مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

زليخا وابنتا شعيب.. بين المجون والعفّة

زليخا وابنتا شعيب.. بين المجون والعفّة

- المشهد الأوّل: (زليخا) – الدعوة إلى الفحش:
يُزاح الستار في هذه القصة عن امرأة متزوجة وفي قصرها يعيش فتى ربّته منذ أن اشتراه زوجها وراح يزداد مع الأيام حُسناً وبهاءً وذكاءً ووداعةً وخلقاً كريماً «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (يوسف/ 22)، وهذه الصفات الرائعة تغري النساء بالشبان الأشداء الذين يجمعون محاسن الجمال الخَلقي ومحاسن الجمال الخُلُقي.
وفي هذا المشهد الفاضح الذي تفوح منه رائحة الغريزة الجنسية نشاهد امرأة العزيز (زليخا) وهي تبادر إلى دعوة (يوسف)(ع) الشاب الجميل النبيل إلى ممارسة الفحشاء والمنكر» «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ» (يوسف/ 23).
إنها تغلق الأبواب لتمنع وتقطع أيّة حالة من حالات الفرار والهروب، وتغري وترغَب بنفسها على أنها مستعدّة لممارسة الشهوة المحرّمة مع شاب لا تربطه بها أيّة علاقة شرعية، فضلاً عن أنها متزوجة وفي عهدة رجل.
ويفرّ (يوسف) من شباك المعصية المنصوبة له، لتلحقه وتشقّ قميصه من الخلف لتجرّه أو تعيده ثانية إلى تلك الشباك، لكنّه لجأ إلى الله فأنقذه منها.
وبعد أن يُسدَل الستار عند هذه اللقطة، يُزاح مجدداً عن لقطة مشبوعة أخرى.
فالنساء اللواتي كنّ يترددن على امرأة العزيز من جيرانها وصويحباتها واللائي أنحين عليها باللائمة لفعلتها مع (يوسف) دُعين من قبلها ليرينه عن كثب، فما كان منهنّ حين سقط نظرهنّ عليه إلا أن قطّعن أصابعهنّ وهنّ لا يشعرن من شدّة سكرة الانجذاب إلى جماله الخلّاب «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ»(يوسف/ 31)، ورحن يراودنه عن نفسه فآثر السجن على دعوتهنّ إلى اجتراح المنكر واقتراف السيِّئات.
- المشهد الثاني: (بنتا شعيب) عفّة واستحياء:
الستارةُ هنا تُزاح عن مشهد هادئ لا تفور فيه الغرائز ولا تغلي العواطف ولا تشبّ الشهوات شبوب النار في الهشيم. وإنّما هي أجواء النقاء والصفاء الروحاني، واللقاء المهذب الذي يتبادل فيه الطرفان آيات الاحترام والتهذيب، ويراعيان قيم العفّة والاحتشام.
هنا نلاحظ موسى(ع) وهو الفتى القوي في بلدة (مدين) وقد رأى فتاتين ترعيان الأغنام وتقفان بانتظار أن يأتي الدور لتسقيا غنمهما، وقد رأى أنّهما تتحاشيان مزاحمة الرجال والاحتكاك بهم، وتنتظران انصرافهم حتى يخلو لهما البئر. وهلّموا نستمع إلى ما جرى من حوار.
«وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ» (القصص/ 23-24).
ففي هذا المشهد يجري الحوار بأدب جمّ.. موسى(ع) هو الذي يبادر إلى السؤال لأنّه رجل غيور يجد أنّ من مسؤوليته أن يقدم خدماته لفتيات عفيفات، وهو بالفعل قادر على خدمتهنّ من دون أن يضطرهنّ إلى التأخير، ونرى أن سؤاله لا يخرج عن حدود الأدب، فهو استفسار واستيضاح عن السبب في عدم السقاية. وجواب الفتاتين لم يخرج أيضاً عن تلك الحدود، بل ينمّ عن خلق عفيف، فالسبب المانع هو الخشية من الانحشار بين الرجال الذي يتنافى مع حياء الفتيات وعفتهنّ، ثمّ أنّ الذي أخرجهما إلى الرعي والسقي هو أنّ أباهما شيخٌ كبير السن لا يقوى على القيام بمهمة الرعي والسقي، فهما تقومان بذلك اضطراراً، ولو كان الأب قادراً على ذلك أو يمتلك الابن الذي يقوم بذلك لما خرجتا أو قامتا بعمل لا يمارسه في العادة إلّا الرجال، مراعاةً للحشمة وحفاظاً على الستر والعفاف.
وبعد أن يقوم موسى(ع) بالسقي لهما تنتهي علاقته بهما عند هذا الحدّ فلا يستغرق معهما في أحاديث جانبية بغرض توطيد العلاقة مما قد يفعله بعض الشبان الذين يقدمون خدماتهم للفتيات «فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ» (القصص/ 24)، أي أنّه تفادى استغلال خدمته لهما لمزيد من الانفتاح عليهما، كما أنهما غادرتا مكان السقي بكامل حيائهما كما جاءتاه بكامل حيائهما.
- مقارنة بين المشهدين:
بين مشهد (زليخا) الذي يتحرّك في أجواء غريزية ساخنة، ومشهد (بنتي شعيب) الطاهر الذي يدور في فضاء إيماني هادئ ورزين، يمكن تثبيت نقاط المقارنة التالية:
1- (زليخا) في المشهد الأوّل هي التي تحرّشت بيوسف(ع) ودعته إلى إطلاق نيران الشهوة، أي أنّها المحرضة والمشجعة على الإغواء وفعل الزنا. وفي المشهد الثاني لم تطلب (بنتا شعيب) من موسى(ع) أن يسقي لهما، مما قد يكون سبباً أو مقدمة للتعارف والانجذاب، وكما قلنا فالبعض من الشبان قد يستغل وينتهز مثل هذه الفرصة لأغراض أخرى. ومبادرة يوسف(ع) أتت من منطلق إنساني بحت، كما لو أنّك تجد فتاة محتشمة بين مجموعة من الرجال تقف في انتظار شراء شيء ما، وتقديراً منك لحراجة موقفها كونها الوحيدة بين الشبان والرجال، تتبرّع أو تتطوّع لخدمتها بنفسك حتى لا تتعرض إلى السوء والأذى.
إنّ حركة الفتاة باتجاه الشاب أو مبادرتها، هي التي تفتح الأبواب، وقد يبادر الشاب إلى التحرّش بها أو محاولة التغزّل بها أو استدراجها، لكنّها بمقدورها أن تغلق الباب بوجهه بإعراضها عنه وعدم تجاوبها معه، وقد ثبت أنّ الفتاة الملتزمة بسترها وعفافها أقل عرضة لمثل هذه الأمور، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد طلب منها الستر وأن لا تظهر زينتها وأن لا ترقِّق صوتها وأن لا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، فلأنّ تلك تشكل عوامل إغراء وإغواء، فإذا امتنعت عن ذلك، والشاب من جهته مطالَب بغضّ البصر، نكون قد صنّا العفاف من الطرفين.
2- المشهد الأوّل يتحرّك في أجواء الخلوة المغلقة المقفلة المنعزلة عن أعين الرقباء، الأمر الذي يؤجّج الغريزة أكثر ويُطمع الذي في قلبه مرض، ولولا أن يوسف(ع) كان يرى أنّ الله رقيب عليه، لصبا إليهنّ.
أمّا المشهد الثاني فيتحرك في الهواء الطلق وبمرأى من الناس ومسمع، فليس فيه رائحةُ ريبة أو دواعي فتنة، وإنّما هو يجري ضمن المتعارف عليه من الأحاديث الطبيعية في التعامل، وهذا هو السبب في تحذير الحديث الشريف من الخلوة بين الجنسين خشية أن يكون الشيطان حاضراً.
3- الحوار في المشهد الأوّل صريح ومكشوف وفاضح، مما يعبّر عن سقوط رداء الحياء تماماً، وذلك من خلال مفردات «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِه»أي طلبت منه ممارسة الفحشاء علناً «وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ» أي أنّها متأهبة لذلك.
أمّا الحوار في المشهد الثاني فلا يتعدى حدود الحوار المؤدب المهذّب كما لو كان بين شخصين من جنس واحد، فالسؤال (من موسى) عفيف، والجواب من (بنتي شعيب) عفيف، وليس في الحوار زيادات تخرجه عن نطاق العفّة والحياء، حتى أنّنا نرى ذلك في المشهد اللاحق: («فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا» (القصص/ 25).
وكلمة (تمشي على استحياء) تدلّل على أنّ الكلفة لم تُرفع بين الفتاة وبين موسى(ع) فما زالت –رغم التعارف الأوليّ– محفوظة مصونة، والحوار كما كان عفيفاً في البداية بقي عفيفاً حتى النهاية، فهي لم تلمّح ولم تصرّح برغبتها فيه، وإنّما نقلت له رسالة مختصرة تفيد أنّ أباها طلبه ليكافئه على فعله.
وحتى حينما أعربت عن الرغبة، فإنّها تحدّثت بكامل الأدب الأنثوي المغلّف بالحياء الذي لا يتطرق إليه السوء: «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ» (القصص/ 26)، فهي لم تتحدّث عن وسامته وعذوبة كلامه ورقّة ابتسامته، وإنّما تحدّثت عن (قوّته) و(أمانته) كشرطين أساسين في الرجل المطلوب للزواج إسلاميا، وكلمة (الأمين) تحمل تعبيراً واضحاً عن عفاف موسى (ع) واحتشامه واحترامه لمقامه ومقام الفتاة الأجنبية عنه.
- تطبيقات عملية:
في واقعنا المعاصر نلمس مصاديق كثيرة لكلا النموذجين، هناك مَن يَشبهن (زليخا) في انفلاتهنّ الأخلاقي وتمزّق رداء الحياء لديهنّ، وهناك مَن يشبهن (بنتي شعيب) في سترهنّ وعفافهنّ وأدبهنّ.
فالتي تعيش في أجواء الاختلاط الحميم سواء في المدارس أو المجالس، فإن ذلك سيوجد أرضية خصبة لنمو أو التهاب الشهوة الجنسية بينها وبين الشبان الذين تجالسهم وتحادثهم وتسامرهم وتلاعبهم خاصة إذا كانت ترتدي من الثياب أفضحها، وتضع من الزينة ما يرغّبُ فيها، هي أقرب إلى شخصية (زليخا).
والتي تخرج متبرّجة كاشفةً عن ذراعيها وساقيها وصدرها وشعرها، وما يغطي جسدها يصفه في ضيقه وانحساره، حتى وإن لم تقل بلسان مقالها للشبان اقتربوا منِّي، أو تحرّشوا بي، أو هلّموا انظروا إلى محاسني ومفاتني، فإنّها تقول ذلك بلسان الحال، فهي لم تخرج بهذا الشكل الفاضح إلا لتوقع الشبان في الفتنة ولتقول لهم ما قالت (زليخا) لـ(يوسف) (هيتَ لك) وهي إما أن تكون مستعدة لممارسة الفحشاء والمنكر، أو تتسلّى وهي ترى نظرات الشبّان تتطلّع إليها، ورغباتهم المكبوتة تتصاعد كلمات ماجنة على الألسان يرمونها بها.
وتلك التي تلقي بابتساماتها الموحية وغمزاتها المغرية وحركاتها المثيرة، ولا تحادث زميلها الشاب إلا برخيم صوتها، هي داعية إلى الفحشاء وإن لم تصرّح بها، ومثيرة للفتنة حتى وإن لم تفصح عن مراميها، وقد تدفع الشبان إلى ممارسة المنكرات لإطفاء حريق الشهوة الذي خلّفته وراءها.. إنّها أخت (زليخا) وإن لم تمارس فعل الفحشاء بطريقة عملية.
والذين يُبيحون للمعلمين الخصوصيين من الرجال أن يدرّسوا بناتهم خلف أبواب مغلقة، ويترددوا يومياً لساعة أو ساعتين، يفسحون المجال لما هو ممنوع أن يتنفّس، وقد أحدثت مثل هذه اللقاءات الثنائية المنعزلة نتائج مؤسفة.
كما أنّ تردد أصدقاء الأسرة من الشبان والرجال، أو إرسال العامل الذي يشتغل لدى والد الفتاة إلى بيته ليجلب له شيئاً من هناك، كلّ ذلك يساعد على فتح أبواب تلك البيوت على المحرّمات التي قد يستعصي غلقها لاحقاً.
وفي قبال هذه الصورة المؤسفة لا تعدم أن تجد أمثلة وصوراً حيّة لأخوات أو مثيلات (بنتي شعيب) في المجتمع. فالتي ترفض اللقاء بالغرباء والأجانب والمحارم في الخلوات، والتي لا تلتقي شاباً أو رجلاً إلا بحضور أبيها أو أمّها أو أخيها، تراعي الستر وتصون العفاف، وتحولُ دون تلاعب الشيطان بها أو بالزائر الذي قد تحدّثه نفسه بالسوء.
والتي ترفض الاختلاء بزميلها في غرفة الدرس، أو زاوية من حديقة الجامعة، أو منتزه المدينة، أو بعيداً عن الأعين في رحلة مدرسية، إنّما تحتاط لعفّتها ولعفّة الشاب أيضاً.
والتي إذا تحدّثت مع الجنس الآخر لا تتحدّث بنعومة وميوعة ودلع وغنج، وإنّما بلغةٍ ملؤها التهذيب والاحترام، والاقتصار على مقدار الحاجة والضرورة سواء في الهاتف أو في مقهى الانترنيت أو في اللقاء المباشر، هي كابنة شعيب تتعامل باستحياء.
والتي لا تسمح لخطيبها الذي لم يعقد عليها بعد أن يقربها أو يلمسها أو يقبّلها أو يغازلها، حتى وإن أراد ذلك بذريعة اختبارها، فهي لم تصبح زوجته بعد، أمّا إذا جرى العقد الشرعي الصحيح بينهما فلا إشكال، هذه أيضاً كبنت شعيب التي أثنى الله على موقفها مع موسى(ع) فلقد تعاملت معه على استحياء حتى أصبحت زوجة له.

المصدر: موقع البلاغ دوت كوم.

التعليقات (0)

اترك تعليق