كلمة آية الله السيد محمد حسين فضل الله (قده) في إفطار عام 1994
كلمة سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (قده)، التي ألقاها في الإفطار السنوي الأول للجمعية النسائية للتكافل الاجتماعي، بتاريخ 3 شهر رمضان 1414هـ الموافق 14 شباط 1994م.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى أنبياء الله المرسلين،السلام عليكنّ أيتها الأخوات الكريمات ورحمة الله وبركاته.
عندما خلق الله الحياة خلقها من موقع التكافل.. فالكون كله، أرضه وسماؤه، جباله وسهوله، بحاره وأنهاره تتكافل جميعاً من أجل أن تصنع الحياة في الأرض. فالحياة لا يمكن ان تنطلق من ظاهرة واحدة.. فالشمس وحدها لا تنتج الحياة، والماء وحده لا ينتج الحياة.. إنّ هذا التفاعل بين كل الظواهر الكونية جعل كل ظاهرة كونية تنفتح على ظاهرة كونية أخرى لتكون الحياة.. بأن لا يخرِّبه، وأن لا ينشر فيه الفوضى.. كما أراد للإنسان أن يتعلم من الكون بعد أن جعل الكون مسخّراً له. مسخّراً لمنفعته، لحياته، لاستمرار وجوده، والله سخّر له ما في السموات وما في الأرض وعليه أن يفهم أسرارها، وأن يتعامل معها من موقع علم، وأن يبدع في الحياة شيئاً جديداً من خلال ما يتعلمه من أسرار الكون.. قال للإنسان كن الإنسان المتفاعل مع الكون، المتفاعل مع الحياة الذي يعطي من عقله وروحه وحركته شيئاً، قد لا يكون جديداً في العمق ولكنه يكون جديداً في بعض ما يمكن أن يعطي الحياة من صورة جديدة.. وقال للإنسان إنّ عليك أن تعطي للحياة بقدر ما تأخذ منها، وإنّ عليك، كإنسان تتنوّع مواقعه وتتنوّع أجناسه وأعراقه أن تكون الإنسان الذي يتفاعل مع الإنسان. فالإنسان الفرد لا يستطيع أن يصنع العلم، ولا يستطيع أن يصنع العقل كله، ولا يستطيع أن يصنع للحياة نظامها، ولكن الإنسان الذي ينضم إلى الإنسان يستطيع أن يبدع العلم في كل ما يمكن أن يبلغه من العلم، ويصنع حركة العقل في كل ما يملك أن يطوّر به العقل، ويصنع حركة الحياة في كل ما يمكن له أن يبدع من الحياة حياة، من الحياة المادية حياة روحية، ومن الحياة الحسية حياة عقلية، ومن الحياة الجامدة حياة متطورّة، وهكذا.. فالتكافل في حركة الإنسان، بين إنسان وإنسان، هو سر استمرار الإنسان في خط الصعود وانفتاحه على الآفاق الواسعة، تماماً، كما هو الكون المتفاعل في نظامه. فالإنسان لا بد أن يكون متفاعلاً في حركته وفي نظامه. وبذلك يمكن للحياة أن تحقّق نفسها وحيويتها ويمكن للإنسان الذي جعله الله خليفته في الأرض، ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾[سورة البقرة/30]. يمكن للإنسان من خلال نشاطه في حركة الحياة، يمكن له أن يقول لربه، عندما يقف غداً بين يدي ربِّه، يا رب لقد أعطيتني أرضاً ليس فيها الكثير من حيوية الحياة، وأعطيتني الكون ليس فيه الكثير من حركة العلم، وها أنا يا رب، من خلال إنسانيتي المتفاعلة في كل مظاهر الإنسانية، أسلّمك الكون كوناً كله حركة في العلم والمعرفة، وفي العقل والإبداع.. كوناً مليئاً بالحركة التي تعطي للحياة نبضها، عندما تعطي الحياة عقلاً يفكر وقلباً ينبض. تلك هي المسألة في حركة الرسالات.
إنّ المسألة في وعي إنسانيتنا ليست هي في ماديتنا، إن كل ماديتنا هي حاجاتنا، نحن لسنا جسداً فقط، فعندما يموت الجسد يقال مات الإنسان والجسد باق.. نحن هو الجسد الذي تعطيه الروح حيوية ويعطيه العقل إبداعاً. فالماديات هي حاجاتنا وليست رسالتنا.. فنحن نأكل لتستمر الحياة بنا، ونشرب لتبقى الحياة لنا، ونرتاح في مظهر مادي هنا فننام على فراش، ونسكن في أرض وما إلى ذلك.. هذه كلها حاجات، والحاجات لا تمثّل رسالة الإنسان. إنّ رسالتنا هي أن نبدع العقل ما رزقنا الله من حركة العقل، وأن ننتج العلم في ما أعطانا الله من إنتاجات العلم، وأن نجدّد للحياة صيغتها الاجتماعية، وأن نعطي الحياة من إنسانيتنا شيئاً "تتأنسن" به.. فتكون للأرض إنسانيتها، وتكون لكل المظاهر التي استهلكناها واعتبرناها القيمة مواقعها في الحياة، فالمال ليس قيمة، إنه شيء يمكن أن نوظفه لخدمة القيمة الإنسانية.. الغرائز ليست هي القيمة، وليست هي السعادة.. هي شيء يمكن أن نوظفه لتنظيم الحياة ولتوازن الحياة، لأن الحياة بدون غرائز لا معنى لها والغرائز ليست هي كل الحياة.. إنها بعض خصائصها، ولها نوافذ تطل بها على الحياة في قيمتها، ولها نوافذ تطل بها على الحياة في انحدارها.
لذلك علينا أن نفكر أننا عقل وقلب وإحساس وحركة ورسالة.. وفي ذلك كله عندما يتحرك العقل وينبض القلب، وتنطلق الحركة، ويعيش الإنسان في كل هذا الجوّ يتطلّع الإنسان في صلاته إلى الأعلى فيقول: "سبحان ربي الأعلى وبحمده"، ويتطلّع إلى الكون كله.. إلى الكبار الكبار، ويصرخ في وعيه فيما يتجسّد فيه من عظمة الله "الله أكبر".. أن يعيش الإنسان من أجل أن يكون إنسان الله، لا يأخذ شيئاً من الألوهية ولكنه يعيش في آفاقها ويستمد منها كل ما يفتح آفاقه.. الله هو المطلق والإنسان هو المحدود، ولكن الإنسان عندما ينفتح على الله يأخذ شيئاً من المطلق ليوسع فيه محدوديته، الحديث الشريف يقول: "تخلقوا بأخلاق الله"، فعندما تصف ربك بالرحمن والرحيم والكريم واللطيف وكل الكمالات وما إلى ذلك.. كن الإنسان الذي يرتفع فيتخلق بأخلاق الله، ويعيش آفاق الله وإذا ضعفت خذ القوة من الله ﴿إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا﴾ [سورة التوبة/40]، وبذلك لن يسقط الإنسان المؤمن تحت تأثير كل عوامل اليأس ما دام الله يعطيه الأمل الأخضر فيدخل القلب في رجاء الله ليبدع في كل يوم ربيعاً فلا يقترب الخريف منه ﴿يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روْح الله، إنّه لا ييأس من روحْ الله إلا القوم الكافرون﴾[سورة يوسف/87]، أن نبقى في الحياة، يتجدد الأمل فينا من أجل أن نعطي الحياة في كل أمل انطلاقة جديدة.. لا نسقط.. ولكننا نتجدّد بالأمل الذي يفتح لنا في كل يوم نافذة على النور، وهكذا لن نعيش الضعف ما دامت القوة لله جميعاً، ولا نعيش الذل ما دامت العزة لله جميعاً.
§ أيها الأحبة:
قصتنا مع الإيمان بالله ليست هي مجرد أن نصلي وأن نصوم وأن نحج وتنتهي القضية في ذلك.. قصتنا مع الإيمان بالله هي قصة إنسانيتنا في سموّها وصفائها ونقائها وانفتاحها وصلابتها وحركيتها وحيويتها. فالقلب الفارغ من الله قلب لا حياة فيه والإنسان الذي لا يعيش مع الله هو الإنسان الذي تتآكله الآلام والعقد وكل نقاط الضعف في نفسه، أمّا الإنسان الذي يعيش مع الله فهو الإنسان الذي يعيش كل الكون في عقله، وكل الحياة في قلبه، وكل الحركة في كيانه. لذلك قد نحتاج في أجوائنا الرمضانية هذه، التي تنفتح على الروح.. قد نحتاج إلى أن نعيش الحب مع الله، أن نحب الله بأعلى مواقع الحب، وأعلى مظاهره. نحن نحب الناس لأننا نحب الجمال فيهم والله هو الذي صنع الجمال كله. نحن نحب الناس لأنّ في الناس شيئاً من القوة التي نحبها والله هو الذي أعطى كل ذي قوة قوته، ﴿وما بكم من نعمة فمن الله﴾ [سورة النحل/53]. كل ما نحبه الله أعطانا إياه، وكل ما نعظمه الله وهبنا سر عظمته، وكل ما نستريح ونرتاح إليه الله أعطانا سر الراحة فيه. لذلك العيش مع الله هو عيش مع الطمأنينة الروحية التي لا قلق فيها والتي لا حيرة فيها.. العيش مع الله عيش مع وحدة الإنسان في نفسه، فلا يكون هناك ازدواجية بين عقله وقلبه، ولا ازدواجية بين حركة هناك وحركة هنا. لذلك جرِّبوا أن تعيشوا مع الله! وإنكم تجرِّبون أشياء كثيرة.. في كل يوم تلتقون بالدعوة إلى تجربة عصير أو مسحوق أو أي شيء لكن لماذا لا نجرّب هذه المحبة مع الله؟!.
في دعاء السحر يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): "الحمد لله الذي تحبّب إليّ وهو غنيُّ عني والحمد لله الذي يحلم عني حتى كأني لا ذنب لي، الحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره ولو رجوت غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الذي وكلني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس فيهينوني". أن نعيش مع الله لنكتشف أنفسنا. فلو أنّ كل واحد من الناس حاول أن يدرس نفسه من الداخل لرأى أنّ في نفسه قلقاً لا يمكن أن يركّزه أي مظهر من مظاهر الطمأنينة الرسمية، ولرأى إنساناً يصارع نفسه.. رأى الازدواجية. لنحاول أن ننزل إلى أنفسنا لنرى أن كل واحد منَّا يحمل في داخله ضده. فنحن نلاحظ أنّ الإنسان يعيش دائماً بين غرائزه وقيمه، بين شخصية فردية وشخصية اجتماعية، بين شخصية تقليدية وشخصية متطورة.. والكثيرون منّا، لا سيما في الشرق ضاعوا في ازدواجية الشخصية.. قد نضحك ولكن قلوبنا تبكي لأننا لم نعطِها الفرح الحقيقي، وقد نلهو ولكن حياتنا تعيش الوحشة الداخلية لأننا نعيش دائما خارج نفوسنا. نحن نفكر دائماً ماذا يريد الناس، ونفكر دائماً ماذا يرغب الناس... نحن نفكر دائماً كيف يرضى الناس وكيف يغضب الناس... هل يعجب هذا الناس أو لا يعجب هذا الناس، حتى أننا أصبحنا، فيما نأكل بذوق الناس، ونشرب بذوق الناس،. مَن منّا يعيش على أساس ماذا يريد حتى ولو لم يرد الناس ذلك؟ ماذا يحب حتى لو لم يحب الناس ذلك؟.. القليلون منّا يفعلون ذلك... والإنسان الذي يبقى مشدوداً إلى الناس هو إنسان لا يعيش مع نفسه ولا يصادق نفسه ولا يحاسب نفسه ولا يعرف نفسه لو أنّ إنساناً من الناس فاجأنا بسؤال: مَن أنتم؟ وما هي أفكاركم؟ وما هي قِيَمكم؟ وما هي القاعدة التي تتحركون فيها في مواقفكم السياسية والاجتماعية؟... ما هو فهمكم لانتمائكم الديني وانتمائكم الاجتماعي وانتمائكم السياسي؟.. هل نملك جواباً؟ إننا قد نملك جواباً بنسبة العشرة بالمئة ولكننا لا نملك جواباً بنسبة التسعين بالمئة والسبب بسيط هو أننا لم نجلس مع أنفسنا لحظة واحدة، فَمَن منّا جلس مع نفسه ليحاسب نفسه؟ ومَن منّا واجه نفسه بالأسئلة الكبيرة؟ ومَن منّا حاول أن ينزل الى داخل نفسه ليعرف ما هي أعماقه الحقيقية؟ ومَن منّا حاول أن يدرس رواسبه التي تدفعه في حركة شخصيته لا شعورياً؟.. مَن؟ نحن مسؤولون خارج ذاتنا.
لذلك قد تكون هذه الفرصة الرمضانية فرصة نجلس فيها مع أنفسنا، ونصوم فيها عن الكلام بعض الشيء إنّ الله أمر العذراء مريم(ع) ﴿فإمّا تريِن من البشر أحداً فقولي إني نذرت لرحمن صوماً فلن أكلِّمَ اليوم إنسيّا﴾ [سورة مريم/26].
لنصم عن الكلام بعض الشيء ولنصم عن السماع بعض الشيء لأننا أمة تحاول أن تسمع – لا أن تستمع – نجلس في السيارة مثلاً عندما يكون الطريق طويلاً فنفتح الراديو، المهم أن نسمع أي شيء كان، أي كلمة، أي أغنية، أي موسيقى.. لأننا لا نطيق الصمت والهدوء، أليس الأمر كذلك؟.. لنجرب أن نجلس في سهرة من ليالي الشتاء ونتحدث ساعة ثم يفرغ الحديث.. ألا يقول بعضنا لماذا لا تتكلموا؟ المهم أن نتكلم وليس المهم ماذا نتكلم! نحن نحتاج إلى شيء من الصمت عن السماع حتى نملك هدوء العقل، ونملك هدوء القلب، ونملك هدوء المشاعر، ونملك هدوء الحياة. مع الهدوء يصفو العقل، وعندما يصفو العقل يسمو. ومع الهدوء يصفو القلب، وعندما يصفو القلب يفهم سر عواطفه فلا تكون العواطف فوضى. وعندما تصفو الذات تستقيم الحركة، لأنها تعرف عند ذلك نقطة البداية والنهاية. الحديث يقول: "مَن كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفاً". الحياة تمرّ وكل ما حولنا يتناثر ويتمزّق ويذهب. فعلينا أن نحتفظ لأنفسنا شيئاً من الحياة قبل أن تتساقط كل الطاقات منّا، وعلينا أن نحتفظ بشيء من هذه الطاقات التي تبقى من بعدنا وتبقى للناس من حولنا. فسوف نتحوّل إلى ذرات تراب. أين أجدادنا؟! هم تراب يتناثر، وقد قال ذلك الشاعر الذي مرّ على مقبرة وادي السلام، المقبرة الكبرى:
عبرت على الوادي فشقّت عجاجة فكم من بلاد في غبـار وكم نـادِ
وأبقيت لم أنفض عن الرأس تربه لأرفع تكريماً على الرأس أجدادي
...لأن أجدادنا تحوّلوا إلى تراب، ويمكن أن يكون هذا التراب الذي تأتى به الريح هو بقايا آبائنا وأجدادنا. فقبل أن نتحوّل إلى تراب علينا أن نبقي شيئاً للروح، وشيئاً للحياة، وشيئاً للناس من حولنا.
ليست قيمة الحياة فيما نأكل، بل بمقدار ما نجعل إنساناً جائعاً يأكل.. ليست قيمة الحياة بمقدار ما نشرب، بل بمقدار ما نجعل إنساناً ظامئاً يشرب.. أن نجعل إنساناً يبتسم بعد أن أفقده الحزن ابتسامته.. أن نجعل قلباً ينبض بالأمل بعد أن اخترقته كل عوامل اليأس. الحياة هي بمقدار ما ننشر الفرح فيمن حولنا، الفرح الطاهر، الفرح الروحي، فرح الحياة..
لا تكن لدينا أنانية الفرح لنفكر بأنّ علينا أن نفرح ويحزن الآخرون! لا تكن الحياة كلها عندنا هي أن نشبع وليجع الآخرون! بل أن نأكل ويأكل الآخرون، ونبتسم ويبتسم الآخرون.. أن نفرح ويفرح الآخرون.
إن قضية أن يعطي الإنسان الحياة من حوله سروراً والإنسان من حوله فرحاً هي قيمة الحياة، قيمة في الدنيا وقيمة في الآخرة، في كلمة للإمام علي(ع) قالها لكميل بن زياد الذي روى الدعاء المعروف باسمه عنه: "يا كميل مر أهلك يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة مَن هو نائم". الإدلاج هو السير في الليل، ويدلجوا أي يسيروا في الليل ليقضوا حاجة إنسان نائم لا يشعر بذلك كله، ويتابع فيقول: "فوالذي وسع سمعه الأصوات ما من امرئ أودع قلباً سروراً إلاّ وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً فإذا نابته نائبة جرى إليها كالسيل في انحداره فيطردها كما تطرد غريبة الإبل". وفي الحديث: "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، أو مَن أدخل على قلب سروراً".
وفي هذا المجال هناك بعض الأحاديث الروحية في أجواء الغيب.. يروى أنّ الإنسان إ ذا أودع في قبره تمثّل له صورة إنسان جميل الصورة، مشرق الابتسامة فيقول له مَن أنت وقد فارقني كل أهلي وأولادي فيقول له: "أنا ذلك السرور الذي أدخلته على قلب فلان المؤمن، خلقني الله لأؤنسك في قبرك ولأؤنسك في حشرك فلا أزال بك حتى أدخلك الجنة.. أن نعطي الفرح لمن يفقده، وأن نعطي السرور لمن يعيش كل الحزن في حياته، وأن نعطي الراحة لمن يعيش التعب. تلك هي الحياة! هي عندما ينام الإنسان ويشعر أنه استطاعَ أن يجعل إنساناً حزيناً مبتسماً وإنساناً متعباً مرتاحاً، أمّا أن يأكل جيداً ويشرب جيداً فتلك هي حاجاته التي لا تلامس روحه وإن لامست جسده، والقصة هي آن تلامس القِيَم روحنا، وأن تلامس أعمالنا روحنا، ومن هنا يأتي التكافل الاجتماعي بأن يكفل بعضنا بعضاً، وأن نعطي للناس الآخرين ما يحتاجونه ونأخذ منهم ما نحتاجه. فكل منّا يملك قيمة يحتاجها الآخرون ويملك جهداً يحتاجه الآخرون فلماذا نكون أنانيين؟! ما معنى أن نسلب الناس طاقاتنا، الطاقات ستموت، وما معنى أن نحرم الناس أموالنا؟! سنفارق الأموال أو تفارقنا. وما معنى أن نحرم الناس جاهنا؟ سيتحول الجاه إلى كلمة على القبر، يبقى الجاه لنا في الناس الذين يستطيع جاهنا أن يحقق لهم جاهاً، ويبقى لنا مالنا في المال الذي نعلّم به إنساناً ينفع أمته أو نربي به يتيماً ينطلق في حياته، أو نساعد به أي شخص يحتاج إلى المساعدة.
لذلك فلنفكر في أن نبقى بعد أن نموت، لنفكر في أن نبقى في الناس الذين بقي عندهم شيء منّا. الحديث يقول: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ عن ثلاث: صدقة جارية (مشروع خيري، ميتم، مدرسة، مستوصف أي شيء ينفع الناس)، وورقة علم ينتفع بها وولد صالح يدعو له"... أن نعيش التكافل الاجتماعي في حياتنا على كل المستويات، حتى نستطيع أن نؤكد حياتنا، وحتى نستطيع أن نكون مجتمعاً. فمشكلتنا أننا لا نزال أفراداً، أفراداً تلتقي مع بعضها البعض ولا علاقة فيما بينها فنحن لم نعش بُعد شخصية المجتمع في شخصيتنا، ولم نعش شخصية الأمة في وجودنا.. إنّ التكافل الاجتماعي يجعل منّا مجتمعاً بعد أن كنّا أفراداً، ويحولنا إلى أمة بعد أن كنّا أفراداً ممزّقين.
لذلك لنفكر في القضايا الكبرى ولا نعش في القضايا. فنحن نكبر بالقضايا الكبرى، ونكبر عندما نفكر في قضايا المصير، ونكبر عندما نفكر في قضايا الأمة، ونكبر في قلبنا الذي يتحوّل من عاطفة صغيرة تتوجه إلى إنسان فرد إلى عاطفة تنطلق للحياة كلها لتعطي لها من نبض قلبها وللناس كلهم وللأمة كلها. فلماذا نبقى صغاراً ونحن قادرون على أن نكون كباراً بالتكافل الاجتماعي؟!
ومن خلال ذلك يمكن لنا أن لا نكون المجتمع الحيادي الذي يتطلّع إلى المجاهدين دون أن يشعر بأنّ عليه أن يشاركهم جهادهم، ولو بما يستطيع أن يقدمه لهم، أو يواجه المصلحين دون أن يشعر بأنّ عليه أن يقدم لهم ما يعينهم على إصلاحهم... إذا لم نستطع أن نكون مجاهدين فعلينا أن ندعم المجاهدين، وإذا لم نستطع أن نكون مصلحين فعلينا أن يكون لنا شيء عندهم.
وإنني أزعم أنّ المرأة هي الإنسانة التي تفهم التكافل الاجتماعي جيداً.. المرأة التي تحمل جنينها، وترضع ولدها، وتحميه، وتربّيه.. إنّ هذا يمثل أعمق مواقف التكافل الاجتماعي فهي تكفله بدمها.. تكفل الإنسان وتكفل الحياة بقلبها، بكل عطائها حتى يتحرك تحرّك الحياة. إنها الكفالة التي تسمو عن كل كفالة.
إنّ الفرق بين الأمومة والأبوّة أنّ كفالة الأبوة من الخارج. أما كفالة الأمومة فهي من الداخل، تعطي كل حياتها وتجعل حياتها في موقع الخطر عندما تتحرك من أجل إنتاج إنسان، وتحمل الخطر حتى بعد إنتاجه، وتعطيه من كل كيانها وجهدها. المرأة تفهم معنى التكافل الاجتماعي، ولا أفهم أن تكون المرأة أنانية! ربما يكون الرجل أنانياً، أما المرأة التي تعطي في أمومتها حتى حياتها كيف يمكن أن تفهم الأنانية أو أن تعيشها.
لذلك هناك سر في الأمومة لا بد من أن ننمّيه ونغذّيه ونطوّره ونحرّكه من اجل أن يعطي الحياة ولا بد للمرأة من أن تشارك في عملية حركة الحياة كما شاركت في عملية صنع الحياة. فالمرأة تملك عقلاً تستطيع أن تطوّره، وتملك عاطفة إذا قال الناس إنها تنحرف فإنها تستطيع أن توازنها، وتملك طاقة تستطيع أن تحرّكها. لذلك إننا لا نفهم أن تكون المرأة معزولة عن حركة المعرفة، وعن حركة الجهاد، وعن حركة الواقع السياسي والاجتماعي. فإذا كانت هناك بعض الأحكام الشرعية للمرأة في مسألة ما يتصل في حدودها الأخلاقية فإن الحدود الأخلاقية سواء في الرجل والمرأة، وإن اختلفت أشكالها هنا وهناك... لذلك الحياة المسؤولة في الخطوط الأخلاقية التي تركزها هي مسؤولية الرجل والمرأة معاً. وعندما يتكامل الرجل مع المرأة، وتتحرك الحياة من خلال التكافل الأمني فإن الحياة تصبح شيئاً جديداً وشيئاً عظيماً وشيئاً منتجاً وشيئاً ينفع إنسانيتها.
هذه هي أفكار أحب أن نعيشها وأن نفكر بها، ونحن الآن في إفطار الجمعية النسائية للتكافل الاجتماعي، الجمعية الفتية التي نريد لها أن تنطلق في الآفاق الواسعة وأن تعطي من كل جهدها، أن تعطي للمجتمع الكثير الكثير، لأنّ المجتمع ينتظر المرأة العاملة المؤمنة لتعطي الكثير الكثير وإذا كانت اليد الواحدة لا تصفّق فإنّ علينا أن نمد أيدينا – كل أيدينا – الثقافية والاقتصادية والاجتماعية إلى اليد التي تمتد للعطاء وللخير وللحق والجهاد.. أن نعمل معاً، وأن ننتج معاً، وأن نجاهد معاً، وأن نرتفع بمجتمعنا.. معاً لأنّ ذلك هو الذي يحقق لنا الكثير: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾[سورة التوبة/71]. وأسال الله أن يوفقكنّ لكل عمل خير ولكل خطوة حق ولكل انطلاقة رسالة وأن يتقبّل الأعمال الصالحة منكنّ.
والحمد لله رب العالمين والسلام عليكنّ ورحمة الله وبركاته
اترك تعليق