الأخلاق الجنسية: محو العفة في الغرب واختلال الغرائز الجنسية
إنّ النظرة الأحادية الجانب إلى القضايا وإغفال الجوانب الأخرى لها تولد أضراراً يصعب تلافيها أحياناً.
فالبحوث والاكتشافات النفسية التي تمت في القرن الأخير دلت على أنّ كبت الغرائز والميول، وبالأخص الغريزة الجنسية، يسبب أو ينتج الكثير من الأضرار وحالات القلق والاضطراب. كما تبين أن لا أساس للمبدأ الذي قبله أكثر المفكرين القدماء والقائل بأنّه كلما أبقيت الغرائز والميول في حالة الضعف فذلك سيفسح المجال لغرائز وقدرات أسمى، وخاصة القوة العاقلة، للبروز والتفتح أكثر والعمل بدون أيّ معوق. فالغرائز التي تكبت ولا يتم إرضاؤها تطوي حوادث غير مدركة وتكلف الإنسانية ثمناً غالياً على صعيدي الفرد والمجتمع. ولأجل إبقاء الميول والغرائز تحت سيطرة العقل بشكل أفضل كي لا تنتج آثاراً تخريبة يجب عند ذلك تجنب كبتها أو جرحها أو عدم إرضائها قدر الإمكان.
إنّ علماء النفس يرون جذور كثيرة من أعراض الإعياء العصبي والأمراض النفسية والاجتماعية والشعور بالحرمان بصورة خاصة، في دائرة الأمور الجنسية. وقد أثبتوا بأنّ الحرمان في كثير من أشكاله يؤدي إلى تكوين العقد عند الإنسان، وهذه العقد تطفح أحياناً على شكل خصال خطيرة من قبيل النزعة إلى الظلم والجريمة والتكبّر على الآخرين والحسد والعزلة والانزواء وإساءة الظن وغيرها من الخصال الرذيلة.
والحقيقة المذكورة أعلاه في موضوع الأضرار الناجمة عن كبت الغرائز تعتبر من أكبر الاكتشافات القيمة في مجال علم النفس وتوضع في مصاف أعظم النجاحات البشرية.
إنّ الإنسان لتعوده على الكثير من الأشياء المحسّة ومعرفته بها يثمن كثيراً الاكتشافات التي تتم في الشؤون الفنية والصناعية وفي مجال استغلال موارد الطبيعة غير الحية.
أمّا تلك الاكتشافات التي تحصل في الحقول النفسية والروحية تقع في مرتبة أقل من ناحية التقييم والتقدير وقلما تجلب انتباه العامة إلى نفسها، ولكن أهميتها في محافل المفكرين تبقى محفوظة في مكانها.
ولو أننا نلاحظ قليلاً أو كثيراً في الحكم الموروثة أو في الآثار الإسلامية بصورة خاصة دلائل كثيرة على الاهتمام بتلك الحقيقة التي طالما استفاد منها معلموا الأخلاق والتربية الإسلامية ولكن الفضل في إثباتها واكتشاف القوانين الخاصة بها يكون للنجاحات والتقدم الحاصل في مجال العلوم في القرن الأخير.
ولنرى كيف تمت الاستفادة من هذا المبدأ، وهل أنّه دخل مجال الاستفادة كالاكتشافات الطبية من قبيل البنسلين مثلاً؟ إنّ تعقيدات المسائل النفسية وتعدّد جوانبها من جانب، وعلاقة الموضوع بميول الإنسان التي تتدخل بصورة أو بأخرى في إعماء البصيرة من جانب آخر، لم تترك مع الأسف مجالاً للاستفادة التامة من هذا المبدأ. بل إنّ المبدأ هذا نفسه أصبح سبباً في ظهور الخلافات، أيّ أنّه يساعد على زيادة ما يكبت الغرائز وإيجاد الآثار النفسية والاجتماعية الخطيرة الناجمة عن هذا الكبت، وضاعف بذلك العقد والتشنجات النفسية.
وقد ارتفعت حالات الأمراض العصبية، والجنون، والانتحار، والجرائم، والإرهاب، والفوضى، واليأس، وسوء الظن، والحسد، والحقد بصورة رهيبة، بسبب تفسير مبدأ عدم كبت الغرائز بإطلاق الحرية للميول والأهواء، أي برفع القيود والحدود والقوانين كافة.
فبعد قرون طويلة من الإرشاد والدعاية ضد عبادة الشهوة باعتبارها منافية للأخلاق وعنصراً للإخلال في الهدوء الروحي والنظام الاجتماعي، وبدعوى عبادة الشهوة تعتبر نوعاً من الانحراف والمرض، ينقلب الأمر فجأة وتتبدل الصفحة، فتصبح مخالَفة الشهوة، والتزام العفة والتقوى، وقبول الحدود والقيود الاجتماعية، عوامل من شأنها إفساد الهدوء الروحي والإخلال بالنظام الاجتماعي، والأنكى من ذلك تعرف المخالفة بأنّها مناقضة للأخلاق والتربية النفسية.
وتتعالى الصيحات لتنادي برفع الحدود والقيود بدعوى أنّ ذلك يساعد على قلع جذور العدوان والحقد. كما تظهر نداءات بنبذ العفة بزعم أنّ النفوس ينالها الهدوء والطمأنينة ويستقر النظام بمحو هذه العفة من المجتمع. كما يطالب بإطلاق الحريات بدعوى أنّ ذلك يؤدي إلى زوال الأمراض النفسية.
طبيعي أنّ مثل هذه الفرضية الخلابة ذات الحلاوة والطلاوة الظاهرة، والتي تقدم من أجل إصلاح الفساد الأخلاقي والاجتماعي، طبيعي أن تجذب إلى نفسها الكثير من الأنصار بالأخص من بين جيل الشباب الأعزب.
ونحن نشاهد في بلادنّا أيّ نوع من الأشخاص يناصرون هذه الفرضية وهم يقولون -أيّ شيء أحسن من أنّ نضع أنفسنّا طوع أوامر قلوبنا، وأن ندع القلوب في خدمة الأهواء والنزوات، فتكون أعمالنا مطابقة للأخلاق الإنسانية، وتكون أسمائنا في قائمة طلاب الأخلاق الاجتماعية، وهذا يحقق إشباع الشهوات كما أنّه في الوقت ذاته يقدّم خدمة إلى البشرية بالإضافة إلى ما فيه من متعة كاملة، كما أنه يصلح النفس، وإن هذه الفرضية هي الشهوة وهي الأخلاق معاً، ولا تبعد عما كان رائجاً من الحب المجاز بين بعض المتشبهين بالصوفية عندنا. فأي شيء أحسن من أن يعاشر الإنسان فرداً مليح الوجه.. وينتفع بجماله ويعتبر عمله هذا سلوكاً يؤدي إلى الله.
إذن ماذا كانت النتيجة؟ إنها واضحة منذ البداية.
فهل زالت الأمراض النفسية؟
هل احتل الهدوء الروحي مكان الاضطراب والرعب؟
كلا، ومع الأسف، فإنّ النتيجة كانت عكس المتوقع، وأضيف شقاء جديد إلى شقاء الإنسانية فأدى ذلك إلى تخلي بعض الأذكياء من دعاة الحرية الجنسية عن أقوالهم، متذرعين بالتفسير والتأويل، والادّعاء بأن لا مفر من قبول الحدود الاجتماعية، والإذعان بعدم إمكانية إشباع الغريزة الجنسية بصورة كاملة من كل المتع، وأنّه لا مناص من صرف الذهن إلى قضايا الفن والفكر الرفيعة، وترويض الغريزة حتى تهتدي إلى هذه الأمور. وقد كان" فرويد" واحداً من الذين أيّدوا هذه الفكرة.
إنّ الأخلاق التي دعى لها "راسل وسُمّيت بالأخلاق الجديدة، هي تلك التي أنتجت قبل كل شيء اضطراب الغرائز والميول، على عكس ما اتهموا به الأخلاق القديمة من إثارة وتهييج الروح فإنّ الأخلاق الجديدة أجدر بهذا الاتهام.
وبرزت في الوقت الحاضر ظواهر اجتماعية خاصة، أو بتعبير آخر مشاكل اجتماعية خاصة جلبت إلى نفسها انتباه علماء الاجتماع وصرفتهم إلى التفكير فيها.
إنّ الشباب في مجتمع اليوم يتهربون من الزواج بشكل ظاهر، كما أنّ قضايا الحمل والإنجاب والرضاعة أصبحت أشياء تثير اشمئزاز المرأة، كما أن النساء أصبحن لا يبدين اهتماماً كبيراً لإدارة شؤون البيت، وإن حالات الزواج التي يتوفر فيها الاندماج الروحي بين الزوجين أصبحت نادرة إلا بين طبقات المجتمع التي تؤمن بالأخلاق القديمة، وقد اتسع نطاق حرب الأعصاب إلى درجة أدت إلى ظهور الاضطراب الروحي بين الأفراد بشكل غريب وبارز.
وتريد جماعة أن تعزوا ذالك الاضطراب الروحي إلى الآثار القسرية للثورة الصناعية لتسد -على حد ظنها- طريق العودة إلى الأخلاق القديمة، بينما لا ترتبط هذه الأمور بالحياة الصناعية أو زوال الحياة الزراعية عن المجتمع ارتباطاً وثيقاً.
إنّ ظهور مثل هذه الأعراف نابع عن ما يسمى بالثورة الفكرية وهناك أناس معدودون يتحملون وزر هذا الشقاء الذي تعاني منه البشرية.
إن "راسل" في أقواله كثيراً ما يتورط في نوع من التناقض، فهو في حين يدافع أحياناً وبشدة عن الحريات الجنسية، كما نقلنا عنه بعضاً من أقواله في هذا المجال في الصفحات السابقة، وأحياناً يذعن مرغماً إلى سلسلة من الحدود والقيود الاجتماعية في العلاقات الاجتماعية. ولأجل تلافي الأطناب نمتنع عن ذكر تلك الأقوال في هذه العجالة.
وفي الواقع إنّ مسألة إشباع الغريزة ومسألة عدم كبتها يشكلان موضوعاً واحداً، والحرية الجنسية ورفع القوانين والمعايير الأخلاقية يشكلان الموضوع الآخر. وإن إشباع الغريزة لا يتنافى مع مراعاة مبدأ العفة والتقوى، بل في ظلال هاتين الخصلتين فقط يمكن إشباع الغريزة إلى حد كاف والحد من التهيجات التي لا طائل تحتها ومنع حالات القلق والشعور بالحرمان والكبت النابع عنها. وبتعبير آخر إنّ تربية الاستعدادات هي غير مسألة إطلاق الحرية للأهواء والنزوات والآمال والأماني اللامتناهية.
إنّ ما يميز الإنسان عن الحيوان نوعان من الميول والأماني التي تكون عند البشر فقط وهما الأماني الصادقة والأماني الكاذبة. والأماني الصادقة تعبّر عن الطبيعة الفطرية للفرد، فهو يمتلك ميولاً طبيعية تدفعه نحو حماية ذاته، وميولاً لكسب القوة والسيطرة ونمو الأمور الجنسية والأكل وما شابه ذالك. ولكل واحد من هذه الميول حكمة خاصة به. إنّ هذه الأمور كلها محدودة ولكنها تصلح أن تكون أرضية لأمنية كاذبة. فالميل والرغبة إلى أنواع الطعام عند الإنسان مشهودة ومعروفة للجميع.
وفي بعض الميول والغرائز ومنها الغريزة الجنسية تظهر الأمنية الكاذبة على شكل عطش أو نَهَم روحي لا تعرف طريقاً للقناعة والانتهاء. وفي حين يمكن إشباع الغريزة الطبيعية يستحيل ذلك في الأمنية الكاذبة وبالأخص إذا كانت على صورة عطش أو نَهَم روحي.
إنّ خطـأ الذين اقترحوا نظام الأخلاق الحرة، لغرض الحد من كبت الغرائز وتنمية الاستعدادات، هذا الخطأ نابع عن تجاهل هؤلاء للفرق الخارق بين الإنسان والحيوان، ولأنهم لم ينتبهوا إلى أنّ الميل اللامتناهي متأصّل في طبع الإنسان. فالبشر سواء في مجال القضايا المالية والاقتصادية، أو السياسية والحكم والتحكم في الآخرين، أو في أمور الجنسية، لو فسح له المجال في المضي قدماً في هذه المجالات لأصبح يسير دون أن يوقفه حد مطلقاً. لقد توهموا بأنّ حاجة الإنسان إلى الجنس كحاجته الطبيعية إلى التبول وإفراغ مثانته. ولو أنّ حبس الإدرار في المثانة ينطوي على أضرار كثيرة من وجهة نظر الطب ومن الناحية الصحية، إلا أنّ إفراغها ليس مقيداً بحدود أو ظروف خاصة. وإذ يصادف الإنسان في طريقه في الشوارع والأزقّة أماكن مناسبة ونظيفة ومجانية للتبول ينتبه اليها إذا كان محتاجاً إلى إفراغ مثانته ولا تثير انتباهه إذا لم يكن بحاجة إلى ذلك.
ومن الجهل المطبق حسبان الغريزة الجنسية أو غرائز التسلط والتملك عند الإنسان من نوع الحاجة إلى التبول، أو أن يصب الاهتمام فقط في جوانب حرمان الغريزة وعدم إشباعها وتهمل الأعراض الغريبة والمذهلة اللامتناهية للجانب الأخر.
فإذا قلنا أن مجال احتياج الإنسان محدود بالنسبة إلى غرائز التسلط والتملك والجنس أو أنها (أي هذه الغرائز) قابلة للإشباع والانطفاء، نكون بذالك قد نفينا الحاجة إلى كل هذه القوانين الموضوعة في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية؛ لأن محدودية الغرائز وإمكان إشباعها لا تخلق حاجة أو دافعاً لتجاوز الحد والذهاب إلى ما بعد حالة الإشباع، وبذلك لا تكون هناك حاجة إلى قوانين مانعة، أو محددة، أو مقيدة في هذه المجالات.
ولكن ولما كانت الحاجة موجودة وملحة للقوانين والحدود والقيود السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذالك الحاجة إلى التحلي بخصلتي العفة والتقوى في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكذلك يجب أن تكون هناك حاجة إلى الأخلاق التي تحدد العلاقات الجنسية وإلى العفة والتقوى في هذا المجال.
المصدر: مرتضى مطهري، الضوابط الخلقية للسلوك الجنسي من خلال نظرتي الإسلام والغرب. ط1، دار الرسول الأكرم(ص) للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1408 هـ- 1988م.