قصة أم النبي موسى (ع): يوكابد (2)
انتهت الحلقة الأولى بدخول جنود فرعون إلى بيت شاوُل وسيرين واعتقالهما... فسمعت يوكابد صراخاً شديداً، دخلت إلى دارهما، فوجدت مريّا بنت سيرين منهارةً على الأرض تطلب منها أن تدرك أمّها التي فقدت وعيها، نتيجة الضرب الذي تعرضت له من جلّادي هامان وفرعون، وإسقاط جنينها.
أسرعت يوكابد تضمّد جروح المرأة التي فُجعت بوليدها، وتخفّف عنها ألمها وحزنها... إلى أن تأكّدت من سلامتها، فغادرت المنزل متوجّهة إلى الله بقلبها تطلب النصرة والفرج.
في اليوم التالي، ذهبت يوكابد مع ولديها لعيادة المرأة، فوجدتها في حال يُرثى لها، فبدأت تطيّب خاطرها، وتطلب منها أن تسلّم أمرها لله وتدعوه لكي يكشف كربها.
لكنّ المرأة أجابتها ساخطة: "أنّى يكشف الله عنّا الكرب وقد خلقنا في هذه الدنيا، لننال نصيبنا من العذاب فيتركنا نغرق ونتألّم، بينما يغدق النعم على أعدائه الكافرين به، وفوق كلّ ذلك يسلّطهم علينا".
انزعجت يوكابد ونهرتها بلهجةً غاضبة: "انتبهي لما تقولينه يا سيرين، كيف تقدرين على نعت الله بالظلم وفقدان الرحمة وتعتقدين بأنّه يريد لهم العذاب والآلام، مع أنّه الرؤوف الحنّان، الرحيم بعباده المؤمنين".
قالت لها: "لماذا يتركنا إذاً للقهر ويسمح لفرعون أن يستضعفنا ويقتل فلذات أكبادنا؟".
أجابتها يوكابد: "إنّ الله خلق الإنسان لبلوغ السعادة المطلقة، لكي يصبح قويّاً، قادراً، يتخطى كلّ الصعاب ويحوّلها إلى سلّم يعرج به نحو الكمال، وتحقيق خلافة الله في الأرض، وإنّ المفتاح الحقيقي لذلك يكمن في حسن الظنّ بربّنا، والوثوق برحمته، وأنّه سيستجيب لنا كما استجاب لأنبيائه الكرام وأنقذهم من كلّ البلاءات، وإنّ بداية الطريق تكمن في اختيارنا".
قالت لها سيرين: "أيُّ اختيار ونحن مغلوبون على أمرنا، مستعبدون لا نملك حتّى أنفسنا".
فأجابتها يوكابد: "أنت واهمة، هل تدركين أنّ فرعون وأعوانه بكلّ جبروتهم وسلطانهم لا يساوون شيئاً أمام قدرته الله وجبروته، ألا تعلمين أنّه إذا أطاع العبد ربّه فإنّه سيمنحه كلّ قدرة يحتاج إليها فيستطيع أن يتصرّف في الأكوان والنفوس".
سكتت يوكابد ثمّ وضعت يدها برفق عل كتف سيرين وقالت لها برقة: "سيرين اسمعيني، إنّ الله يسمع أنين الباكين ويبصر آلامهم ويغيث المستغيثين، وهو الوحيد القادر على إزالة كلّ الكروب، فتوجّهي له بقلبك وبثّي كل أحزانك، واهجري هذه الأفكار السوداء، وأحسني الظنّ بربك".
أطرقت سيرين برأسها، وكأنّها كانت تحاول أن تصارع نفسها وتزيل الأصداء التي التصقت بجدار قلبها والتي تعكس أنوار الحق حتى لا تستقرّ في نفسها. استاءت يوكابد لحالها وحال الآخرين من بني اسرائيل(1)، وكيف آل أمرهم إلى الابتعاد عن الله وعن الشعور بمحبته.
في هذه الأثناء، اقترب أحد أطفال سيرين من أمّه، يلحّ عليها لإعطائه بعض الطعام، وقد لاحت الصفرة على وجهه من شدة الجوع، لكنّها حاولت أن تلهيه عن ذلك.
تألمت يوكابد لهذا المنظر، فأسرّت إلى كلثم أن أحضري ما تجدينه من طعام في المنزل. أسرعت الصبية إلى المنزل وأخذت تبحث عن طعام، فلم تجد سوى رغيفين من الخبز وحفنة من الأرز.
أخذت ما وجدته وأسرعت به، لقد كانت معتادة على هذا الفعل، فهم لا يجلسون على طعام دون أن يشاركونه مع جيرانهم، بل كثيراً ما يؤثرون الآخرين على أنفسهم، وقد علّمتها أمّها أنّ الإنسان في عطائه، يكون أقرب ما يكون إلى الله، وهي تقول لها دائماَ: "كيف ننام هانئين وحولنا أهلنا لا يجدون ما يسدّون به رمقهم"، وتقول لها أيضاً: "إنّ الربّ الرزّاق حنون وصبور وكثير الرحمة لا يعاملنا بما نستحق، بل بأجمل وأحسن، رزقه يعمّ كل العاصين فكيف بمن يروم ما عنده، وهو لما ينفقه الإنسان ابتغاء وجهه خُلف، وعنده الأضعاف المضاعفة، يغمرها بها في الدنيا والآخرة، فانتظري دوماً فرجه"
وقد وعت الصغيرة كلّ ذلك.
أوصلت الطعام إلى أمّها، فأخذته ووزعته على الأطفال، ثمّ ودعت العائلة.
بعد تلك الحادثة، رجع عمران من عمله الذي يضطره للابتعاد عن عائلته لفترة طويلة، ففرحت النفوس الطيّبة بالتئام شملها، وتلوّن البيت بأنس اللقاء، لكن دون أن يكتمل، ويفترش القلوب، لأنّ الآلام قد نشرت أشرعتها السوداء على المدينة، فلم يعد بالإمكان رؤية المزيد منها.
خرجت يوكابد من منزلها، وقد بدا عليها القلق، وكانت خيوط الشمس البرتقالية المائلة إلى الحمرة، والمنعكسة على جدران الأكواخ، تزيد من قلقها، لقد تأخّر عمران كثيراً، لم يعد إلى المنزل منذ البارحة، وقد سألت عنه الأصدقاء، فلم تحصل على جواب شافي.
ألقت بنظرها إلى الطريق تراقب خطى المارة عسى أن يكون عمران واحداً منهم، لكنّها لم ترى لخياله شخصاً. بعد قليل أطلّ يعقوب، فأسرعت إليه، وأخبرته بالأمر، فأخذ يطمأنها وذهب ليبحث عنه، لكنّه لم يجد له أثراً.
في تلك الليلة، أمطرت السماء بغزارة، ففاضت الطرقات، واغتسلت النوافذ والجدران بالنعمة النازلة، وتتدافعت القطرات الثقيلة بالبركة، تتناغم مع ارتعاد الغيم في عرس مهيب.
في الداخل، كانت يوكابد تنتظر، موكلة أمرها إلى الله، وهي محتضنة أطفالها، تحكي لهم ملاحم من زمن البطولات...
عند منتصف الليل، وعند أطراف الطريق، لاح شبح شخص، من وراء الجدران، يتقدّم بصعوبة بالغة، ويتلوّى في مشيته، وهو يحني قامته، بادٍ عليه الإعياء، وثيابه ممزّقة، يسقط إلى الأرض المرة تلو الأخرى، فتختلط الدماء التي تسيل من جراحه، بالماء والوحل. اقترب من المنزل، حيث ترقد عائلة عمران، فسقط أرضاً، وأخذ يضرب على الباب الخارجي، وينادي بصوت متقطّع: "يوكابد... يوكابد".
استيقظت يوكابد على وقع صوت خافت، لم تعرف ما هو، فقد كانت كلّ النوافذ مغلقة، وصوت المطر قد غلب كلّ شيء. تنصّتت قليلاً، ثمّ هتفت: "عمران!"، وقامت مسرعة. خرجت إلى الدار، تحت المطر، وفتحت الباب، فوجدت زوجها مرتمياً على الأرض، حضنته وأخذت تساعده على النهوض.
"يا إلهي! جسدك كلّه ينزف، ماذا حدث لك حبيبي؟".
لم تنتظر جواباً، بل حاولت قدر المستطاع أن تعجّل به إلى المنزل.
في الداخل، خلع ثيابه المتسخة، وعلى فراشه، استلقى عمران على وجهه، إذ كان ظهره يؤلمه بشدة من أثر الضرب والسياط. لم يتفوّه بكلمة، فقد كان الغضب يحبس صوته ويقيّد كلماته، والأسى يصيب قلبه بألم لا يوصف، وكانت يوكابد تضمّد جروحه وهي تمسح دموعها التي انحدرت على وجنتيها، وهي لا تعرف كيف تخفّف عن زوجها كلّ هذه الآلام؛ إنّها المرة الأولى التي ترى فيها عمران على هذه الحال، لذا فهي تدرك أنّ الأمر قاسٍ جدّاً عليه.
"عمران! حبيب قلبي! قل لي ماذا حدث، لا أحتمل رؤيتك تتعذّب".
تنهّد عمران وقال بصوتٍ خافت وملؤه الأسى والغضب: "آهٍ، كم هو صعب، يا يوكابد، أن يُسلب الإنسان حقّه في الكرامة! وكم هو صعب أن يرى المرء شعبه وأهله يعانون من وطأة الاستعباد والقهر، ويقف أمامهم لا يقدر على فعل شيء، سوى تلقّي ضربات موجعة تجرح أعماقه وتقضي على لذّة الحياة عنده".
سكت عمران قليلاً، وظلّت يوكابد تنظر إليه بحزن وصمت، التفت إليها وقال بنبرة حازمة: "لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر، إنّ هامان(2) قد أصابه الجنون؛ جنون الملك وكِبر السلطان، إنّه لا يختلف عن فرعون في شيء، لقد أعماه جهله، وأتون ظلمه لا ينفكّ يلتهم النفوس ويكسر عزّتها".
سألته: "وماذا فعل بالتحديد؟".
قال لها: "أتذكرين ما أخبرتك به عند عودتي من الجنوب، وما حلّ بالعمّال الذين دفعوا حياتهم ثمن استهتار المهندس الملكي، عندما انهار عليهم جدار ضخم من الحجارة، بل ولقد حاسبوا من تبقّى منهم على قيد الحياة بالسجن والجلد المستمر، في سابقة للظلم لم نعهدها من قبل. وأنا من موقعي كمسؤول عن العمال هناك، قدمت شكوى، البارحة، أمام وزير البنّائين هامان، فما كان منه إلاّ أن جرّدني من مسؤوليتي، وأمر بجلدي".
قالت يوكابد متألمة: "الويل لهم من غضب الجبار، يوم لن يجدوا فيه من دونه نصيرا!".
وسادت لحظة صمت، قطعتها يوكابد وسألت عمران: "وماذا قرّرت أن تفعل؟".
نظر إليها مطوّلاً، ثمّ أجابها: "إنّ هامان بحاجة إلى صفعة، تزلزله، وبنو قومنا بحاجة ماسّة إلى من يوقظهم، يهزُّ ضمائرهم، لذا قرّرت المواجهة ولو أدّى ذلك إلى قطع عنقي!".
عند سماعها للجملة الأخيرة، لم تستطع يوكابد أن تكبت شهقة ارتجفت بوله، خارجة من صدرها العطوف، واندفعت دموعها، لكنّها كانت تعرف أن هذا هو ثمن عبور طريق الله، فهدّأت نفسها وقالت لعمران: "سدّدك الله في قرارك، أرجو أن ينظر إليك برحمته"، ثمّ قامت لتحضر شيئاً من الدواء، وهي تحاول خنق عبرتها، كي لا يسمعها عمران، فتزيد من ألمه، أو تثبّطه عن عزمه.
لكنّ عمران كان يعلم أنّها تتألّم، فهي سحاب رأفةٍ، يختزن في أعماقه حبّاً عظيماً. إنّ يوكابد بالنسبة له، نعمةً عظيمةً منّ الله بها عليه، وهو يدرك هذه النعمة، لذا لا يجد إلى إيفاء حقّ شكر الله من سبيل.
منذ زواجهما تلوّنت حياته بأطياف الربيع، لم يعرف معها سوى الخير وارتشاف السعادة، فإذا أصابه يوماً همٌّ أو سطا عليه كرب، ينظر إلى وجهها الصبوح، فتطالعه ابتسامتها المشرقة، وحنوّها اللذيذ، فتنجلي كلّ الآلام عن قلبه، وتتصدّع جدران الهمّ، وتنهار ليتنوّر عالمه بآمال العلياء.
إنّه الآن في موقف لا يُحسد عليه، فهو لا يعبأ بنفسه لكنّ ما يهمّه هي هذه الطيبة التي على وشك أن تواجه المزيد من الغمّ، وما يهمّه أيضاً أطفاله الصغار ومولوداً قد يقدّر له أن لا يراه.
لكن ماذا يفعل الأحرار إذا لم يعد بإمكانهم سوى اختيار الموت قرباناً لحياةٍ أعظم واستمراراً لرسالة الله في أرضه.
بعد أيام هدأت جراحات عمران، فاستعدّ للمواجهة، فطلب إلى زوجته أن لا تخبر ولديه بما سيفعله فهو لا يستطيع أن يرى الحزن في وجهيهما.
وقفت يوكابد أمامه تتأمّله بصمت، فاقترب منها، وقبّلها في جبينها، ثمّ ودّعها وخرج. خرجت خلفه وهي تنظر إليه وتحسب اللحظات المتبقيّة، نادته، التفت إليها، فقالت له: "أيّدك الله يا حبيبي بنصره وحفظك من كلّ سوء". ابتسم لها، ثمّ أكمل سيره.
وغاب عمران عن نظرها، فتلاشت أسراب الفرح، ومرّت نسائم باردة، حملت معها اكتئاب الغيم وحزن الأرض، ولعب الهواء بأوراق الجمّيز الصفراء، فانتثرت قرب يوكابد، ترافق دموعها التي اندفعت كجداول موسمي، سبقت الربيع بأزمنة الاستعداد، فتفجّرت من وجع الصخور، مرتعشةً، تراقب بحذر ظنون المنحدرات.
في هذه اللحظة، توجّهت بقلبها إلى ربّها، وأحسّت بأنّ أعماقها انفتحت بكلّها نحو طرق السماوات، وارتسم الأمل كالنور يؤذّن بفرح اللقاء:
"ربّاه يا رفيقي الحبيب
اعطف بجودك على حبيبي
ويا كاشف الضرّ والألم
صيّر قيودنا ذرّات منصهرة
تذوب عند أقدام رحمتك
ربّاه يا الله
احمي عبدك المؤمن عمران وأمدّه بنصرك"
* * * *
"حقيق علينا، أن نرتّل دوماً أنشودة الشكر
لك وحدك، يا رازق الخلائق وربّ الأكوان
إنّ عيوننا تخجل أن تنظر إلى محلّ قدسك
ورحمتك تسبق الأيام
أنت حارسنا ومعيننا
في كلّ الأحوال؛
في الشدّة، وعند غفلة الرخاء
فهل يستطيع لساني إلاّ أن يكون كليلاً
عند سيل كلماتك، يا حبيب القلوب".
رتّلت يوكابد صلاتها ومقاطع أفكارها، بشوق وحنين، لقد حمى الله عمران من القتل، بعد أن أدّى واجبه في كسر كبرياء الظالمين. إنّها رحمة الله الواسعة، التي لا بدّ أن ترجعه إليها وتخلّصه من ارتهان السجون، وأيادي جوده التي جعلتها تهجر الخوف وتهجر كلّ الأسى.
وفي أحشائها يغفو طفلها العزيز، في قراره المكين، ينتظر أمر الله. إنّها لا تتوقّف عن التفكير به، وعن تعداد الأيام لاستقبال الصرخة الأولى ورقصة المهد المستمرة.
أسابيع قليلة بقيت، ويوكابد لم يظهر عليها أثر الحمل، فلم تستطع عيون فرعون أن تلحظ شيئاً، لكن بما أنّها زوجة عمران المتهم بالتحريض ضد الحكم، أرسلت إليها قابلة لتستطلع الأمر، وترافقها، عسى أن يظهر أمرٌ ما.
لم تقلق يوكابد من وجودها، بل كانت تقابلها برحابة صدرها وطيب كلامها العذب، ودون وجلٍ تسمح لها بأن تقضي معها أوقاتاً طويلة.
وكان قلب القابلة يكتنز بعض الخير(3)، لذا فقد باتت تأنس بوجودها مع هذه الطاهرة، وتستمع بإصغاء لكلماتها ودعواتها، كما أحبّت طفليها الوادعين بصدق.
وعندما لاحت أمارات الولادة على يوكابد، عرفت القابلة بأمر حملها، لكنّها أسرّت إليها أنّها لن تخبر أحداً، فلها أن تطمئن.
واقتربت الساعة الموعودة، فشعرت يوكابد بدفء أحضان الله، وغمر ذاتها عشقٌ لا يوصف، وإحساس لا يدركه إلاّ من يعاينه، وكلّما كانت الأوجاع تشتد وتسلبها راحة الجسد، كانت روحها تتنوّر بأنوار علوية.
إنّها ملحمة كونية، تلك التي يكمن في نضالها سرّ الحياة، حين تصنع الآلامُ سلّماً لعبور إنسان نحو فضاء الأرض، مهد الخلافة، فكيف إذا كانت تؤذّن بقدوم فجر الخلاص، وكان الشاهد أمّاً كيوكابد، والمشهود طفلاً كموسى...
وقدمت نساء الجنان تستقبل الطفل المبارك، الذي خرج وعلى جبهته سنى نورٍ أزهر...
وأفردت الملائكة أجنحة من نور، تزيّن بها قلوب الصادقين، وتنزّلت البركات من كبد السماء لتعمّ كل الخلائق، واندهشت الشياطين، فتراجعت ذليلةً أمام عظمة هذا الوليد.
وأُلهمت يوكابد في روعها أنّ هذا الطفل سيسمّى موسى، وسيكون له شأنٌ عظيم، ففرحت وأخذت طفلها بين ذراعيها، برفق وشوق، وفاضت عيناها أمواجاً من رأفة ومواكب من حنان، لقد كانت لحظة عزيزة لا تقابلها كل السنوات.
لم تترك عيناها مذ ذاك عينا طفلها، وقد أحسّت بثقل المسؤولية، مسؤولية الأمانة، لذا فقد أصابها القلق حول مصير طفلها، وعيون فرعون لا تنفكّ تراقبها، وهم لم يقتنعوا بكلام القابلة، فماذا تفعل؟
ومرت شهور ثلاث أخفت فيه يوكابد طفلها عن كل عين(4)، ولمّا استبدّت بها الحيرة، ولم تجد إلى حيلة من سبيل لجأت إلى ربّها، واعتكفت أيّاماً تناجيه، علّه ينقذها من حيرتها.
وفي لحظة، بلغت بها مناجاتها أوج السماء، تلقّت البشرى، واحتجبت روحها عن ظلمات العالم الدنيوي، فلامست أبواب العرش، وكأنّ روحاً من أمر الله يحلّق على أبواب وجودها فيسمع كلام الله.
ونزل الرسول الأمين بالوحي على قلبها(5)؛ فعرفت وأدركت، ولبست رداء السكينة، وتلقت الكلمات النورانية؛ بأنّ أيتها العزيزة إنّ ابنك هو سيد عظيم و«أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ»(القصص: 7)، وعلمت أنّ عدوّاً سيلتقطه ويعطيها إياه، فاطمأنّت، وكان أمر الله فأذهب عنها كلّ وجل، وارتحلت آخر فلول الخوف، وأصبح فؤادها فارغاً(6) إلاّ من حبّ ربها وانتظار رحمته.
تلألأ نجم الصباح، وتلوّنت خيوط الفجر، فاقتربت العزيزة الطاهرة من الضفّة، تحتضن قلبها الرضيع، وفي روحها يندفع حنان عجيب، يجعل من الناظر إليها –وهي تلصق وليدها إلى صدرها بشدّة- وكأنه يدرك مشهد توحّد.
في تلك اللحظة، لم يكن العالم في عيون يوكابد، إلّا مظهر لكلمة ربّانية، تجمع الماضي، وترافق المستقبل، وتزيّن الحاضر بكلّ جميل؛ لذا كان قلبها ربيع الرضا، وحفلة التسليم المطلق لأمر الله.
لم تعد تعرف للخوف معنى، مذ عاينت روح الله ووشائح رحمته؛ كان شوقها لطفلها يزيد، لكنّه اتّحد مع الرغبة إلى الله، فكان الشوق عين اللقاء، وتلاشى الزمن، وتفتّت المكان عند عزمها على تنفيذ الوحي الإلهي.
حملت وليدها ووضعته في صندوق خيزراني، ثمّ سلمته لمياه النيل، فتدافعته الأمواج الرقيقة ونسائم الفجر، وبقيت يوكابد واقفةً عند الشاطئ تتأمّل مصير طفلها.
كانت الصغيرة كلثم تراقب أمّها، ولم تسألها شيئاً، لكنّها كانت تنتظر بثقة، فعل أمّها. وفي تلك اللحظة نظرت إليها يوكابد وطلبت منها أن تلحق بأخيها.
ركضت الصغيرة مسرعة خلف الصندوق، تراقبه عن كثب، تتعثّر في الطريق، قلقة، تحاول لاهفةً أن تلحقه فلا يغيب عن ناظرها.
بقي الصندوق يسير بمحاذاة الشاطئ، وكأنّ التيار يجذبه نحو هدفه، حتّى استقرّ هناك عند أطراف المدينة، حيث حديقة القصر الكبير، قصر فرعون.
أمسكت قلبها حتى لكأنّه توقّف عن الخفقان للحظة؛ هي إرادة الله أبت إلّا أن تفرد يدها في أعماق الكون لتكون البداية...
عند الشاطئ اقتربت آسية، زوجة فرعون، والتقطت الصغير، حملته بين ذراعيها وغابت به. مرّت لحظات قاسية، على كلثم وهي تفكّر بما ستفعله، فقرّرت الدخول إلى حديقة القصر. نظرت إليهم وهم غارقون في حيرتهم، استمعت لهم وهم متعجّبون من أمر هذا الصبيّ الذي يرفض كلّ مرضعة.
ارتاحت الصبية حين رأت المحبّة في عيونهم حتّى فرعون، كأنّه أُلقي في قلبه أمر السماء، فألانه رغم كل القساوة.
أمسكت كلثم زمام شجاعتها، واقتربت منهم قائلة: "هل أدلّكم على مرضعة ترضعه وتكون له من الناصحين". ووسط دهشة الحاضرين، لم يجد فرعون إلّا القبول بعرضها، فرؤية الطفل قد جعلته يدرك للمرّة الأولى إرادة الحياة، وإحساس الأبوّة.
استطاعت كلثم بفطنتها وهداية الله، أن تعيد أخاها إلى أمّه.
وتحقّق وعد الله؛ فلقد رجع موسى إلى يوكابد، وأرجعته يد الرحمة، وحكمة الباري، الذي جعل من طريق الخوف والخطر معبراً للخلاص، فحضنت طفلها بقوّة، ونظرت إليه فرحة، شاكرةً الربّ، راجيةً عطاءه الذي لا ينفد.
الهوامش:
1- يراجع: مهران، محمد بيومي (د): دراسات تاريخية من القرآن الكريم. ط2، دار النهضة العربية، بيروت، 1988م، ص1596.
2- هامان يعني في اللغة الهيروغليفيّة: رئيس عمّال مقالع الحجر. يراجع: www.hermagazine.com نقلاً عن: Dictionary of personal names of the Kingdom (مجلة، علميّة، ثقافيّة، فصليّة، على شبكة الأنترنيت العالميّة)، عدد: 7/ أبريل 2007م. مقال: تاريخ وحضارة، بقلم أروخان محمد علي.
3- يراجع: الطباطبائي، محمد حسين (العلامة): الميزان في تفسير القرآن. ط1، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1997م. ج16، ص15. ويراجع: العهد القديم، يصدر عن جمعيّات الكتاب المقدّس في المشرق. ط5، بيروت، 1999م. سفر الخروج، ص154.
4- يراجع: المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار. ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983م. ج13، ص9/16.
5- يراجع: (م.ن)، ص15-10.
6- يراجع: المجلسي، (م.س)، ص16. ويراجع: الطباطبائي (م.س)، ص12- 13.
المصدر: مجلة نجاة، العدد 19.
ميسون رضا.
اترك تعليق