنتاج وذات صلة وطيدة بها، وصار مبدأ التبعية الاجتماعية للرأسمال والسعي الغريزي وراء اكتساب المنفعة وإشباع الحاجات المتضخمة باطّراد هما إطار الأخلاق التي بشرت بها الرأسمالية الكلاسيكية. لكنّ أخلاق المنفعة تتعارض مع مبدأ أخلاقي جوهري آخر هو العدالة. حاول جون راولز ومايكل ساندل وآخرون محاججة الليبراليين التقليديين في اعتقادهم بأنّ الحرية هي وحدها الجوهر الأخلاقي المتعالي والمفارق، وقد أضفى راولز تجديداً على الليبرالية عندما وضع العدالة إلى جانب الحرية في مصاف القيم الجوهرية المتعالية والمفارقة، أي بالنسبة إلى أولئك الموضوعين خلف ستار الجهل، فلا يدركون موقعهم الاجتماعي ولا مصالحهم الاقتصادية.
لقد تلاقت العقلانية التاريخية مع الليبرالية الكلاسيكية في ربط القيم العليا بما فيها العدالة إما بالحتمية التاريخية أو الاجتماعية، أو ببحث الإنسان عن المتعة واللذة. لكن العلاقة بين الأخلاق والمبادئ الاقتصادية تأخذ طابعا عميقاً ومعقداً أكثر في الإسلام. الأخلاق ذات مصدر إلهي متسام، وهي لذلك أعلى من التعاقد الاجتماعي وأكثر رسوخاً مما هي عليه في المذهب الطبيعي، وغير منقادة أيضاً للعقلانية بأوجهها المختلفة الأداتية والتاريخية والاجتماعية. وبتعبير آخر، إن العدالة في الإسلام هي ذات مصدر أخلاقي نابع من إرادة الإنسان وهي أكثر ثباتاً من قوانين السوق وقوانين التاريخ في آن معاً.
لكن ما هو مفهوم العدل وما علاقته بالتكافل الاجتماعي في الإسلام؟ هل يقف العدل الاجتماعي عند حدود تكافؤ الفرص وهو أقصى ما يوافق عليه أنصار الرأسمالية التقليدية بمذاهبها المختلفة، أم أنّه أوسع مدى من ذلك فيسخّر البنية الاقتصادية والاجتماعية وسياسات الدولة كلها لتحقيق حدود الكفاية كلها: الضروريات (الكفاية الطبيعية) والحاجيات (الكفاية الاجتماعية) والتحسينات (الكفاية البشرية والمعرفية)؟
لا شك أنّ مفهوم العدل الاجتماعي يرتبط بالعناصر البنيوية التي يقوم عليها الاقتصاد (المتمثلة في التشريعات والمؤسسات الناظمة للعملية الإنتاجية)، إذ أنّ تحقيق المساواة يتطلب التحكم بمدخلات الإنتاج وليس فقط بمخرجاتها. ويتحقق هذا التحكم من خلال التحديد المسبق: للحقوق والواجبات التي يتبادلها أطراف الإنتاج، وموقع كل منهم داخل العملية الإنتاجية، وملكية الموارد وأدوات الإنتاج، وسبل توفير السلع المشتركة وتقاسم المنافع العامة، ودور المال في الدورة الاقتصادية (هل هو وسيط في التبادل وأداة قياس للقيم أم أن له أيضاً قيمة ذاتية قائمة بذاتها). على أنّ التحكم المسبق بالبيئة الاقتصادية هو أكثر تأثيرا على العدالة والمساواة من أي عمليات إعادة توزيع لاحقة تقوم بها الدولة أو يؤديها المجتمع.
بيد أنّ ربط الأخلاق والقيم بالتشريعات والأحكام في صوغ نظرية اقتصادية يكون نظام التكافل جزءاً منها يحتاج إلى تجديد في طرق التعامل مع المفاهيم. فمثلاً لا يكفي إبداء الاحترام لمبدأ العدالة بل المطلوب تحديد موقعه ضمن التراتبية العامة للقيم في الفكر السياسي والاقتصادي في الإسلام وأثره على جوانبه الأخرى بما فيها الشريعة. إن وضع هيكل عام لتراتبية القيم له أهمية خاصة في تبيان علاقة الدولة بالموارد ودورها في وضع الخيارات الجماعية، وفي تقرير الأولويات إذا حصل تعارض ما بين القيم المختلفة، كالتعارض مثلاً بين الحرية الاقتصادية والمساواة الاجتماعية.
لا شك أنّ مسألة التكافل الاجتماعي في الإسلام هي ذات منشأ أخلاقي وفلسفي تتمثل أساساً في العدالة والرحمة والإحسان والتوازن، لكنها تنتمي أيضاً الى عائلة الحقوق الأساسية المطلوب من الدولة رعايتها ومن المجتمع الدفاع عنها. وترتبط هذه الحقوق من ناحية بالشريعة ومن ناحية ثانية بتصور الإسلام للخير والقيم الحسنة، وذلك على خلاف ما تأخذ به فلسفة أخلاق الواجب الليبرالية، والتي تعني أنّ من واجب المجتمع أن يدافع عن الحقوق بمعزل عن مضامينها وهدف المستفيدين منها (فمثلاً حق الفرد في التعبير مصان يغض النظر عن المضمون الذي سيعبر عنه).
وعلى العموم يمكن القول بأن العدالة التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم ربطاً بموضوعات متعددة تأتي على رأس هرم تراتبية القيم الإسلامية، أي أنها من القيم الحاكمة التي تقاس عليها القيم والمبادئ الأخرى التي يلحظها الشارع.
العدل الاجتماعي في المدخلين التقليدي والاجتهادي:
تمزج المدرسة التقليدية في فهمها للعدالة بين المنظورين الأخلاقي والحقوق/ التشريعي. فالعدالة الاجتماعية عند قطب "شاملة لنواحي الحياة الإنسانية المختلفة" وأوسع من العدالة الاقتصادية بمعناها الضيق، حيث تتمازج أبعادها المادية مع أبعادها الشعورية والسلوكية والمعنوية والروحية. والإسلام أقام العدالة الإنسانية على ركنين قويين: الضمير البشري من داخل النفس والتكليف القانوني في محيط المجتمع(11). وبالنسبة إلى قطب، العدالة تعني أيضا التحرر الوجداني المطلق والمساواة الإنسانية الكاملة والتكافل الاجتماعي الوثيق. إنّ إدراك العدالة الاجتماعية غير ممكن بحسبه إلا ضمن التصور العام للإسلام عن الكون والحياة والإنسان والإلوهية القائمة جميعها على العدالة، التي هي ذات ثلاثة أسس: التحرر الاجتماعي المطلق، والمساواة الإنسانية التامة والتكافل الاجتماعي المرتبط بمصلحة الجماعة. والتكافل هو في آنٍ معاً: تكافل الفرد وذاته من خلال تزكية النفس، وتكافل الفرد وأسرته من خلال الإحسان بالوالدين، وتكافل بين الفرد والجماعة من خلال الإنفاق، وبين الأمة والأمم من خلال التعارف والتنافس، وبين الجيل الحالي والأجيال الآتية. ويتحقق التكافل من خلال وازعين: وازع فردي: الرحمة الصدقة والإيثار واللطف، ووازع تشريعي تمثله الأحكام القانونية والتنفيذ الحكومي، أي أنّه لا عدالة شاملة إلاّ في إطار الحكم الإسلامي وتجسيد الرؤية الإسلامية الشاملة في الذات والمجتمع(12).
يبدو أبو زهرة أكثر تركيزاً من قطب على الجوانب الحقوقية للعدالة، التي تتوزع برأيه على ثلاثة أنواع: العدالة القانونية التي تعني المساواة أمام القانون، والعدالة الاجتماعية التي تكفل الحياة الكريمة لكل فرد من أفراد المجتمع من خلال التمكين بأسباب العمل، وتوفير الفرص عبر التعلم، ورعاية العاجزين من خلال الزكاة، والعدالة الدولية القائمة على السلم والبر والإحسان، أخذاً بمنطوق الآية الكريمة: ﴿لا ينهاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لَمْ يقاتلُوكُم في الدِّينِ ولَمْ يُخرِجُوكُم من ديارِكُم أنْ تبرُّوهُم وتُقسِطُوا إليهِمْ إنَّ اللهَ يحبُّ المقسِطِينَ * إنما ينهاكُمُ اللهُ عن الَّذين قاتلُوكُم في الدِّين وأخرَجُوكُم مِنْ ديارِكُم وظاهِرُوا على إخراجِكُم أن تولَّوهُم ومَنْ يتولَّهُم فأُولئكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(سورة الممتحنة؛ الآيتان: 7 و8).
وكل ذلك في سبيل حفظ المصالح التي اعتبرها الإسلام أي النفس والنسل والعقل والدين والمال(13).
لا تنفصل العدالة في المنهج التقليدي إذاً عن أمرين هما: الرؤية الكونية العامة والقيم المرتبطة بها من ناحية وأحكام الشريعة الإسلامية وفرائضها من ناحية ثانية، أي أن العدالة هي جزء من "كلّ" هو الإسلام، لكنها ليست نظاماً خاصاً ولا تنتمي في داخله إلى منظومة أكبر (كالاقتصاد الإسلامي أو المذهب الاقتصادي في الإسلام). ولم يحاول أتباع هذا المدخل إيجاد تفسيراتهم الخاصة لمسألة القسط والعدالة خارج نطاق التسويغ الأخلاقي والشرعي.
في المدخل الاجتهادي؛ العدالة هي جزء من سياق أوسع. يقوم المذهب الاقتصادي في الإسلام في أطروحة الشهيد الصدر على ثلاثة أركان: الملكية المزدوجة، الحرية الاقتصادية في نطاق محدود والعدالة الاجتماعية. وهذه الأخيرة تعبّر عن نفسها من خلال أساسي الضمان الاجتماعي: التكافل العام والتوازن الاجتماعي، فمن خلالهما تتحقق القيم الاجتماعية العادلة ويعبر المثال الإسلامي للعدالة الاجتماعية عن نفسه(14). هدف التكافل العام عند الشهيد الصدر هو تلبية الحاجات الأساسية، فيما هدف الأساس الثاني تحقيق إشباع أوفى ومستوى أرفع من الحياة. والتكافل العام هو فرض كفاية على المسلمين، أي إنّه من اختصاص المجتمع لكنه يقع أيضاً في دائرة سلطة الدولة الإسلامية التي يمكنها إكراه الأفراد المقتدرين على أداء واجباتهم الشرعية في كفالة العاجزين. وقد ربط الإسلام هذه الكفالة بمبدأ الأخوة، أي أنّ على الأخ أنّ يلبي حاجات أخيه التي يصعب الحياة من دونها وللدولة أن تلزمهم بذلك.
أمّا الأساس الثاني للضمان فيعبر عن حق الجماعة في مصادر الثروة العامة، وعلى أساس هذا الحق تكون الدولة مسؤولة بصفة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على المسلمين أنفسهم(15).
تختلف حدود المسؤولية المباشرة للدولة عن مسؤوليتها هي والمجتمع عن تحقيق التكافل العام، فمسؤوليتها المباشرة تتجاوز تأمين الحاجات الشديدة إلى تحقيق مستوى كفاية للأفراد "يتناسب مع ما يحياه المجتمع الإسلامي، أي مع متوسط ما يكسبه أفراد هذا المجتمع، فيزداد مع زيادة يسر ورخاء هذا المجتمع"(16).
يحيلنا هذا التمييز بين مبدأي التكافل العام وحق الجماعة في مصادر الثروة إلى التمييز الراهن في تعريف خطوط الفقر. يقيس خط الفقر المطلق-المعتمد في لبنان- القيمة المالية التي توفر للفرد أو الأسرة الحد الأدنى من الحاجات الأساسية التي لا غنى عنها: الغذاء واللباس والسكن والصحة والتعليم(17). وفق هذا المقياس فإن مستوى الحاجات ثابت ومطلق، أي أنّ تمييز الفقراء عن غيرهم يكون بمعزل عن المستوى العام للمجتمع. وبالتالي مسؤولية الدولة هي في أقصى حد، حماية الناس من الحرمان الشديد، والذي لا تتغير حدوده مع تغير ظروف المجتمع ونمط استهلاكه. المفهوم الأكثر واقعية هو خط الفقر النسبي، الذي يحدد الحاجات كنسبة من متوسط مداخيل المجتمع فيرتفع بارتفاعه وينخفض بانخفاضه. إن مكافحة الفقر وفق هذا المقياس لا بد وأن يضيف الى تلبية الحاجات الأساسية، حاجات أخرى يفرضها النمط الاجتماعي السائد والمستوى المعيشي المتوسط لعموم المجتمع.
يشمل نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام إذاً نطاقاً واسعاً من الحاجات التي تحافظ على بقاء الأفراد الطبيعي وحضورهم الاجتماعي.
ومن مبررات هذا النطاق الواسع لنظام التكافل:
1- إن الثروات العامة هي ملك الجميع العامل منهم وغير القادر على العمل ولهذا الأخير نصيب من مردودها.
2- الوفورات الخارجية الإيجابية Positive externalities التي تحققها المشاريع والبرامج العامة والتشريعات، فتزيد من مكاسب المنتجين دون مساهمة منهم في تحقيقها. وينطبق الأمر نفسه على الريوع الطائلة الناتجة عن استثمار الثروات الطبيعية. وبما أنّ تلك المكاسب وهذه الريوع غير ناتجة عن عمل يؤديه المستفيدون المباشرون منها فلا بد وأن تشمل عوائدها المجتمع ككل.
3- عدم تطابق التوازن الاجتماعي مع التوازن الاقتصادي. فالنظام الاقتصادي مهما كان متكاملاً ومراعياً لشروط التوزيع العادل للموارد والثروات، معرّض لاختلالات حتمية، ناجمة عن تصرفات العنصر البشري أو عن العوامل الطبيعية والسياسية والاجتماعية الطارئة، ومن شأن هذه الاختلالات زيادة المسافة الفاصلة بين نقطتي التوازن الاقتصادي والاجتماعي إلى أبعد من المسافة الناتجة عن تفاوت المواهب والمهارات بين الأفراد.
يحدّد التوازن الاقتصادي مستويات الدخل التي يحققها أطراف الإنتاج جراء مشاركتهم في العملية الإنتاجية، ويفترض بهذه المداخيل أن تتناسب مع الإنتاجية والعمل، فيما يحدد التوازن الاجتماعي مقدار النفقات الضرورية لتحقيق الكفاية، والتي لها حد طبيعي أدنى يحفظ البقاء، وحدّ اجتماعي أعلى يؤمّن الاستقرار الشامل من خلال الاندماج بالمجتمع واللحاق بمتوسط معيشة أفراده.
لكن ما هي سبل التقريب بين التوازنين الاقتصادي والاجتماعي في إطار نظام التكافل الاجتماعي؟
1- هناك ثلاثة مستويات للتقريب بين التوازنين: الأسرة بتعريفاتها المختلفة (العائلة والأقارب) بالوجوب والإلزام الشرعيين، والمجتمع من خلال إعمال مبدأ التكافل العام، والدولة من خلال قيامها بمسؤولياتها وممارسة وظائفها المعتبرة إسلاميا. وتختلف دوافع التكافل بين مستوى وآخر: في الأسرة الدافع فطري أولاً وشرعي ثانياً، وفي المجتمع الدافع اجتماعي وشرعي، أما دافع الدولة والحكومة في الإشراف على نظام التكافل فهو اقتصادي تعاقدي وسيادي.
2- إن التقريب ما بين التوازنين هو عملية متوازية في كل مستوى من المستويات الثلاثة، ومتكاملة متضافرة بينها. فقيام الأسرة والمجتمع بواجباتهما التكافلية مثلاً يخفض النفقات التوزيعية المباشرة التي تتولاها الدولة، وهذا ما يمكنها من التركيز على تطوير البنية الاقتصادية مثلاً من خلال تكوين الرأسمال العام مثلاً وزيادة الرأسمال الاجتماعي. وبالمقابل إن وضع الدولة سياسات اجتماعية فعّالة وقيامها بوظائفها في التوزيعين الأولي والثانوي، يخفف الأعباء المفروضة على موازنات الأسر التي يصير بإمكانها عند ذلك صرف مبالغ أكبر على تنمية المخزون البشري والمعرفي لأفرادها. اللافت هو وجود ثلاث دوائر لإعادة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي التكافلي تتولاها الأسرة والمجتمع والدولة، في مقابل دائرة واحدة لإعادة التوزيع الحكومي في الأنظمة الوضعية.
3- إن المسؤولية الأولى للأسرة هي الوصول بأفرادها إلى حد الكفاية الطبيعية والاجتماعية (يقتصر الأمر على الأولى بالنسبة إلى الأسر الممتدة التي تشمل الأقارب) من خلال المشاركة بالدخل، أما مسؤولية المجتمع فهو التكافل العام لتوفير الحاجات الأساسية اعتماداً على الفرائض المالية المحددة شرعاً، وتستخدم الدولة وسائل متعددة تجمع بين الإنفاق ورسم السياسات ووضع التشريعات وإنفاذ الأحكام والمشاركة المباشرة في النشاط الاقتصادي لتحقيق هدفها الرئيسي وهو دفع التوازن الاقتصادي إلى أقرب نقطة من التوازن الاجتماعي.
4- إن نظام التكافل في الإسلام هو نظام مركب، الإنفاق هو وجه من وجوهه، لكنه لا يحقق أهدافه ولا يتكامل إلا إذا:
- نُظمت الحياة الاقتصادية على الأسس الأخلاقية والقيمية والتشريعية للإسلام، والمبادئ العامة للاقتصاد الإسلامي التي تراعي القوانين العلمية للاقتصاد وتؤثر فيها في الوقت نفسه.
- تولت الدولة القيام بسلطاتها السيادية كاملة التي تتيح لها فرض ضرائب ورسوم ذات طابع تدبيري، تختلف عن الفرائض المالية ذات الطابع العبادي. وما يعطيها الحق في فرض هذه الضرائب غير المنصوص عليها، هو أنها-وفق نظرية الولاية العامة- تتمتع بالسيادة المطلقة من ناحية، ولأنها من ناحية ثانية تمثّل الحق العام والمشترك لجميع أفراد المجتمع في المكاسب الإضافية التي يحصل عليها المنتجون، والذين يستفيدون-كما سبقت الإشارة- من الوفورات الإيجابية الناتجة عن التطور الاقتصادي والاجتماعي وعن مشاريع الدولة، أو ينالها المستثمرون في الموارد الطبيعية التي تعود ملكيتها إلى المجتمع ككل.
5- إن فعالية نظام التكافل الاجتماعي يساهم في زيادة كفاءة الاقتصاد ونمائه، في حين لا يؤدي الأداء الاقتصادي الجيد إلى تحسين المؤشرات الاجتماعية. وهذا يعطي السياسات الاجتماعية أفضلية على السياسات الاقتصادية في تحقيق أهداف نظام التكافل.
6- لا تكتمل صورة نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام من دون البعد الثقافي- التربوي، الذي يساهم في تحديد نظرة المجتمع لحاجاته. سبق وأشرنا إلى أنّ هدف الضمان الاجتماعي هو إلحاق الأفراد والأسر الواقعين في أسفل السلم الاجتماعي بأواسط الناس. والمعيار في ذلك هو الإنفاق والاستهلاك اللذان يعبران عن نمط المعيشة والحياة السائد في المجتمع.
إنّ تعديل هذا النمط يتم بإحدى طريقتين: تغيّر في توزيع الإنفاق على بنوده المختلفة (الطعام والشراب، السكن، التعليم، الصحة، الإتصالات، المواصلات، الطاقة، الترفيه..)، أو تغيّر في توزيع استخدامات الدخل بين الإستهلاك والإدخار. وهذا يعني أنّ تقريب المسافة بين نقطتي التوازن الاقتصادي والتوازن الاجتماعي يمكن تحقيقه من خلال خفض المستوى الذي يعبر عن التوازن الاجتماعي، وتصحيح نمط الإستهلاك وتعديل طرق الإستهلاك وليس فقط من خلال زيادة الإنفاق الهادف إلى ردم الفجوة بين التوازنين. إنّ تغيير طريقة الإستهلاك هو عملية ثقافية- تربوية، تساعد على جعل المستوى المعيشي الموازي لمتوسط المعيشة قابل للتحقيق بالإستفادة من عائدات العمل ومن خلال منظومة تكافل اجتماعي ذات تكاليف معتدلة.
وبالخلاصة إنّ حسن سير نظام التكافل الاجتماعي يتطلب وجود:
نظام اقتصادي فعال يراعي المبادئ الإسلامية في المجالات المختلفة. ويكون غرضه الأساسي تحقيق العدالة على نحو لا يتعارض مع معياري الكفاءة والنماء.
دولة تتبع سياسات اقتصادية ناجحة تفضي وعلى نحو تلقائي إلى تقليص الفجوة بين نقطتي التوازن الاقتصادي والاجتماعي.
منظومات مالية واجتماعية واقتصادية وتعاقدية قابلة للحياة تراعي أحكام الشرع الحنيف وفرائضه المالية.
مجتمع ذي بنية أخلاقية وقيمية وثقافية تتمثل روح الإسلام وأهدافه وتتماهى مع التوجهات العامة للتشريع، التي تشجع السلوك الاقتصادي الحسن وتستبعد القبيح.
وعلى العموم يقوم نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام على أربعة أسس:
o التشريعات التأسيسية التي تحدد ملامح النظام الاقتصادي الإسلامي وتساهم في توجيه قوانين الاقتصاد لتخدم غرضي العدالة والكفاءة.
o التشريعات الاجتماعية التي تحث على الإنفاق وتعيّن موارده.
o السياسات العامة للدولة.
o البناء الأخلاقي والثقافي والقيمي للمجتمع.
ومع أنّ نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام لا يتكامل إلا في ظل الحكومة تقوم مشروعيتها وشرائعها على الإسلام، فإنه وبخلاف الرأي الذي تبناه بعض أنصار المدخل التقليدي (قطب مثلاً) يمكن أن يحقق بعض أهدافه ووظائفه في نطاقي المجتمع والأسرة مهما كان نظام الحكم ومن دون إقامة حكومة إسلامية.
ثالثاً: كيف يؤثر نظام التكافل الاجتماعي على الأمن الأسري:
يختلف تعريف الأمن الأسري باختلاف النظرة إلى طبيعة الحاجات وتراتبيتها. في قاعدة هرم الحاجات الذي وضعه ماسلو في بحثه الرائد المنشور عام 1943، تقع الحاجات الأساسية المرتبطة بالبقاء، وتندرج في متطلبات تحقيق الذات، وبينهما بالتدرج يأتي الانتماء والحب والمعرفة والجمال وتقدير الذات.
في التراث الإسلامي تُذكر محاولتا أبي محمد الغزالي (ت: 505) وأبي إسحاق الشاطبي (ت:790). صنف الغزالي الحاجات على ثلاث مراتب: سد الرمق (ما يوازي الفقر الغذائي)، مستوى الكفاية وهو بين الحدين الأدنى والأعلى، ومستوى حاجات النعيم أو حد التنعم. وهو قسّم المصالح/ الحاجات إلى ثلاثة أقسام:
(أ) الضروريات: لحفظ البقاء وحفظ أركان الدين الخمسة: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والتي يهدد فقدانها البقاء ويفضي إلى "التهارج والفساد وفوت النعيم في الآخرة".
(ب) الحاجيات التي يوقع فقدها في الحرج والضيق دون الفساد الاجتماعي والهلاك.
و(ج) التحسينات: التي تجري مجرى الرفاهية والتوسع في المأكل والمشرب(18).
بيد أنّ للحاجات والمصالح أبعاداً أخرى، أبعد غوراً من تلك المذكورة، منها ما يتعلق مثلاً بالتوازن المعنوي والاجتماعي والسياسي الذي يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق الرضى، ومنها ما يرتبط بالإندماج في مسيرة الجماعة الساعية إلى تحقيق الوفرة والتقدم. ومن شروط ذلك وجود منظومة سياسية وتشريعية تكفل الحقوق الأساسية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتمتع بمخزون من الرأسمال البشري والإنساني يؤمن السعادة والتوازن والإندماج الفردي والأسري داخل الجماعة على المدى الطويل.
وبناء عليه يمكن ترتيب الأمن الاقتصادي الأسري في خمس مراتب على النحو الآتي:
المرتبة الأولى: توفير الحاجات الطبيعية المرتبطة بالبقاء من مأكل ومشرب وملبس ومسكن.
المرتبة الثانية: تأمين الحاجات المادية التي تحقق الحد الأدنى من الإندماج في المجتمع وتقي من التهميش والاستبعاد الاجتماعيين.
المرتبة الثالثة: الحماية من المخاطر التي تحقق الاطمئنان والاستقرار. وهذا يكون إمّا بالمعنى الخاص من خلال الضمانات والتأمينات المباشرة، أو بالمعنى العام من خلال ضمان الحكومة للحقوق الأساسية.
المرتبة الرابعة: حيازة الرأسمال البشري الذي يمكّن الأسرة من المساهمة الكفوءة في الإنتاج والفعالة في رسم الخيارات العامة. وهذا يحقق الإستقرار ويقي من المخاطر على المدى البعيد، ويضمن العيش الكريم.
المرتبة الخامسة: التمكين على الصعد البشرية والإنسانية والمعرفية، والذي يتيح للمجتمع التطور والتقدم المطرد ومنافسة المجتمعات الأخرى من جيل إلى جيل.
يوفر نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام إمكانية توفير متطلبات الأمن الاقتصادي بمستوياته المختلفة، مع توزيع للأعباء على الأطراف ذات الصلة توزيعاً معتدلاً وقابلاً للتحمل. تتشابك مسؤوليات الأسرة والمجتمع والدولة عند كل مستوى من مستويات الأمن الاقتصادي- الاجتماعي، لكننا نلاحظ كما يبين الجدول أدناه، أن حضور الدولة يكون قوياً في المستويات الأولى فيما يزداد دور المجتمع والأسرة في المراتب اللاحقة.
نؤكد ختاماً بأنّ الأمن الاقتصادي هو عملية متكاملة ولا يستتب من دون عوامله الأخرى: السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية. كما أن قيام أحد الأطراف الثلاثة بوظائفه على النحو الصحيح، يقلل الأعباء المفروضة على الطرفين الآخرين، ويزيد من قدرتهما على توفير مستويات أعلى من الأمن. إن قيام الدولة مثلاً بواجباتها على صعيدي الأمن الاقتصادي الطبيعي، وضمان الحقوق الأساسية، يمكن المجتمع والأسر من صرف موارد أكبر على متطلبات العيش الكريم والرفاه والتقدم العلمي والإنساني، كما أن التراكم المعرفي وزيادة الوعي الاجتماعي ونمو الرأسمالين البشري والاجتماعي سيقلل التكاليف التي تتحملها الدولة للقيام بمسؤولياتها في تحقيق الكفاية والعدالة النسبيين، ويمكنها أيضاً من المساهمة في تحقيق الأمن في مراتب أعلى.
جدول مؤشرات ومراتب الأمن الاقتصادي والحاجات الموازية لها:
الرتبة |
النوع |
الحاجات |
المؤشرات المساعدة |
ترتيب الأدوار |
الوسائل |
1 |
الأمن الطبيعي |
حفظ البقاء |
خط الفقر الأدنى |
الدولة- المجتمع |
التشريعات المالية-النظام الاقتصادي-البنية الاقتصادية |
2 |
الأمن الاجتماعي |
الاندماج الاجتماعي؛ والكفاية والعدالة النسبيتين |
الفقر النسبي ومؤشر عدم المساواة (جيني مثلاً) |
الدولة-المجتمع-الأسرة |
السياسات الاقتصادية
-الفرائض المالية |
3 |
الأمن من المخاطر |
الحماية والاستقرار |
- مؤشر التغطية الصحية والاجتماعية
- البطالة وفرص العمل
- المشاركة السياسية
|
الدولة- المجتمع |
المؤسسات الاجتماعية والتعاقدية-السياسات العامة-الحقوق الأساسية |
4 |
الأمن البشري |
الرفاهية؛ الفعالية الاقتصادية؛ العيش الكريم |
- مؤشر التنمية البشرية.
- مؤشر رأس المال البشري.
|
المجتمع- الأسرة- الدولة |
الوعي الاجتماعي-الرأسمال الاجتماعي-السياسات العامة |
5 |
الأمن الإنساني |
التطور والمنافسة؛ الرقي والإبداع؛ السعادة. |
- مؤشر التنمية الإنسانية (بعد تطويره)
-مؤشر السعادة.
|
الأسرة- المجتمع- الدولة |
القيم الاجتماعية- التراكم المعرفي |
من إعداد الباحث
ملحق- هرم ماسلو للحاجات
Self-actualization
____________________
Esteem needs
__________________________
Love, Belonging needs
________________________________
Safety needs
______________________________________
Physiological (needs
______________________________________________
See: Maslow A.H (1943);”A Theory of Human Motivation”; Physiological Review 50 (4),370-96
والحمدلله رب العالمين
الهوامش:
1- سيد قطب؛ "دراسات إسلامية"؛ القاهرة: دار الشروق، الطبعة العاشرة، 2002؛ ص: 62-63.
2- م.ن؛ ص: 64-66.
3- م.ن؛ ص:67.
4- م.ن؛ ص:68-69.
5-الإمام محمد أبو زهرة؛ "تنظيم المجتمع للإسلام"؛ القاهرة: دار الفكر العربي، 1965، ص: 18-21.
6- م.ن؛ ص: 24-30.
7- مستنداً إلى قوله تعالى "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا". راجع: م.ن؛ ص: 36
8- أنظر: أحمد شلبي؛ "الحياة الاجتماعية في الفكر الإسلامي- مباحث اجتماعية في نطاق الأسرة (موسوعة النظم والحضارة الإسلامية)"؛ القاهرة: مكتبة النهضة الإسلامية، الطبعة الخامسة؛ ص:311-317.
9- للمزيد عن المنهج الاقتصادي عند الشهيد الصدر أنظر: محمد باقر الصدر؛ "الإسلام يقود الحياة"؛ بيروت: دار التعارف للمطبوعات؛ 2003.
10- للمزيد راجع: محمد باقر الصدر؛ "إقتصادنا"؛ بيروت: دار التعارف للمطبوعات، ط11؛ 1979؛ ص: 303-307 و ص: 678.
11- للمزيد راجع: سيد قطب؛ "العدالة الاجتماعية في الإسلام"؛ القاهرة: دار الشروق؛ ط 18؛ 2013.
12- د. عبد اللطيف محمود آل محمود؛ "التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الإسلامية"؛ بيروت: دار النفائس؛ 1994؛ ص: 79-80.
13- راجع: أبو زهرة؛ "المجتمع الإنساني في ظل الإسلام"؛ بيروت: دار الفكر، 1410/1970؛ ط 2.
14- محمد باقر الصدر؛ إقتصادنا؛ مصدر سبق ذكره؛ ص: 303-307.
15- م.ن؛ ص: 697-700.
16- في الرواية عن الإمام جعفر الصادق(ع): إن الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجهة التي وجهها الله على ثمانية أسهم، يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية، فإن فضل من ذلك شيء رده إلى الوالي وإن نقص شيء ولم يكتفوا كان على الوالي أن يمونهم من عنده حتى يستغنوا.
وفي حديث آخر عن أبي بصير أنه سأل الصادق(ع) عن رجل له ثمانمائة درهم وهو رجل خفاف وله عيال كثير أله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال له الإمام أيربح من دراهمه ما يقوت عياله ويفضل؟ فقال أبو بصير نعم، فقال الإمام: إن كان يفضل من قوته مقدار نصف القوت فلا يأخذ من الزكاة، وإن كان أقل من نصف القوت أخذ الزكاة، وما أخذه منه فضلة على عياله حتى يلحقهم بالناس.
المصدر: محمد باقر الصدر؛ اقتصادنا؛ مصدر سابق، ص: 709.
17- هذا يتماثل مع الحاجات التي تلمح إليها الآية الكريمة: إنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى (طه 118-119)
18- أحمد إبراهيم منصور؛ عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية- رؤية إسلامية مقارنة؛ بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية (سلسلة أطروحات الدكتوراه 66)؛ الطبعة الأولى، 2007؛ ص:340.