الأخلاق الجنسية: الانضباط الجنسي ونمو الشخصية من خلال غريزة "الحب"
صحيح ومنطقي أن يحكم مبدأ الحرية والديمقراطية القضايا الأخلاقية كما أنهما يحكمان المسائل السياسية. وهذا بمعنى أن يتعامل الإنسان مع غرائزه وميوله كحكومة ديمقراطية أثناء تعاملها مع جماهير الشعب بالصيغ العادلة. ولكن ثمة جماعة يحلو لها الخلط إما عمداً أو عن طريق السهو بين موضوعي الديمقراطية والفوضى وهذا أثناء تحدثهم عن القضايا الأخلاقية، أو حين يضطر أحدهم إلى إصدار الحكم على سلوكه الشخصي. وحديث الإسلام عن الأخلاق الجنسية يطابق ما يقبله عالم اليوم في الأخلاق السياسية والاقتصادية.
هناك علاقة بين الأخلاق السياسية وغريزتي التسلط والتعالي على الآخرين، كما أنّ الأخلاق الاقتصادية ودافع غريزة الإكثار في التملك لا يخلوان من علاقة فيما بينهما. وعلى هذا فإنّ الأخلاق الجنسية ترتبط أيضاً بالغريزة الجنسية. ولا فرق بين هذه الأقسام الثلاثة من حيث احتياجها للحرية من جانب والانضباط الصارم من جانب آخر. ولا يعرف سبب سخاء أنصار الأخلاق الجنسية الجديدة عند تحدثهم عن الأخلاق الجنسية.
نمو الشخصية من خلال الغريزة الجنسية:
يعتبر "الحب" واحداً من القضايا المهمة للأخلاق الجنسية. وقد أفرد الفلاسفة ومنذ القدم. كما نعرف، باباً خاصاً به في كتاباتهم وانبروا للتحقيق في حقيقة هذه الغريزة. وجاء"ابن سينا" بأطروحة خاصة في "الحب" ورأى الحكماء أنّ الحب يجري في كل شيء وقالوا بأنّ حب الإنسان للانسان ظاهرة تتجلى فيها الحقيقة الكلية.
أما الشعراء والأدباء فإنهم وبالرغم من اعتبارهم الشهوة خصلة حيوانية خبيثة، لكنهم ذكروا الحب بألفاظ التمجيد والفخر وذهبوا أبعد من ذلك بترجيح الحب على العقل عند المقارنة بينهما. ويشهد بذلك قسم كبير من أدبنا بصورة عامة.
إنّ الحب الذي أصبح موضع التمجيد ووصف بأنه خارج عن مقولة "الشهوة" ليس هو الحب الإلهي فقط، بل إنّ حب الإنسان للانسان في بعض أشكاله اعتبر شيئاً سامياً لا يمت إلى مقولة "الشهوة" بصلة أيضاً.
وأمام هؤلاء سواء في السابق أو حاضراً يوجد أناس رأوا الحب من جانبه المبدئي والشكلي ومن حيث هدفه على حد سواء بأنه نوع من الغليان الجنسي. وهؤلاء لا يؤمنون ولا يعترفون بقدسية الحب. من جانب آخر قال هؤلاء بأنّ استعمال كلمة "حب" فيما يخص علاقة الفرد بالله يعد أمراً خارجاً عن حدود الأدب واللياقة والعبودية.
والمجموعة الأولى يقسّمون الحب إلى أنواع منها حب الإنسان للانسان الذي يقسموه إلى نوعين أيضاً أحدهما حب جسماني والآخر روحي أو بتعبير آخر (حيواني وإنساني). ولكن المجموعة الثانية لا ترى للحب أقساماً مختلفة، بل إنهم يرونه والشهوة شيئاً واحداً، بل يرونه الشهوة نفسها.
وظهر هذه الأيام اعتقاد ثالث عن الحب بين الفلاسفة الذين يرون أن منشأ كل حب يكمن في أمر جنسي، وأنّ هذا الأمر يغير شكله تدريجياً في ظروف خاصة، ويفقد خواصه الجنسية، والشهوانية، ويتلبس بقالب روحي ومعنوي.
إنّ هذه الفئة من الفلاسفة تقول بأنّ الحب ثنائي الجانب من حيث الحالة والشكل والهدف ومن حيث نتائجه وليس من حيث المنشأ والمبدأ. وهؤلاء لا يرون الغرابة في أن يأخذ أمر مادي قالباً وشكلاً معنوياً، لأن في اعتقادهم ليس هناك جدار حائل بين الماديات والمعنويات. وفي هذا المجال يقول واحد من ذوي الرأي بأن كل أمر معنوي له أساس وقاعدة طبيعية مادية وأن لكل أمر مادي امتداداً معنوياً(1).
ولسنا الآن بصدد الدخول في هذا البحث النفسي الفلسفي العميق، أو أن ننبري لنقل أو نقد الاعتقادات والآراء الكثيرة الواردة في ذلك قديماً أو حديثاً. ونكتفي هنا بالقول بأنه سواء أكانت للحب جذور غير جنسية أم لم تكن، وسواء أكان باستطاعة الحب تغيير شكله وحقيقته والتلبس بقالب معنوي وروحي طبقاً للنظرية الأولى، أم لم يكن باستطاعة الحب ذلك فإننا لا يمكننا التردد بأنّ الحب من حيث نتائجه النفسية والاجتماعية وما يحدثه من تغييرات عند الإنسان، أو في مجال تأثيره في خلق الإبداعات في مجالي الفن والذوق الاجتماعيين، يختلف كثيراً عن تلك الغريزة الشهوانية الحيوانية البسيطة التي لا هدف لها سوى أن تجد من يشبعها ويرضيها.
إنّ كل حالة شهوانية تكون مقرونة بالأنانية إذا استمرت بالاحتفاظ بشكلها وطابعها الشهواني. وفي مثل هذه الحالة لا يرى الإنسان الشهوة غير أداة أو وسيلة، أما في حالة الحب فتزول الأنانية ويصبح المحبوب أعلى وأعز من روح المحب التي لا يتوانى في فدائها للمحبوب، أي يتحرر الإنسان المحب من قيود الـ "أنا"، أو في الأقل تندمج "أناه" في "أنا" المحبوب، ولهذا السبب أطلقوا على الحب أسماء "المربي"، و"المعلم"، و"الملهم"، و"الكيمياء".
وفي هذا يقول الشاعر الإيراني "سعدي" ما ترجمته:-
من تعلق قلبه بحبال الحب
وجب عليه السعي لإرضاء المحبوب
ومن لم يصبح عاشقاً لا رجولة فيه
فالفضة لا تصبح نقية إذ لم تحترق
و"حافظ الشيرازي" الشاعر الإيراني الآخر يقول في هذا أيضاً ما ترجمته:-
تعلم البلبل من فيض الورد الكلام ولولاه لم يكن حشو منقاره كل هذا الغزل. والأدب العالمي مليء بمثل هذه التعابير.
إنّ الحب لاقى التمجيد والمديح من أهل الغرب والشرق، ولكن الفرق هو أنّ الغربيين مجّدوه لما فيه من حلاوة ولذة أثناء الوصال وربما لأنه يقضي على الأنانية الفردية التي طالما عكّرت صفو الحياة وسبّبت العزلة الروحية لصاحبها، فالحب عند أهل الغرب يؤدي إلى توسع آفاق شخصين فيحصل الاندماج فيما بينهما فيعيشان جنباً إلى جنب محاولين جني ما أمكنهما من ثمار الحياة اللذيذة.
أما الشرقيون فكان تمجيدهم للحب بسبب ما يتصف به من مرغوبية وقدسية تهب الروح الشخصية والعظمة، كما أنه الملهم والكيمياء، وهو عنصر يكمل الشخصية ويهبها النقاء والصفاء. ولم يجد أهل الشرق الحب لكونه يؤدي إلى الوصال، أو لأنه يمهد لحياة تملأ الروح الإنسانية بالرقة واللطافة. إنّ الشرقيين يقولون بأنه لو كان حب الإنسان للانسان مقدمة لشيء، فهو مقدمة لمحبوب أسمى وأرفع من الإنسان. ولو كان مقدمة لاتحاد روحي، فمقدمة الاتحاد توصل إلى حقيقة أسمى مما يسعه الأفق الإنساني(2).
وخلاصة القول إن الشرقيين والغربيين اختلفوا في نظرتهم إلى الحب كاختلافهم في كثير من المسائل الأخرى. فالغربيون في حين أنهم ينظرون إلى الحب بأنه ليس في مرحلته النهائية مجرد لذة أو شهوة بسيطة ويعطونه صفات الرقة والعذوبة الروحية، لكنهم لم يفصلوه عن قضايا الحياة، بل وصفوه بأنه إحدى هبات الحياة الاجتماعية. بينما الشرقيون يبحثون عن الحب في أمور أسمى من الأمور العادية للحياة. فلو قبلنا النظرة القائلة بأن الحب من حيث الأساس والشكل والهدف والنتائج لا يعدو عن كونه الغريزة الجنسية نفسها، فلا يمكن بذلك إفراد فصل خاص للحب في موضوع الأخلاق الجنسية، بل يكفي ما قيل في هذا المجال عن ضرورة أو عدم ضرورة تربية الاستعداد الجنسي.
أما لو فصلنا الحب عن الغريزة الجنسية من حيث الأصل، أو في الأقل من حيث الشكل والآثار النفسية والاجتماعية فلا مناص عند ذلك من تخصيص فصل منفرد لموضوع ضرورة أو عدم لزوم تربية الاستعداد المذكور. ولا يكفي وجود حاجة ملحة إلى إشباع الغريزة الجنسية أن يباح الحب بصورة مطلقة. كما أن إشباع هذه الغريزة لغرض تربية هذه الحالة نصف المعنوية ليس كافياً، والحرمان من هذه الهبة من الممكن أن تكون له أعراض لا يكفي الإشباع الحيواني لغريزة الجنس علاجاً لها.
ويقول "راسل" في كتابه "الزواج والأخلاق": إنّ الذين حرموا من الاندماج الصادق والعميق والعلاقة الصاخبة للحب الثنائي الجانب، في الحقيقة إنّ هؤلاء لم يتذوقوا حلاوة الحياة، وسيؤدي بهم هذا الحرمان بصورة لا إرادية إلى التطبع بصفات القسوة والحسد والعدوان".
جرت العادة على القول بأن ثمة عداوة بين الدين والحب، ويفسر هذا العداء وحسب العادة أيضاً بأنه: طالما أن الدين يرى أنّ الحب والشهوة الجنسية هما شيء واحد، وينظر إلى الشهوة على أنها شيء خبيث ذاتياً، لذلك فالدين بالنتيجة يرى الحب شيئاً خبيثاً أيضاً.
وكما نعرف إنّ هذه التهمة لا يمكن أن تصدق في حق العقيدة الإسلامية، حين صحتها بالنسبة، للديانة المسيحية. إنّ الإسلام لا يرى أي خبث في أصل اللذة الجنسية فكيف يعتبر ذلك في الحب الذي ما زال موضوع بحث الباحثين في هل أنه هو الشهوة الجنسية أم شيء يختلف عنها.
إن الإسلام يحترم ويقدر الحب الصادق القائم بين زوجين، بل إنه يؤكد على ضرورة توفره في المحيط العائلي. كما أنه يوصي بتدابير في سبيل تحقيق الاندماج الروحي وتقويته وتعزيزه ووحدة المشاعر بين الزوجين بشكل كبير.
والنقطة التي لم نغفلها هنا هي أن سبب إبداء بعض معلمي الأخلاق معارضتهم للحب عبر نظرتهم للأخلاق، أو اعتبارهم إياه أمراً غير أخلاقي، السبب هو ذلك التنافر الموجود بين الحب والعقل، فالحب يحوي قوة ونفوذاً عظيمين بحيث يشل حال سيطرته على شخص معين سلطة العقل لديه. والعقل قوة مطيعة للقانون والنظام بينما الحب يميل إلى ما يسمى بالفوضى ولا يحدّه أو يقيده أي قانون، وهو قوة ثورية لا تعرف الانضباط وتتوق دائماً إلى الحرية والانعتاق، لذلك فالأنظمة القائمة على أسس عقلية لا تستطيع أن تجوز الحب. فهي تعتبر الحب أمراً لا تجدر التوصية به أو إباحته. وإذا تورط شخص بالحب مصادفة ولأسباب خارجة عن إرادته أوصت هذه الأنظمة فقط بما يجب أن يفعله هذا الشخص لكي يستغل هذا الحب لصالحه ولكي يتفادى آثاره السيئة.
إن موضوع المهم في هذا الفصل من البحث هو ذلك الذي يتناول علاقة "الحب" بدافع "العفة" هل ينمو الحب في مفهومه الإيجابي السامي في أجواء حرة بصورة أفضل، أم أن الحب الرفيع هو والعفة الاجتماعية توأمان؟ وهل أن الأجواء التي تظهر فيها المرأة بزينة رخيصة مبتذلة تكون قاتلة للحب الرفيع؟ وهذا موضوع سنتطرق إليه في الفصل القادم من هذا البحث، والذي هو الفصل الأخير.
الهوامش:
1- كتاب "لذات فلسفة"، ص 135.
2- كتاب " إلهيات أسفار".
المصدر: مرتضى مطهري، الضوابط الخلقية للسلوك الجنسي من خلال نظرتي الإسلام والغرب. ط1، دار الرسول الأكرم(ص) للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1408 هـ- 1988م.