مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

عزيزتي حوراء!

عزيزتي حوراء! بسبب أنك بنت السيد موسى الصدر فلا تظنّي بأنّ صلاتك أكثر قبولاً من سائر البنات

قبل 35 سنة عندما كانت الحرب الأهلية  مندلعة في لبنان؛ وفي يوم من الأيام جلسنا مع العائلة في البيت نتكلمنا معاً؛ أتذكر أنّ أبي قال لأخي: لو كان عندي مجرد إمكانيات لدراسة أحد أبنائي فأصرفها لدراسة ابنتي؛ وأتذكر أنني قمت لأداء الصلاة فقال لي أبي: "عزيزتي حوراء! بسبب أنك بنت السيد موسى الصدر فلا تظنّي بأنّ صلاتك أكثر قبولاً من سائر البنات".
قد قيلت أقوال كثيرة حول أبي "الإمام موسى الصدر"، وقد وصفه كل شخص بأوصاف مختلفة؛ كالمجتهد المصلح، والمفكّر الديني، ومعمار الحوار، ورائد التقريب، وإمام المحرومين، ومؤسس المقاومة، ومنادي حقوق المحرومين والمظلومين، ورائد الكفاح ضد الصهيونية، وصانع تاريخ لبنان، القائد الناجح.
عادة إنّ الآراء والذهنيات الأولى للمعرِّف تؤثّر في وصف وتعريف الشخصيّات تأثيراً ملحوظاً، وفي بعض الأحيان يرى المعرِّف تحقيق آماله الكامنة في الشخصيّة التي يقوم بوصفها وتعريفها ويعتبرها ملبيّة لآماله ومنجياً لحرمانه، لكن الصورة التي قد ارتسمت في ذهني من شخصية "الإمام موسى الصدر" هي صورة مركبة من الخَلوة، والحياة الفردية والاجتماعية، وتطبيق العلم على العمل، ووحدة الفكر والتصرف؛ كل ما يقوله الناس والتاريخ حول "الإمام موسى الصدر" فهو صحيح لكنه ليس جميع ميزات الإمام.
إنه يؤمن حقاً بعقائده وأفكاره ولا مكان للرياء في فكره وعمله؛ كان يفكّر لهدفه ولا يتصاخب ساعياً إلى حل مشاكل الناس وتحسين حياتهم، وكان لا يفكّر بتحميل المسؤولية أو الأخطاء على عاتق الآخرين؛ ولا يقلق لحرمان الناس فحسب بل يقوم بالتخطيط وجمع المعلومات الصحيحة مستخدماً جميع الطاقات والإمكانيات ليصل المجتمع إلى نمو شامل؛ وكان عندما يتعرف على مشكلة أو حاجة يقوم باستشارة الآخرين للعثور على علاج وحل مناسب لها.
في رأيي (حوراء الصدر) أنه يملك دائماً شخصية واحدة؛ من جهة أنه صاحب منظومة فكرية منسقة ومتناغمة لا تتغير في مختلف الظروف والأزمنة، ومن جهة أخرى فكره وعمله؛ يفكّر لهدفه ساعياً إلى حل مشاكل الناس وتحسين حياتهم، ولا يفكّر بتحميل المسؤولية أو الأخطاء على عاتق الآخرين؛ لا يقلق لحرمان الناس فحسب بل يقوم بالتخطيط وجمع المعلومات الصحيحة مستخدماً جميع الطاقات والإمكانيات ليصل المجتمع إلى نمو شامل.[...]
كان يهتف للمطالبة بحقوق محرومي جميع الأديان والطوائف ولا يخاف من صعوبة الطريق وبُعد مسافتها والعوائق والمشاكل الموجودة فيها، وكان يبذل كل جهده ووقته بكل صدق، ولا يعرف الجوع والعطش ليلاً ونهاراً، وكان يستخدم جميع طاقاته الإنسانية، ويهتف، ويطالب، ويهجم، ويتفاوض، ويجمع القدرة والذكاء والدقة، لكنه لا يكتفي بالهتاف والمطالبة، بل يقوم بإعداد وتنفيذ برنامج استراتيجي وشامل، للتصدّي لظاهرة الحرمان، مواجهاً في هذا الطريق الكثير من العوائق والتهم وسوء التأويل، لكنه لا يتوقف عن عمله بل يواصل مطالباته حتى ينجح.[...]
ومما يشير إلى التلائم بين فكره وعمله، من الممكن الإشارة إلى ما قام به سماحته من تبيين المضامين القرآنية وتفسير الآيات القرآنية؛ على سبيل المثال في تفسير آية «وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُون» يورد سماحته آراء المفسرين بشأن الجزاء الأخروي وتأثير الإنفاق في حياة الفقراء، ثمّ يُدلي برأيه حول الإنفاق: "نظراً لنوع معيشة المنفِق ونشاطاته الواسعة فإنه يتمتع أكثر من المنفَق عليه بمجتمع أكثر تقدّماً، ويتمتع بالحياة الدنيوية أكثر من الأخروية، ومن الحياة المادية أكثر من الحياة المعنويّة".
وفي هذا السياق فإنه يقدّم من مصطلح "الإنفاق" القرآني تفسيراً عملياً لحياة المنفِق والمنفَق عليه؛ ويقوم سماحته بتعريف الأثرياء الملتزمين أو الأخصائيين والناجحين على مفهوم الإنفاق، ملفتاً أنظارهم إلى ما يترتب على الإنفاق من نتائج إيجابية ومصالح دنيوية للمنفِق أو ما يترتب على عدم الإنفاق من نتائج سلبية، ثم يجمع إمكانياتهم (الأثرياء المنفقين أو الأخصائيين) المادية وطاقاتهم العلمية والمتخصصة ليستخدمها في إصلاح المجتمع ورفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين؛ وإنّ أول عمل يقوم به في هذا المجال هو استئصال ظاهرة التسول.
ومن مصاديق الانسجام بين فكر "الإمام موسى الصدر" وعمله من الممكن الإشارة إلى دعوته للحوار مع الأديان؛ إنّ اعتقاده بالحوار والتعايش مع الأديان أو اهتمامه بالوحدة بين المذاهب الإسلاميّة ليس استراتيجية مؤقّتة؛ ليكون قائداً على الشعب ويجذب قلوبهم أو يظهر تنويره ويكسب الشعبية، بل يعتبر مبدأً عقائديّاً ومستحكماً لدى الإمام موسى الصدر.[...]
وكان الإمام موسى الصدر يؤمن بأنّ الإسلام قادر على تلبية الحاجات العصرية، ولهذا أعدّ برامج ومشاريع للملائمة بين الدين والحياة، وبين الدنيا والآخرة والإيمان بالله وخدمة الشعب؛ الأمر الذي عبّر عن الانسجام بين أفكار الإمام موسى الصدر وأفعاله؛ إنه كان يفكّر بصلاة ابنته وإخلاصها فيها بقدر تفكيره إلى دراستها في العالم الحالي*.


المصدر: مجلة رايحة، العدد 97.
*بتصرف.

التعليقات (0)

اترك تعليق