قصة أم النبي موسى (ع): يوكابد(1)
في أرض الحكايات، ووادي القبور العملاقة، قد تبدأ قصصٌ وتُدفن أسرار... وكنوزٌ ظلّت، على مدى عصور، لم تكتشف... حتى جاء من ينبش التاريخ، ويمجّد صخوراً وهياكل، أخفت سراً لم يُدرك، هو أعظم من مجرّد عبودية بلهاء لآلهة الأساطير، سراً خُطّ بقلم الإنسان الحق، خليفة الله، الذي رسم الحياة، وبثّ الروح الإلهية لتسموَ رغم التلال المتراكمة.
وعبر الكلمات والأصوات المختبئة، ما لنا إلاّ أن نقتنص من ذلك العهد السحيق؛ قصةً أو امتداداً لوجود تضيق به الكتب، ولا يسعه احتمال القلوب ولا جداريات الألوان في أعماق كهوف الأهرامات.
هناك، في أرض الكنانة، عند ضفاف نهر النيل، شرقي الدلتا(2)، وفي قلب النهار، حيث يبلغ النشاط ذروته، وتشتد حركة القوارب ذهاباً وإياباً؛ تنقل نتاج المزارعين وفرح عملهم المضني. في ذلك المكان بالذات، تختلط صنوف المجتمع المصري، بطبقاته المتوسطة والفقيرة والأشدّ فقراً، ويختلط التجار والعمال المصريون بآخرين من بني اسرائيل، اُعتبروا في تلك الحقبة، ومن قبل السلطة الحاكمة، طبقة متدنية، وفئةً لم تخرج من حدود رعية الملك(3)، لكنّها فقدت أقلّ ما يمكن أن يًقال عنه حقوق إنسان.
ومن بين مئات الوجوه، يظهر شاب في مقتبل العمر، بدا عليه الانهماك الشديد بالعمل، وهو يملأ قاربه بالغلات وأكياس الحنطة. كان هادئاً في حركته، وتبدو على ملامحه سيماء العنفوان, ملابسه بسيطة ومتواضعة لكنها لم تكن رثة، بل عكست صلابةً وعزة ظهرت بصورة أشدّ من بين عينيه.
أنهى عملية النقل، فأفلت حبل القارب، وبدأ يبعده عن الشاطئ، لكنّه لمح فجأة فتاةً صغيرة، تقف على الضفة تنظر إليه بابتسامة رقيقة, ووجهها يضيء وكأنه يغالب أشعة الشمس الخارقة في وقت الظهيرة، وكانت عيناها السوداوتان تبثان بريقاً نضراً وملامح طفولية حيث لم تتعدى العاشرة من عمرها.
ابتسم لها وأوقف حركة القارب بمجذافه، ثمّ بادرها قائلاً: "ماذا تفعلين هنا يا صغيرتي؟"
أجابته، وفي عينيها رجاء عذب: "حيّاك الله يا خالي، هل تسمح لي أن أرافقك إلى الضفة الأخرى من النهر؟".
قال لها، متحمساً: "سيسعدني ذلك كثيراً، فأنا بحاجة إلى رفيق سفر، لكن عزيزتي كلثم(4) هل استأذنت أمك؟ قد نتأخّر".
- "نعم، قد فعلت".
أدنى القارب من الضفة، ثمّ ساعدها على الصعود إليه.
اندفع القارب مبتعداً عن الشاطئ، وعن ظلال الأعمدة الضخمة وضجيج المزارعين. وكلما كان يقترب من مركز النهر، كان الهدوء يتسلّل إلى مفردات المحيط، ويمنح الجوّ سحراً من ترانيم النسائم وارتعاد فرائص المياه في مواجهة حركة المجذاف المستمرة.
جلست كلثم على حافة القارب، متأملة بصمت, وأغرقت كفّها في الماء، فانبرى يقاوم التيار ويقلّب الصفحات المنسابة... وتتالت المعاني في عقل الصغيرة، تبحث عن مخرج للتبلور، ولمّا أعيت الحيل بتساؤلاتها واجتماع أفكارها، نظرت إلى خالها وكأنها تنتظر شيئاً منه. ولم يكن يعقوب بدوره، قد أبعد نظره عنها...
فقال لها: "هل يعجبك يا صغيرة قلب النهر وصمت الأرجاء؟ أم يشغلك أمرٌ آخر؟".
ابتسمت كلثم لالتقاط خالها بعضاً من أفكارها، لكنّها لم تستطع أن تخفي نبرة حزينة اهتزّت من بين الكلمات: "أحبّ الحياة يا خالي العزيز، أعشق جمال النيل وانسياب مياهه، وصفاء سماء بلادنا، وأكثر من هذه الأشياء، أحب الناس لكني أكره أن أراهم يتألّمون ويعانون العذاب"
سألها: "وهل حدث شيء ما؟".
قالت: "نعم، البارحة أخذ جنود فرعون جارنا لاوي إلى السجن".
هزّ رأسه وتأفّف في تضجّر، ثمّ قال: "كنت أعلم أنّهم سيفعلون، لقد طلبنا منه أنا وعمران أن يأخذ حذره ولا يواجه غرورهم وغلظتهم بعفوية ودون تخطيط، أرجو أن لا يصيبه مكروه، إنّه رجل مؤمن حقّا، عندما نعود سأرى ما يمكننا فعله ووالداك والآخرون". سكت برهةً، ثمّ سألها: "ألم يفعل أحدٌ شيئاً؟".
أجابت كلثم: "أبي في عمله، في الجنوب، وقد حاولت أمي أن تستثير همة الجيران رجالاً ونساءً كي يقفوا في وجه الجنود ويمنعوا اعتقال لاوي لكن لم يتحرّك أحد، وذلك خوفاً من بطش فرعون".
غضب يعقوب والتفت، متألّماً، إلى جهة الغرب، حيث تنتصب المدينة... كأنّه يحاول أن ينسج من هذا الأفق عزاءً له، ويستشرق أملاً رغم يأسه من قومه الذين لا تحرّكهم كل السياط وتتالي صفعات المستكبرين.
تابعت كلثم كلامها: "ألسنا، نحن الإسرائيليون، أحفاداً للأنبياء العظام عليهم سلام الله، وأمام همّتهم تهاوت كلّ الأساطير... لماذا
إذاً يرضخ البعض منّا، اليوم، للظالمين الذين يسلبونهم كلّ شيء حتى الكرامة؟".
قال لها: "عندما يتعلّق قلب الإنسان بالدنيا ويعشقها، يفقد أشعة النور ويغفل عن هدفه الأسمى، ويتحوّل شيئاً فشيئاً إلى عبد ضعيف، لا توقظه نداءات الرحمة المتكررة، وتصبح نفسه، قبل جسده، معلّقةً بالأغلال، لا تجد إلى الانفكاك عنها من سبيل".
"كيف الطريق إذاً إلى الخلاص؟".
"إنّه بيد الله خالق الأكوان، الذي سوف لن يتركنا، بل يرسل لنا نبياً منقذاً وهادياً، لكن المهم أن نتمسك بحبائل رحمته، ونسلك دوماً درب الأحرار."
قالت كلثم: "أمي تقول لي أنّه إذا طهرنا قلوبنا وغسلناها بماء الرحمة، وإذا تألمنا لكل إنسان، قد نبلغ قرار الوجود وننظر إلى عرش السماء، صحيح أنّي لا أعرف كل الأسرار وما زال أمامي الكثير لكي أدرك حقيقة كل الأشياء، لكن أرجو من الله حبيبي أن يهدينا إلى دربه الأجمل ويغمرنا بلطفه".
ابتسم يعقوب وجعل يتأمّل وجه الصغيرة، وسادت لحظات من سكينة، لم تقطعها إلاّ أصوات العمال عند الشاطئ.
"ها قد وصلنا!"، قفز يعقوب إلى الماء وبدأ يشدّ القارب، فأقبل بعض الرجال يساعدونه. نظرت إليهم كلثم بأسى، وتمتمت في سرّها: "إنهم أناس خيّرون، ويملكون القوة على فعل أشياء كثيرة... يا رب أوقظ الضمائر النائمة حتى نصبح مستعدين."
في مكان ما شمال مدينة بيرعمسيس(5)، حيث تتمركز أحياء الإسرائيلين، تتكدّس مئات الأكواخ والبيوت الصغيرة والتي شحبت جدرانها فلم تعد تألف إلاّ ألوان العناء والالتصاق بالأرض، فهي تعاني كسكانها مرارة الجفاء الذي أصاب أوراق الضمائر بالذبول.
لكنّ غبار الصحراء لم يستطع أن يخفي، حتّى في وضح النهار، قامة النوافذ المضيئة، الزاهرة بعبق لا يندرس ولا تزيله الأيام.
عند إحداها، بل أشدّها إزهارا، وقفت يوكابد، تراقب اصطكاك الحجارة تحت أقدام الصبية في الأزقة، وقفت وفي عينيها تختلط كل المعاني، لا خلط عشواء، إنّما بانسجام رسم ملامح شخصيتها الطيبة، وعنفوانها الساحر، لتكون مختلفة عن كل ما حولها؛ وكأنّها طيف ملكي تنزّل من عروش المثل ومنابع الجمال.
نظرت بحنان إلى مجموعة أطفال تلاعب قططاً ضالة وتلاحقها، وكانت تراقب بدقة طفلها الصغير هارون، وهو بعد في الثانية من عمره، يحاول أن يجاري الآخرين في اللّعب، وهو لا يعبأ بالقطط قدر اهتمامه بفرحة الركض ولذة الاجتماع.
وطلّت الصبية الصغيرة، رأت أخاها، ركضت خلفه وأخذته في حضنها، ثمّ أسرعت معه بشوق إلى حضن آخر ينتظرها، دوماً، وذراعين تفتحان لفيض من حب يٌستلهم من أبواب علوية، ويسيل بعذوبه أين منها ريح الربيع، ورقة مياه النيل.
وكأنّها لحظات من ذهب، بل أغلى من الجواهر، تلك التي تقضيها على صدر أمّها، تقبّل أنفاسها الدافئة تعدّ نبضات الثواني المتراكضة، وهمس الكلمات الرحمانية...
دخلت يوكابد المنزل ومعها ولداها، وفي حركة سريعة، ودون انتباه ابنتها، أخذت شيئاً من على منضدة خشبية، وأخفته وراء ظهرها، ثمّ نادتها. التفتت الصغيرة ونظرت إلى والدتها فلمحت ابتسامة لذيذة زيّنت وجهها وكأنّها تخفي أمراً ما.
طلبت يوكابد منها أن تحذر ماذا تخبّئ لها، فحاولت كلثم أن تلتف حول أمّها وأن تسترق النظر، لكن دون جدوى ، فهي لن تغلب أمّها في فنّ المداعبة. ضحكت يوكابد وأخرجت ثوباً زاهياً، قد طُرّز بطريقة منمّقة، وقالت لها: "هذا الثوب لك، وقد حكته بعناية حتّى يناسبك، وقد عطّرته بقبر يوسف الصدّيق عليه سلام الله"، أخذته كلثم فرحة وقالت: "لكنّه غالي الثمن يا أمي".
أجابتها بحنوّها البالغ: "ليس بأغلى من حبيبتي"، وحوت بكفيها وجنتي ابنتها، أخذت تحدّق بها ثمّ قالت: "انظري إلى نفسك؛ لقد كبرت وأصبحت صبية جميلة، لقد آن لك أن تهتمي أكثر بعبادتك، تعبرين الطرق وتكتشفين كلّ الأبواب، وعندها ستُفرش لك سبل رحمة الله، سهلة، غضّة، وسيمنحك ربّك حبّه ورضاه".
حضنت كلثم أمّها وقبّلتها وقالت بحماسة: "سأرتديه، وأكون جميلةً في محرابي"، ثمّ ركضت مسرعةً لتلبسه. ابتسمت يوكابد، وهي فرحة بابنتها، سعيدة لرؤية تحقق وعد الله الذي أحسته عندما أسلمتها له عند ولادتها، كانت قلقةً من أن تقصّر في تربية طفلتها، لكن الله لم يتركها بل رافقها في كل الظروف وكانت تشعر، وهي تحضن الصغيرة، بدفء رحمة الله الواسعة تحضنها وتغمرها، فتشعر بالطمأنينة والسكينة. وضعت يدها على قلبها تتحسّس الكرم الإلهي، وهي واثقة بأنّ حياتها سوف لن تعرف ألم الضياع والحيرة، وردّدت برقة ترنيمة الشكر والعرفان.
بين إطلالة الصباح واستئذان الشمس عند المغيب، تنسكب سلسلة الأيام، وتسمح للعالم بأن يأخذ مكانه في التجوهر والصيرورة الأبدية.
وبعيداً عن كلّ ذلك، ترى بني الإنسان يأنسون بتكرار الأزمنة تحت وطأة التقليد والضلال والاستسلام المرّ. فالنفوس المعتادة على القهر لا تعرف غيره من معاني ولا تبحث إلاّ عمّا يملأ أوقاتها لكي تنقضي، ويحلّ مكانها الفراغ القاتل.
أمّا النفوس الطاهرة، فقد لا تفهم إرادة الجمود، بل لا تعرف سوى التجذّر في أعماق الكون، واكتشاف القوانين المختبئة، ولها مع كلّ لحظةٍ حالةٌ للتجدّد، وفرحٌ بالتغيير...
لذا قد ترى طيور الغيم تحلّق فوق بيوت الطيّبين، لتحمل معها أخباراً عن أناس عاشوا في الخلق بأجسادهم، وأرواحهم تسبّح في الملأ الأعلى.
تلك هي حال يوكابد التي لم تكن حياتها إلاّ محراباً رحباً يمتلأ بكلّه بروح التسبيح والتقديس والالتفات نحو الله. لم تكن تعرف لصلاتها انفصالاً عن اللحظة المعاشة، والساعات المتتالية على امتداد النهار، تجلس أمام مغزلها تحيك الألوان، وتنسج بكلّ حركة كلمة "أحبك" يهمس بها القلب، وينظر نحو السماء.
في هذا المكان الضيّق بمساحة النظر، تمتدّ أمامها الساحات، وتتجدّد المعرفة ويتحقّق المستحيل، وينهض إنسان يتألّم لارتعاش الخلائق، وابتلال الصدور بالدموع.
جلست يوكابد أمام ظلال نافذتها، تستقبل النسائم الخريفية، تفكّر في طفلها الذي في أحشائها، والذي ينتظر أن يولد ويأخذ حظّه من الوجود. كانت سعيدة، تشعر بأنّ الأرض والفضاء لا يمكن أن يسعا أفراحها، خاصةً وأنّها منذ حملها بهذا الطفل، شعرت بعوالم واسعة تفتّحت لها، وأنّ صدرها أصبح منشرحاً أكثر من ذي قبل، ويمكن أن يستوعب كلّ الهموم فيزيلها ويمحي آثارها.
ومذّاك أطلّ قلبها أكثرعلى ملكوت الأشياء، فأصبحت تسمع بأذنه كلّ ما حولها، وقد كانت قبلاً تحسّها، وكأنّ الأكوان كلّها مشغولة بتسبيحتها الأبدية لله، والسماء لا تتوقّف عن إرسال فيض نوراني يغمر العالم بالحب.
أنهت عملها، والتفتت إلى طفلها هارون بعد أن ألحّ عليها في جذب اهتمامها، حملته بين أحضانها وأخذت تداعب شعره، وتحدو له حداءً عذباً، فاطمأنّ الصغير وغفا على صدرها.
بينما هي كذلك إذ سمعت جلبةً وصراخاً شديدين، يصدران من مكان قريب، وضعت طفلها على السرير، تدثّرت بخمارها، وأسرعت في الخروج من المنزل، رأت جنود فرعون يخرجون من بيت جيرانها؛ شاوُل وسيرين، فأدركت ما حدث، لذا ألقت إلى الجنود نظرات غاضبة، مهيبة، حوّلت استهتارهم إلى هروب خائر، وأسرعوا في الخروج من الحي.
دخلت الدار فوجدت مًريّا بنت سيرين، منهارةً على الأرض، وعندما رأت الفتاةُ يوكابد أسرعت إليها، وطلبت منها أن تدرك أمّها، فقد نفّذ الجنود إرادة الطاغية؛ قتلوا أخيها المولود وضربوا أمّها على بطنها، ففقدت الوعي.
أسرعت يوكابد ورمت بنفسها على المرأة، تحاول أن تسعفها وتضمّد جروحها، رأت طفلها وهو غارق بدمه، فلم تستطع أن تحبس عبرتها، حضنتها وأخذت توقظها، فأفاقت بصعوبة وبمجرّد أن وقع نظرها على الطفل، بدأت بالصراخ وهي ذاهلة عن كلّ ما حولها، وهرع الجيران إلى منزل المرأة المفجوعة، لكن لم يعد بإمكانهم تقدمة أيّ شيءٍ لها سوى دفن الطفل الذي لم يره أبوه، فقد مات تحت وقع سياط جلاّدي هامان وفرعون.
في ذلك اليوم، كانت يوكابد آخر من غادر منزل المرأة، بعد أن تأكّدت من سلامتها، وأوصت ابنتها ذي الخمسة عشر ربيعاً بما يخفّف من وطأة الألم عن أمّها، خرجت وهي ممسكةٌ بعبرتها، متوجّهةً إلى الله بقلبها تدعو على الظالمين وتطلب النصرة والفرج.
الهوامش:
1- يوكابد اسم والدة النبي موسى (ع)، ولها أسماء أخرى: يوخاند، أناخيد. يراجع: الطبري، محمد جرير: تاريخ الطبري، ط5، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1989م. ج1، ص271.
2- يراجع: مهران، محمد بيومي (د): دراسات تاريخية من القرآن الكريم. ط2، دار النهضة العربية، بيروت، 1988م، ص87- 88.
3- يراجع: (م.ن)، ص166.
4- اسم أخت نبيّ الله موسى (ع) ولها أسماء أخرى: كلثمّة، كليمة. يراجع: المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار. ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983م. ج13، ص16.
5- مدينة بيرعمسيس (قنثير)؛ كانت تقع على ضفاف أحد فروع نهر النيل، حيث سكن بني إسرائيل في عهد رعمسيس الثاني. يراجع: مهران، (م.س)، ص303- 304.
المصدر: مجلة نجاة، العدد 17- 18.
ميسون رضا.
اترك تعليق