مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

نصف المعيشة في حسن التدبير

نصف المعيشة في حسن التدبير

في كتابٍ لأمير المؤمنين علي(ع) إلى زياد يقول له موصياً إياه: "دع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدّم الفضل ليوم حاجتك"(1). وفي حديث آخر له(ع): "قوام العيش حسن التقدير، ومِلاكهُ حسن التدبير"(2). فما هي المعايير التي يقوم عليها حسن التدبير؟ وما هي أبرز ساحات تطبيقه؟ وكيف لنا أن نحسن تدبير أمورنا في واقع يطوّقنا بالمغريات والكماليات الموهومة من جهة، ويفرغ جيوبنا بكثرة المتطلبات من جهة أخرى؟ وكيف يمكن أن نفهم مسألتي الفقر والغنى على ضوء حسن التدبير في معاشنا.‏
"على قدر بساطك..":‏
"
على قدر بساطك مدّ رجليك" بهذا المثل يعرّف السيد أبو وائل مفهوم حسن التدبير، ويشرح قائلاً: "يعني إذا كان وضعك المادي ميسوراً فلا بأس بأن تتمتع أنت وأسرتك بمتطلبات الحياة ومباهجها بما يُرضي الله تعالى. وأما إذا كان وضعك المادي متعسّراً فالأفضل أن تنظر إلى أولوياتك حتى لا تقع فريسة العوز والاستدانة وحتى الفقر. وتعلو علامات الرضا والاعتزاز وجه السيد أبي وائل عندما يضرب مثلاً لحسن التدبير زوجته التي يشهد لها بأنها "سيدة نفسها في ذلك" فهي تستطيع دائماً بحنكتها وذكائها أن تدبر أمور الأسرة من المتيسّر خاصة إذا ما مرّوا بظروف مالية صعبة، دون أن يعلم القريب أو البعيد ويكشف سوء حالتهم المادية.‏
عبرة لمن يعتبر‏:
فيما يشرق وجه السيد أبي وائل بابتسامة الرضا، تعلو علامات الحسرة وجه السيد أبي عماد متحسراً على أيام النعمة التي كان يعيش في كنفها، ويعترف أن سوء تدبيره أدى إلى زوالها من بين يديه قائلاً: "الطمع أضرّ وما نفع، فبعد أن ازدادت تجارتي اتساعاً بحمد الله وتوفيقه، أغدقت على عائلتي الأموال وبتنا نصرفها "عن جنب وطرف" وأصبحنا نسعى وراء الكماليات في المأكل والملبس والترفيه حتى بات مصروفنا أكثر من مدخولنا المادي ما أثر سلباً على تجارتي شيئاً فشيئاً حتى اضطررت أن أبيع كل ما أملك لكي أنقذ نفسي من الملاحقات القضائية التي دقّت باب بيتي أكثر من مرّة". ويشير أبو عماد إلى عدم خجله من ذكر تجربته في سوء التدبير، لا بل هو يجاهر بها حتى يعطي العبرة للآخرين ويقدم لهم مثلاً من واقع الحياة حتى يجنّبوا أنفسهم ما أوقع به نفسه.‏
تجربة ناجحة‏:
وللسيدة أم فؤاد رؤيتها الخاصة في حسن التدبير الذي تمارسه بامتياز في أسرتها فتقول: "في هذه الأيام العصيبة وفي هذا الظرف الاقتصادي الخانق للناس والسالب لما في جيوبهم لا يمكن لأسرة مستورة أن تقوم بأمورها إذا لم يكن فيها حسن تدبير وخاصة من قبل الزوجة"، التي تعتبرها السيدة أم فؤاد المسؤولة الأولى عن إدارة الشؤون المادية للمنزل. وتتباهى السيدة أم فؤاد بتجربتها الناجحة إذ أنها استطاعت أن تنشئ عائلة مكوّنة من سبعة أفراد استطاعت أن تؤمن لهم أساسيات الحياة نتيجة حسن تدبيرها لشؤون البيت.‏
وبعد عرض هذه التجارب العملية في إطار حسن التدبير ماذا يقول أهل الاختصاص والخبرة؟‏
منظومة متكاملة:‏
الأستاذة سحر مصطفى نور الدين، المتخصصة في علم الاجتماع والإنتروبولوجيا ومسؤولة قسم الدراسات في مركز أمان للإرشاد السلوكي والاجتماعي، تعرّف حسن التدبير بأنه مفهوم إداري اجتماعي ديني بامتياز، ويُقصد به وضع كل شيء في المكان المناسب والوقت الملائم، وهو ذو ارتباط بالكيفية والكمية كما له ارتباط بالتربية، وبالشخصية، وبتوازننا النفسي وبقدرتنا على الإدارة، ولذا فهو يشكل منظومة متكاملة بحسب قولها.‏
وتعتبر الأستاذة سحر أن الإنسان بحسب تدبيره للأمور يستطيع أن يغيّر حاله من الفقر إلى الغنى خاصة إذا كان يملك بناءً تربوياً قد هيأه لذلك بحيث إنه يعرف كيف يتعاطى مع المال، فإذا ما أقبلت الدنيا عليه لا يسرف ولا يبذّر، وإذا ما قترت عليه فهو لا يخشى الفقر ولا يوقع نفسه فيه.‏
أما عن مسؤولية حسن التدبير في الأسرة فتشير السيدة سحر إلى أن الرجل والمرأة كلاهما مسؤول عن هذا الأمر، وإن كانت المرأة في مجتمعنا مطالبة بذلك أكثر نظراً لارتباط دورها بتيسير شؤون المنزل، إلا أن ذلك لا ينفي وجود التكامل بين الزوجين في ذلك فكم نرى رجالاً يجنون أموالاً طائلة تبددها زوجاتهم بسوء تدبيرهن، أو يبددها الرجل نفسه وعلى أكثر من صعيد.‏
تنظيم وأولوية في الصرف:‏
أما كيف يمكن أن يتجلى حسن التدبير في الأسرة فتعدّد الأستاذة سحر سلوكيات عدة تدخل في هذا الإطار، فبعض الناس قد يُقدم على شراء سلعة ما بأغلى الأسعار بهدف التباهي بعلامتها التجارية المرموقة والمشهورة اجتماعياً ليس إلّا، في حين أن من يحسن تدبير أموره قد يشتري السلعة ذاتها ولكن بسعر أقل في مواسم التنزيلات التي يترقبها، وبهذا يكون قد حصل على المنتَج الجيد بالسعر الذي يلائم ميزانيته بقليل من الصبر والانتظار. ومثل آخر تطرحه الأستاذة سحر حيث تقول: "إذا لم تكن ميزانية الأسرة تسمح في هذا الشهر بشراء غرض ما فإننا نؤجل عملية شرائه إلى أن يتوفر ثمنه، حتى لا نوقع أنفسنا بالدين والإرهاق المالي".‏
وفي ختام حديثها تعود الأستاذة سحر مصطفى نور الدين لتشير إلى أن حسن التدبير يتطلب منا وضع استراتيجية في صرف الأموال: متى وكيف ولماذا؟ وتحذر من أن يحصل الالتباس في فهم بعض الناس من حسن التدبير أنه تقتير في العيش وكفٌّ لليد وتضييقٌ مادي على الأسرة، إذ إنّ هذا يتنافى مع قاعدة أساس في حسن التدبير تقوم على ألّا يحرم الإنسان نفسه من تحقيق وتأمين الاحتياجات على أن يحرص على توفيرها مع ما يتلاءم مع وضعه المادي.‏
رأي الشرع‏:
في الحديث مع سماحة السيد علي فحص، مسؤول وحدة الأنشطة الثقافية في حزب الله وإمام مجمع الإمام علي(ع)، ينطلق من أن حسن التدبير يدخل بقوة في معادلة الفقر والغنى في الحياة. لا بل هو يُعتبر لاعباً أساساً على ملعبهما ومؤثراً بهما بشكل أو بآخر، لذا يستهل سماحته حديثه بتعريف الفقر والغنى من الزاوية الشرعية الإسلامية فيقول: إن الغنى والفقر مفهومان متقابلان وقد وردت تعريفات عديدة لهما، إلّا أن المعنى المباشر لهما يتعلق بالناحية المادية، فالغني هو إنسان وصل إلى مرحلة تمكّن فيها من قضاء كل حاجاته المادية، وقد نجد الغني القنوع الذي يقبل بما يؤمنه له صرفه الميسور من متطلبات الحياة، وقد نجد الغني غير القنوع أو غير الحريص والطموح الذي قد يقضي له المال كل حاجاته إلّا أنه يعيش حالة نفسية يترجمها عبر حبه لامتلاك الأشياء دون حدود. وأما الفقر فقد أعطاه الإسلام مفهوماً مزجه بين الدنيا والآخرة وقد اعتبره من الناحية الدنيوية اختباراً وامتحاناً وبلاءً بحيث إن عدم التوفيق إلى تحصيل المال قد تكون فيه حكمة إلهية لمدخَّر ما ليوم القيامة.‏
السعادة بين الغنى والفقر:‏
وحول ارتباط تحقيق السعادة بحالة الغنى أو الفقر يشير سماحته إلى أنه يُفترض بالإنسان أن يكون جادّاً ساعياً، وكم من أناس يمتلكون أبسط القدرات المادية التي تحقق لهم أدنى الحاجات إلّا أنهم يعيشون السعادة التي يحسدهم عليها الآخرون؟ وكم من فقراء حفّزهم فقرهم لتحقيق أصعب وأهم الإنجازات على أكثر من صعيد؟ والأمثلة من حولنا تشهد على ذلك.‏
كماليات موهومة:‏
وبالنسبة لدور حسن التدبير في المساعدة على تأمين الحاجات الأساس للإنسان حتى وإن قلّت أو نضبت الموارد المادية بين يديه، يتوقف سماحة السيد علي فحص عند الحديث الشريف "حسن التدبير نصف المعيشة" ويردف بالقول: على أن يكون النصف الآخر هو السعي. وفي تعريف حسن التدبير يشير سماحته إلى أن المعنى الدقيق لهذا المفهوم هو أن يقايس الإنسان بين حاجاته الفعلية الواقعية وبين الإمكانات التي تتوافر لديه بحيث لا يصرف هذه الإمكانات، خاصة عندما تكون محدودة، إلّا فيما هو ضروري. ولتحقيق ذلك ينبغي للفرد أن يعمد إلى جدولة حاجاته الفعلية ولا يغرق في الكماليات التي أُقنعنا، وعبر الحرب الناعمة حسب قوله، بأنها من أساسيات الحياة وأي عيش لا يقوم إلا بها ومعها وهذا وهم كبير. ويؤكد سماحته على أهمية أن يقتنع كل منا بأن الحياة غير مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالكماليات، ويحذّر ذا الإمكانات الضئيلة من أن يطمع بأن يحقق بوضعه المادي الضيّق ما قد يحققه ذوو الإمكانات العالية إذ إنه لن يستطيع ذلك وسيغرق في الإحباط والفشل وقد يجد نفسه غارقاً في الهموم والديون والقروض فيطيح بما يملكه من أساسيات على حساب كمالياته الموهومة.‏
لعبة لا تنتهي‏:
وختم سماحته بالدعوة إلى إعادة رسم الوعي لشخصية رسالية تعتبر أن الأساس ليس المظهر والسعي إلى الكماليات وإنما الأساس هو البناء العلمي والثقافي والأدبي والمهاراتي الذي يقوم على الخروج من صيغة التحاسد وصيغة الوضع الاجتماعي المكذوب الذي يدفعنا إلى سوء التدبير والدخول في لعبة الكماليات التي لا تنتهي عند حد.‏
الخاتمة:‏
إن حسن التدبير قاعدة ذهبية تشكل المدماك الأساس واللبنة الأولى لواقع اقتصادي متوازن ومدروس لكل أسرة، قاعدة تخفّف من وطأة الواقع المادي الضّيق وترفع سورَ أمانٍ في وجه غدر الأيام وتيسّر السبيل نحو غنىً يرضى به القانع برزق الله تعالى ونعمه. وقد عبّرت كلمات نورانية لرسولنا الأكرم(ص) عن ذلك حيث قال: "إن المؤمن أخذ من الله أدباً، إذا وسّعَ عليه اقتصد، وإذا أقتر عليه اقتصر".‏

الهوامش:‏
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 33، ص 490.‏
(2) عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 370.‏

المصدر: مجلة بقية الله، العدد 252
تحقيق: سوزان شعيتو فاعور

التعليقات (0)

اترك تعليق