مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

عمل المرأة في عصر الرسالة

عمل المرأة في عصر الرسالة

إنّ عمل المرأة خارج البيت موضع نقاش ثابت ومستمر في مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة عموماً، فهناك أصوات دائميّة إنّ خفتت في مجتمع ما تعلو في آخر، تدعو إلى قرار المرأة في بيتها والانصراف إلى المهام الأسريّة، وحجتهم أنّ الإسلام أمر بهذا. وفي هذا البحث نناقش دعواهم هذه مبينين: حكم القرآن والسنة في عمل المرأة، موقف فقهاء السلف والمُحدثين، والقواعد التي وضعها المشرع الحديث وضمّنها قوانين الأحوال الشخصية.
في القرآن والسنة:
لم ينص القرآن على تصريح للمرأة بالعمل، وكذلك لم يفعل مع الرجل، ربما لأن كسب العيش بديهة، وربما لأن العمل، بالمطلق، كاد أن يكون غريزة ومن ألصق الأشياء بذات الإنسان، وربما لأنه والحياة صنوان لا تصلح بدونه ولا يُعدّ شيئاً بدونها. وإذا كان العمل حقاً للمرأة، فطرةً، وبصفتها الإنسانية فإنّ الإسلام، من جانب، وفّر لها المال والاستقلال في التصرف به؛ فقد جعل المهر حقاً للمرأة وواجباً شرعيّاً على الرجل، وأقرّ لها بحق في الإرث، فكأنه في الحالتين قد وفر لها رأس مال داعياً إياها إلى تنميته واستغلاله، وأقر لها بأهلية قانونية في التعاقد؛ فمن حين بلوغها راشدة، عاقلة يكون بمقدورها إدارة أموالها كما تريد، وجميع تصرفاتها نافذة في عقود البيع والشراء والهبة والإجارة...، وإنّ كانت هذه الأحكام بمجملها في صالح المرأة فهي، محصلة ونتيجة، في مصلحة المجتمع فهي تساهم في بنائه وازدهاره اقتصادياً واجتماعياً.
أما السنة فلم يرد بها على الإطلاق، لا بالقول ولا بالفعل، ما يشير إلى منع المرأة من العمل، بل العكس من ذلك، وبدءاً: استمرت النساء في مزاولة ما كنّ يزاولنه من أعمال من قبل مجيء الإسلام، ولننظر في ذلك: في الجاهلية كانت المرأة تمارس من المهن ما تسمح به بيئتها آنذاك وذلك لإعالة نفسها أو لمعاونة رجل الأسرة من أب وزوج، فكانت تشتغل في الزراعة وتربية الماشية وتمارس الصناعات اليدوية فتبيع ما تغزله وتنسجه أو ما تنتجه من زبدة وسمن أو جلد مدبوغ وغيرها من البضائع، وكانت المرأة تشارك في النشاط التجاري بتجارة داخلية محدودة وموسمية فتبيع في السوق المحلية أو العامة كسوق عكاظ(1)، وقد يكون لها مقر للبيع والشراء تعمل فيه طيلة العام وتبيع فيه ما تنتجه هي صناعياً أو على سبيل المثال: أم المنذر بنت قيس التي كانت تتاجر بالتمر على عهد الرسول(ص)، وأسماء بنت مخربة بن جندل، التي أسلمت وهاجرت إلى المدينة وكانت عطّارة يأتيها العطر من اليمين فتبيعه في المدينة(2)، ومن العطارات أيضاً "منشم"، ولا يكاد يخلو كتاب تاريخ أو أدب من ذكرها(3). ومن النساء من عملن بالتجارة الخارجية عن رغبة أو بسبب من ثرائهن كخديجة بنت خويلد(رض)، وكانت تملك شبكة تجارية واسعة، ومن الناس الذين عملوا معها النبي الكريم، وكان قد تاجرَ لها في مالها الذاهب إلى الشام. ونستطيع أن نحرز سمات هذا النمط من النساء؛ فقد كانت التاجرة تمتلك، إلى جانب قوة الشخصية وطول البال والقدرة على إقامة شبكة من العلاقات –وهي صفات التاجر الأساسية- صفات استثنائية أخرى تجعلها قادرة على ممارسة هذه المهنة الصعبة في بيئة قاسية حيث لا حقوق واضحة والقوي يحاول ابتلاع الضعيف.
وكانت المرأة في زمن الدعوة حريصة على الجمع بين أمرين: استمرار ومضاعفة نجاحها في عملها، والتقيد بما جاء به الإسلام من قواعد خاصة بالعمل التجاري؛ فها هي امرأة تاجرة تذهب إلى الرسول(ص) وتشرح له طريقتها في تحقيق الأرباح في البيع والشراء، وتسأله أن يرشدها في أمرها بما يوافق تعاليم الإسلام بحيث لا تظلم ولا تُظلَم، فيدلها على ذلك(4).
ويظل العمل في المقام الأول للارتزاق والمعيشة، ولكن قد يفعله الإنسان لأمر غير هذا، فقد يجد فيه معنى لحياته، لتحقيق ذاته وما يصبو إليه؛ فهذه زينب بنت جحش، أحد أزواج النبي الكريم، كانت تعمل بيدها، وكانت حاذقة ماهرة، فكانت تدبغ الجلود وتخرز(5) وتبيع منتوجاتها، ليس لغرض المعيشة وإنما كانت تتصدق بما يأتيها من مال على المساكين والمحتاجين(6).
إنّ موقف الشريعة من عمل المرأة سليم وطبيعي، فهو دين واقعي النظرة؛ ذلك أنّ العمل سواء أكان لكسب العيش أو لغيره من الأسباب، يعمل على دفع المجتمع إلى الأمام؛ يبنيه ويطوره ويُيسر أسباب الحياة فيه، وهذا لا يتم بدون جهود المرأة، وإنّ دورها الهام والأساسي في بناء الأسرة –مجتمع الأمة الصغير- لا يلغي دورها في إعمار مجتمع الأمة عن طريق عملها.
استمرت المرأة، إذاً، بعد مجيئ الإسلام في ممارسة الأعمال الحرة، ولكنها دُعيت أيضاً إلى تقلد الوظائف التي استُحدثت بسبب من طبيعة المجتمع الجديد؛ في هذا المجتمع انعدم معيار الجنس، لم يكن التعامل يتم على أساس من امرأة ورجل، بل كان هناك معيار الكفاءة والأهلية والقدرة على الفعل، وهكذا ولّى عمر بن الخطاب الشفاء بنت عبدالله القرشية العدوية، الحسبة في أحد أسواق "المدينة"، وكان لها مقر عمل فيه، لأنّ عمر كان إذا دخل السوق دخل عليها(7). إنّ الحسبة من أهم وأخطر المناصب في المجتمع الإسلامي حيث الدين والدولة وجهان لعملة واحدة، وحيث الولاية على العبادات وإقامة شعائر الدين لا تنفصل عن تدبير مصالح الناس وسياستهم. فهي، الحسبة، تضم مسؤوليات لا حدّ لها بدليل تعريفها على أنها: "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا أُظهر فعله"(8). إنّ تولية المرأة لهذا المنصب يدلنا على عظيم تقدير الإسلام لها وثقته بها. ونرجع إلى حديثنا عن الشفاء المُحتسِبة فنذكر شيئاً عن صفاتها وشخصيتها؛ فقد كان لهذه المرأة قبل الإسلام شأنٌ ومكانة ذلك أنها كانت ممن يحسنون الكتابة، وإذا عرفنا ندرة من كان يكتب فيهم، رجالاً ونساء، عرفنا أهمية الشفاء. وكان الرسول(ص) أقطعها داراً بالمدينة، وكان يزورها ويقيل عندها. إنّ عمر بن الخطاب كان يقدّر كفاءة هذه المرأة حق قدرها؛ فعلاوة على توليتها الحسبة كانت من بين من يستشيرهم في مصالح المسلمين ويعمل برأيهم، يقول ابن عبد البر في "الاستيعاب" وكان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضلها"(9).
واستطراداً نقول إنّ المرأة، كالرجل تماماً، لم تكن تنتظر تكليفها من أُولي الأمر لتقوم بما هي مأمورة به من بناء المجتمع الإسلامي والمحافظة على مصالحه، بل كانت تبادر إلى ذلك برضا وطواعيّة؛ ويحفظ لنا التاريخ سيرة سمراء بنت نهيك الأسدية هذه الصحابية الجليلة التي روت الحديث ورُوي عنها، لقد عمّرت، ولكن تقدمها في السن لم يكن عائقاً لها فكانت تمرّ في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وكانت تحمل سوطاً في يدها تضرب الناس به على ذلك(10).
في القرن الثاني للهجرة حين أخذ الفقه يأخذ شكلاً واضحاً، متماسكاً وضع الفقهاء قواعد تحد من حق المرأة، الزوجة حصراً وتحديداً، في العمل أو تحرمه عليها تقريباً. وكان الهدف من ذلك محاولة حجب المرأة في البيت ومنع كل نشاط لها خرجه. وقد يبدو الأمر غريباً في ظل قواعد القرآن والسنة التي لم تقل بهذا إطلاقاً، ولكن لفتاوى الفقهاء هذه عواملها الاقتصادية والاجتماعية وعلى الأخص الساسية، فهذا الأخير أهم عامل على الرغم من تستره وبقائه في الظل.
وقبل أن ندخل في بحث هذه العوامل نذكر شيئاً عن المرأة والسياسة بمعناها الاصطلاحي البحت.
إن كانت السياسة، في أحد أبسط تعاريفها، قيادة المجتمع وبناءه حسب أفكار ومعتقدات يحملها الإنسان أو المجموعة نفسها، فإنّ الإسلام بهذا المفهوم جعل للمرأة نصيباً مفروضاً في العمل لأجل هذا الهدف.
نقرأ في القرآن: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»(11)، "أي جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف"(12)، وتعميرها يكون بإنشاء مجتمع عادل فيها تتحقق صفة العدالة فيه بإقامة "الدين والفرائض والحدود"(13). إنها مسؤولية ضخمة وعمل صعب، لذا يصفها الله بالأمانة: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ»(14). أُوكلت، إذاً، هذه المهمة للإنسان، والإنسان لفظ يشمل الذكر والأنثى.
يتلقى الإنسان أوامر الله ونواهيه، وعده ووعيده بصيغ وأشكال مختلفة؛ بصيغة المطلق، أو "يا أيها المؤمنون" أو "يا أيها الناس" أو بذكر الجنسين معاً الذكر والأنثى للتأكيد: «فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى»(15)، «وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى...»(16).
ثمّ يأتي الأمر صريحاً في وجوب تعاون الجنسين على بناء المجتمع الذي أمر الله به؛ وماهية هذا التعاون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيفيته: إعطاء الولاية المطلقة للذكر على الأنثى والأنثى على الذكر، تنصّ الآية على أن: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ»(17). والولاية هي: الخُطّة(الأمر) والامارة والسلطان.
ويذكر الله جزاء الذين أقاموا الدين والفرائض والحدود، أنها مغفرة وأجر عظيم، ويصفهم بـ «الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ»(18).
هذا ما جاء به القرآن بخصوص دور الإنسان في عمارة الأرض، ويهمنا دور الأنثى من هذا الإنسان.
لقد وُضعت هذه الآيات موضع التنفيذ في زمن الدعوة، فعملت المرأة ومنذ البداية، في التهيئة لمجتمع الأمة الجديد، فقد هاجرت كما هاجر الرجل واجتمعت في "الصفا" بالرسول(ص) أسوة بالرجال، وشاركت في الحروب ضد الوثنيين فأسهم الرسول(ص) لها سهم رجل، وبايعته بعد فتح مكة، وكانت تحضر مجالسه وتحضر حلقات العلم والوعظ والصلاة جماعة في المساجد.
وكانت تساهم في صنع القرارات، فكانت تدلي برأيها، وكانت تُستشار فتشير وتُطاع، وهكذا كان يفعل معها محمد النبي وزعيم الأمة، كان يبث زوجه خديجة همومه وألمه فتستمع إليه وتنصحه وتقترح عليه فيأخذ بنصيحتها واقتراحها، وفقد بموتها ناصحاً ومستشاراً أمنياً، يقول ابن هشام في "السيرة النبوية"، "فتتابعت على رسول الله(ص) المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها..."(19). وحين تحرج وضع الرسول(ص) في صلح الحديبيّة أدرك بثاقب بصره أنه سيجد الحل الصحيح والصائب عند أم سلمة، ولم تخيب أم المؤمنين ظنه، وكان رأيها الذي عمل به الرسول(ص) في محله (انظر مقالة الأحاديث الكاذبة).
وكما كان يُستجار بالرجل كان يُستجار بالمرأة، فيكون الشخص في عهدتها وحمايتها، وهو عرف في الجاهلية أمضاه وأقره الرسول(ص). وصلَّت النساء جنباً إلى جنب مع الرجال على الرسول(ص) بعد وفاته.


الهوامش:
1- وكان سوق عكاظ يشهد فعاليات أخرى للمرأة مثل الرجل تماماً، ومنها إنشاد الشعر. فنقرأ في كتب التاريخ والأدب خبر الخنساء وروايتها لشعرها ومديح النابغة الذبياني لها، وكانت العرب حكمته، وقتها، فيمن هو أشعرهم.
2- المرأة في التاريخ العربي. د. ليلى الصبّاغ. ص121.
ويذكر الكتاني في "التراتيب الإدارية" أكثر من عطّارة كن يبعن العطر في المدينة.
3- وفي الأمثال: "أشأم من عطر منشم"، وكان الرجال العرب يتطيبون عندما يذهبون إلى القتال، كما كان القتلى منهم يُطيّبون بالكافور قبل الدفن كجزء من مراسيمه. ويبدو أنّ تجارة منشم في العطر كانت واسعة ومشهورة بحيت إنّ الكثير من العرب المتحاربين يقصدونها وبالتالي فالكثير منهم يُقتلون فكان هذا سبب تشاؤمهم من عطرها. وقال الشاعر زهير بن أبي سلمى (ت 13 ق. هـ):
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم.
4- أعلام الموقعين. ج4. ص326.
5- خياطة وعمل الخف.
6- أعلام النساء لكحالة. ج2. ص61.
7- نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي للقاسمي. ح2. ص 591.
8- الأحكام السلطانية. ص 299.
وهكذا عرّفها الماوردي في كتابه.
9- الاستيعاب. ج4. ص 340، 341.
وككانت قد اتخذت للرسول(ص) فراشاً وإزاراً ينام فيه.
10- المصدر نفسه. ج4. ص 335.
11- سورة الأنعام، الآية: 165.
12- تفسير ابن كثير. ج3. ص 142.
13- المصدر نفسه. ج5. ص 523.
14- سورة الأحزاب، الآية: 72.
15- سورة آل عمران، الآية: 195.
16- سورة النساء، الآية: 124.
17- سورة التوبة، الآية: 71165.
18- سورة الأحزاب، الآية: 35.
19- سيرة ابن هشام. ج2. ص 46.

المصدر:  الصراف، شيماء: أحكام المرأة بين الاجتهاد والتقليد (دراسة مقارنة في الشريعة والفقه والقانون). ط1، دار الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2008م.

التعليقات (0)

اترك تعليق