مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

سليمان (ع) وبلقيس

سليمان (ع) وبلقيس

كان سليمان(ع) إذا جلس على كرسيه، جاءت الجن والملائكة، والإنس فاصطفوا حواليه، على كراسي معدّة لهم.
وجاءت جميع الطير التي سخّرها الله لسليمان، فاصطفت على رؤوس الجميع، لتظللهم من الشمس، وكان لكل طائر مكان مقرّر له، فإذا أشرقت أشعة الشمس على موضع من البساط نظر الحاضرون إلى الكوة، فعرفوا أي الطيور تخلّف عن وظيفته.
وكان الهدهد ـوهو طائر جميل، من خواصّه أنه ينظر إلى الماء في باطن الأرض- من جملة الطيور لتضلّل الجمع في الصافات على مجلس سليمان.
وذات مرّة نظر سليمان، وإذا بالشمس تخرق صفّ الطير، وتقع أشعة منها على حجر سليمان «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ» طلبها وتعرّف إليها، ليرى أي الطير غاب عن صفه، حتى أرسلت الشمس بريدها إلى المجلس.. وإذا بسليمان يرى أن الهدهد هو الغائب «فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ»؟ أي ما للهدهد لا أراه؟ هل حدث له حدث، «أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ»؟
وكيف يغيب الهدهد، بلا إذن؟ وهل يجوز لأحد الجند ـطيراً كان أو غيره- أن يترك وظيفته ليذهب حيت يشاء؟
غضب سليمان من هذا الحادث، وحلف قائلاً «لأعذِّبنَّه عذاباً شديداً» بنتف ريشه «أو لأذبحنّه» حتى يكون ذلك ردعاً لغيره من الجنود، وجزاءً على مخالفته الأمر، وهذا التعذيب أو الذبح يكون إذا لم يأتني الهدهد بعذر واضح «أو ليأتينّني بسلطانٍ» أي عذر لغيبته «مبينٍ» واضح لا يقبل الشك والإنكار.
لقد غضب سليمان على الهدهد لتركه وظيفته بدون استئذان ونوى عقوبته «فمكث» سليمان مكوثاً «غير بعيد» وما هي إلا فترة قصيرة، حتى رأى الهدهد راجعاً.
سأل سليمان الهدهد: أين كنت؟ ولماذا غبت؟ وما هي الحجة والعذر في تركك الوظيفة بدون استئذان؟
«فقال» الهدهد يا نبي الله لا تعجّل علي بالعقوبة، فقد ذهبت أستطلع لأجلك وإذا بي «أحطت» واطّلعت «بما لم تحط» ولم تطلّع «به» أنت «وجئتك من سبأ» وهي أرض في اليمن «بنبأ» أي خبر «يقين» فليس الكلام كذباً وإنما كلامٌ صادق.
وقد ورد عن النبي(ص): "إن سبأ كان اسم رجل ولد له عشر أولاد، وصاروا آباء قبائل، نحا نحو الشام منهم أربعة، وهم: لخم، وجذام، وغسّان، وعاملة. ونحا نحو اليمن منهم ستةٌ، وهم: كندة، والأشعرون، والأزد، وحمير، ومذحج، وإنمار: ومن انمار صارت: خثعم، وبجيلة"(1).
فسمّى تلك البلدة، باسم أبي هؤلاء الأولاد: رؤوس القبائل العربية.

قال سليمان للهدهد: وما هو النبأ الذي يكون عذراً لك في غيبتك؟
قال الهدهد: «إني وجدت» هناك مملكة عظيمة، وأناساً كثيرين، ووجدت «امرأة تملكهم» فملكهم امرأة، وهذا أمر غريب، فهل تصلح المرأة لإدارة الأمور؟
أليست المرأة خلقت عاطفيّة لإدارة البيت؟ وهل يمكن الجمع بين العاطفة التي تجيش بسرعة، وتخبو بسرعة، وبين الإدارة التي تحتاج إلى صلابة نفس وقوّة روح، وعدم تمايل عن الحق مهما تغلّبت العاطفة؟
«وأوتيت» تلك المرأة الملكة «من كل شيء» فقد أعطاها الله سبحانه أموالاً، وجيوشاً وقصوراً، وبساتين، وسائر ما هو لازم للبلاد.
وكان من قصّة الملكة، أنّ أباها كان ملكاً، ثم مات فاجتمع الوزراء والقواد على تتويجها، لتكون ملكاً رمزياً، وكان الذين يديرون البلاد هم كبار رجال الدولة.
وقد كان اسم هذه الملكة (بلقيس).
ثم قال الهدهد لسليمان(ع): «ولها عرش عظيم» وقد ورد في وصف عرشها أن مقدّمه كان من ذهب مرصّع بالياقوت الأحمر، والزمرّد الأخضر، ومؤخره من فضة، مكلّلة بألوان الجواهر وعليه سبعة أبيات، لكل بيت باب مغلق.. هناك تجلس الملكة لتحكم البلاد.
هكذا كانت الملكة «أوتيت من كلّ شيء ولها عرشٌ عظيم» أمّا كيف كان حال الشعب فذلك مما لم ينقل إلينا، لكن الطابع العام في الحكومات الكافرة غالباً، الاعتداء والظلم والاستبداد إما من الملك، أو من طبقة الأشراف والنبلاء المحيطين به.
لقد حكى الهدهد لسليمان ما رآه عن الملكة وعرشها. لكن بقي شيء، وهو ما هو دين الملكة ودين قومها؟
لقد قال الهدهد «وجدتها وقومها يعبدون الشمس من دون الله» فهم عوض أن يعبدوا الخالق الذي أعطاهم كل شيء، يعبدون الشمس «وزيّن لهم الشيطان أعمالهم» هل أراد الهدهد بهذا تأكيد الكلام السابق بأن أراد بأعمالهم عبادتهم للشمس، أو أراد أنهم كانوا مغمورين في الفسق والفجور؟[...] فقد أتم الهدهد كلامه قائلاً: «فصدّهم» الشيطان «عن السبيل» الواضح، الذي هو طريق الله سبحانه «فهم لا يهتدون» إلى الحق في العقيدة والعمل.
«ألاّ يسجدوا» الملكة وقومها «لله الذي يخرج الخبءَ في السماوات والأرض» إن الله سبحانه هو الذي أخرج النعم المخفية الموجودة في السماوات والأرض، فهو مخرج الشمس والقمر والنجوم، والسحاب والمطر، وما إليها مما يكون مخفياً في السماوات، يخرجها لينفع البشر.. وهو سبحانه الذي أخرج المياه والكنوز والأثمار وغيرها من جوف الأرض لينفع الإنسان.. إن الملكة وقومها لم يكونوا يسجدون لهذا الإله العظيم وهو الذي «يعلم ما تخفون وما تعلنون» أيتها الملكة وأيها القوم فهو المعطي وهو العالم.
«الله لا اله إلا هو رب العرش» الملك «العظيم» الذي هو أعظم من عرش بلقيس.. هكذا أخبر الهدهد سليمان(ع) معتذراً من غيبته.
لما سمع سليمان(ع) الخبر المدهش من الهدهد تريّث في الأمر، قائلاً «سننظر أصدقت» في خبرك «أم كنت من الكاذبين»؟ فإن صدقت فأنت معذور في غيبتك وإلا استحققت عقابين: عقاب الغيبة بدون إذن، وعقاب الكذب.
ثم إن سليمان(ع) كتب كتاباً، وختمه بخاتمه، وأعطاه إلى (الهدهد) ليذهب به إلى الملكة، إنه كتاب دعوة إلى الإسلام والإيمان، فهل تقبل الملكة والقوم الإيمان بالله حتى يكونوا في أمن وسلام، أم يختارون العناد والإصرار حتى تجوز لهم العقوبة؟
دفع سليمان(ع)، الكتاب إلى الهدهد، قائلاً: «اذهب بكتابي هذا فألقه» يا هدهد «إليهم» إلى الملكة وقومها «ثمّ تولّ» ابتعد «عنهم» لتكون في موضع تسمع كلامهم، ولا يرونك «فانظر» يا هدهد «ماذا يرجعون» أي يرجع بعضهم إلى بعض الكلام حول الكتاب وقد أراد سليمان(ع) أن يتخذ التدابير اللازمة على ضوء جواب بعضهم لبعض.
مضى الهدهد بالكتاب، حتى وصل إلى سبأ وإذا الملكة مع وزرائها في المجلس، فألقى الكتاب إلى الملكة، وإذا بها تدهش، وتفتح الكتاب فتقرأ محتواه..
وهنا توجّهت إلى وزرائها وأشراف قومها «قالت يا أيها الملأ» الأشراف «إني ألقي إلي كتابٌ كريم» يتبين من محتواه، ومرسله أن الكتاب ذو كرامة ورفعة «إنه» أي الكتاب «من سليمان»، النبي ملك الإنس والجن والملك والحيوان «وإنه» مقرونٌ «باسم الله الرحمن الرحيم» لا باسم الشمس التي نعبدها.. أما محتوى الكتاب فهو «ألاّ تعلوا عليّ» أي لا تتكبّروا علي بعد الانصياع إلى أوامري «وائتوني» لتأتي الملكة والأشراف «مسلمين» هذا ما كان في الكتاب، وهكذا قرأته بلقيس على قومها.
من الطبيعي أن يعلو الوجوم جميع من في المجلس، إنه موقفٌ رهيب أن يدعو ملك أقوى، ملكاً أضعف إلى الاستسلام والانقياد فما الجواب؟ وما هو الموقف؟ وكيف التفكير؟
ولذا تحيّرت الملكة في الجواب و«قالت» موجهةً الخطاب إلى الأشراف: «يا أيها الملأ أفتوني» أشيروا علي «في أمري» هذا، بماذا ينبغي أن أجيب؟ وما هو الأصلح بحالنا، الخصام أو الاستسلام «ما كنت قاطعة أمراً» أمضي فيه برأيي وأقرّر التقرير النهائي وحدي «حتى تشهدون» تحضرون أنتم وتعطون آراءكم حول الموضوع.
فانبرى القوم لجواب الملكة «قالوا نحن أولو قوة» أصحاب قوة وقدرة وعَددٍ وعُددٍ «وأولو بأس شديد» شجاعة شديدة، ومراس في الحرب.. هذا ما عندنا «و» لكن «الأمر إليك» أيتها الملكة «فانظري» في الأمر «ماذا تأمرين» فنحن مطيعون لأمرك.
تفكّرت الملكة في الأمر مليّا، فهل ترفع اليد عن دينها وتُسلم، أو ترفع اليد عن ملكها وتحارب حرباً يائسة؟ إنها تعلم بقوة سليمان وقدرته، ولذا «قالت» في جواب القوم ـحيث ألقوا المسؤولية على عاتقهاـ : «إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها» فإنهم يقتلون أبناءها ويهدمون أبنيتها ـكما هي الطبيعة في الحروب- «وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة» يأتون إلى الحكم بأناس جدد، ويحاسبون السلطة السابقة عما كانت تعمل.
«وكذلك» كما قالت الملكة «يفعلون» الملوك الذين يدخلون البلاد حرباً، وعنوةً.. إذ ليس من الرأي المحادثة مع سليمان..
ليس من الصالح الحرب مع سليمان، لكن هل الطريق منحصرٌ في الاستسلام؟
كلا، إن هناك حلاً وسطاً للقضية ـلو نفعت الحلول- وما هي أيتها الملكة؟ إنها المجاملة والمصانعة ليلين قلب (سليمان) وليعطف نحوهم، فيتركهم وشأنهم: «وإني مرسلة إليهم بهدية» ومن شأن الهدايا تليين الخصومات والخصوم «فناظرة بم يرجع المرسلون» الذين أرسلهم مع الهدية، فهل يرجعون ببشارة قبول سليمان الهدية وإغضائه عن المخاصمة، أم يرجعون برد الهدية، حتى نرى في الأمر؟
هكذا قرّرت الملكة، ووافق الوزراء على التقرير، وما أجمله من حلّ ـإن أفادـ؟ فأرسلت الملكة هديّة ثمينة ـربّما تبالغ القصص في مزاياها وخصوصيّاتهاـ لكنها على كل حال، كانت ثمينة، تليق بمقام المرسلة، وبمكانة المرسل إليه، ونوعيّة العطف المترقب من ورائها.
«فلمّا جاء» المرسل بالهدية القيمة (سليمان) استنكر سليمان الأمر، وذوي عنهم، إنه نبي لا يريد إلا هداية البشر، فكيف يترك أمّة كبيرة تتحكّم فيها الخرافات فتعبد الشمس من دون الله؟
(قال) مستنكراً: «أتمدّونني بمالٍ» أي أتزوّدونني بمال الدنيا؟ إني لا أحتاج إلى المال «فما آتاني الله خيرٌ مما آتاكم» فإني أملك الملكين: الملك الدنيوي والملك الإلهي ـبفضل الله تعالى-.
«بل أنتم» يا أهل الدنيا «(بهديّتكم» أي بإهداء بعضكم لبعض الهدايا «تفرحون» أما أنبياء الله وأهل الآخرة، فإن فرحتهم تابعة لمرضاة الله تعالى فإن رضي عنهم فإنهم يفرحون، وإلا فلا فرح له فيما سوى ذلك.
توجه سليمان إلى رسول الملكة قائلاً: «ارجع إليهم» بالهدية، وأخبرهم أنهم إن لم يؤمنوا وتمادوا في الغي «فلنأتينّهم بجنود» كثيرة «لا قبل لهم بها» ولا طاقة لهم بتلك الجنود، ولا قدرة لهم على دفعها «و» إذا حاربناهم «لنخرجنّهم منها» أي من تلك القرية (سبأ) «أذلّة وهم صاغرون» حقراء لا قدر لهم ولا قيمة.
جاء الرسول إلى (بلقيس) وقومها، وأخبرهم بمقالة سليمان، وعلمت الملكة أنه نبي من عند الله وليس ملكاً فحسب، ولذا لم تجد بدّاً من الاستسلام والإسلام، فتجهزت الملكة مع أشراف قومها للمسير إلى سليمان(ع)، وكأنها أرادت بذلك إظهار خضوعها، وأنها مُسلّمة إليه مقاليد البلاد، ونفسها، فأخبر جبرئيل (ع) سليمان بمسيرها.
أراد سليمان(ع)، أن يري لها عظمته، حتى تكون أقرب إلى الطاعة والانقياد، ولتكون حجّة على نبوّته، ولذا طلب من زعماء أصحابه أن يأتوا بعرشها العظيم إلى حيث مقرّ سليمان، فقال: «يا أيها الملأ» الأشراف من أصحابي «أيكم يأتيني بعرشها» أي سرير ملكها الموجود في (سبأ) «قبل أن يأتوني»هي وأشراف قومها «مسلمين» منقادين لله مطيعين لي؟
«قال عفريت» ماردٌ قويٌ «من الجن» الذين كانوا مسخرين لسليمان: «أنا آتيك» يا نبي الله «به» أي بالعرش «قبل أن تقوم من مقامك» أي من مجلسك، وهذا كنايةٌ عن الإتيان به في نصف يوم تقريباً «وإني عليه لقويٌ» قادر على حمله، والإتيان به في هذه المدة القصيرة «أمين» لا أخون في ذهبه وجواهره وحليه.
«قال الذي عنده علمٌ من الكتاب» وهو آصف بن برخيا، وزير سليمان، وكان يعرف اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب فوراً ـولعل المراد بالكتاب اللوح المحفوظـ «أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك» بمقدار لمح البصر.
استحسن سليمان كلام (آصف)، وطلب منه إحضار العرش. وقد أراد سليمان بذلك إظهار فضل (آصف) وإلا فالأنبياء هم أقدر الناس على إنجاز المهام ودعاؤهم مستجاب غير مردود.. فدعا الله سبحانه (آصف) أن يحضر العرش، وذكر الاسم الأعظم، وإذا بالعرش العظيم حاضرٌ عند سليمان.
«فلمّا رآه» سليمان(ع) «مستقرّا عنده» حاضراً لديه، توجه إلى الله سبحانه في ابتهال، «قال هذا من فضل ربي» وإحسانه بالنسبة إلي، وإنما تفضّل علي بهذه النعمة «ليبلوني» أي يختبرني «أأشكر» نعمته «أم أكفر»؟ كفران النعمة عبارة عن عدم شكرها.
ثم أردف سليمان(ع)، قائلاً: «ومن شكر فإنما يشكر لنفسه» فإن فائدة الشكر عائدة إلى نفس الشاكر ـكما قال سبحانه: «لئن شكرتم لأزيدنكم»ـ «ومن كفر» ولم يشكر نعم الله تعالى «فإن» ذلك لا يضر الله تعالى لأن «ربي غنيٌ» عن العالمين «كريم» يتفضّل على المؤمن والكافر، فلا يضرّه الكفران.
وتوجه سليمان إلى أصحابه و«قال» لهم «نكّروا لها عرشها» أي غيّروا السرير تغييراً إلى حال تنكره بلقيس ولا تعرفه إذا رأته، إما بتغيير لونه أو تغيير هيكله، وقد أراد سليمان بذلك اختبار عقل بلقيس هل تعرف أنه عرشها أم لا؟ «ننظر» إلى عقلها «أتهتدي» وتعرف أنه عرشها «أم تكون من الذين لا يهتدون»؟
وهكذا تم أمر سليمان، ونكّر العرش، واستعد سليمان للقاء الملكة وقومها ـوالملكة لا تعرف عن أمر عرشها شيئاًـ.
لقد أمر سليمان قبل مجيء بلقيس، الجن والبنّائين، أن يعملوا (صرحاً) أي قصراً من الزجاج، وفرش أرض القصر بالزجاج الصافي، وكان ما تحت الزجاج فارغاً، فأمر بملئه ماء، وجعل فيه الأسماك والضفادع، وما أشبه، وجعل سريره في أعلى القصر، حتى إذا رآه الإنسان غير العارف بحقيقة الأمر، تخيّل أن ساحة القصر مملوءة بالماء والأسماك، وأن سرير سليمان موضوع على الماء.. ولعلّه فعل ذلك إظهاراً للعظمة، حتى تكون بلقيس وقومها أسرع في الإيمان والانقياد ـ إذ قد اعتادت النفوس اتباع العظماء وأهل الجلال والثروة ـ أو لاختبار عقلها هل تعرف الزجاج من الماء أم لا؟
انتهى السير بالملكة وقومها، إلى محل العرش «فلمّا جاءت قيل» لها، والقائل بعض من حضر «أهكذا عرشك»؟ وكانت بلقيس حصيفة، ففكّرت في نفسها: هل هو عرشها أم غيره؟ إن كان هو فكيف جيء به؟ واحتملت قدرة سليمان على مثل هذا الأمر؟ ولذا «قالت كأنه هو» فلم تجب لا بالإيجاب التام، ولا بالسّلب الكامل، وإنما قالت كلمة تحتمل الأمرين، لئلاً تكذّب، إذا خالف كلامها الواقع.
ثم قالت ـوهي تظهر عدم استغرابها من إتيان سليمان بعرشهاـ: «وأوتينا العلم من قبلها» أي قبل أن تنظر إلى آية سليمان في مجيء العرش «وكنّا مسلمين» لسليمان، ولذا أتيناه «وصدها» سابقاً عن الحق ـحيث كانت تعبد الشمس- «ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين» بالله، عابدة هي وقومها للشمس.
مرّت بلقيس من موضع عرشها، حتى وصلت إلى باب (الصّرح) الذي جلس فيه سليمان، لاستقبالها، فلمّا وصلت، ونظرت إلى الماء والأسماك «قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته» توقّفت إذ «حسبته» وظنّت أن الصرح «لجّةً» من الماء.
ثم.. لمّا لم تر بدّاً من الدخول «كشفت عن ساقيها» فرفعت ثوبها، لئلا يبتلّ بالماء «قال» لها سليمان «إنه» ليس ماء بل هو «صرحٌ ممرّدٌ» مملّس «من قوارير» جمع قارورة، وهي الزجاجة.
فدخلت، و«قالت» ضارعةً إلى الله سبحانه، مستغفرة عمّا كانت عليه سابقاً من الكفر وعبادة الشمس «رب إني ظلمت نفسي وأسلمت» الآن «مع سليمان» فإني مسلمة معه، معترفة «لله رب العالمين».
وقد ورد في بعض الأخبار، أن سليمان(ع)، رأى ما على رجل الملكة من شعر فأمر الجن أن يصنعوا لإزالة الشعر دواءً، فصنعوا الحمّام واخترعوا (النورة).. وكان سليمان(ع) تزوّج بالملكة، وأسلم أهل سبأ، وانتهى الأمر بسلام.. كلّ ذلك بفضل عزم سليمان، وحكمة (بلقيس).
وقد علم ـهذا النبي العظيم، وهذه الملكة العاقلةـ الناس، الاهتمام بأمر الدين، وقوة العزيمة في هداية الناس، مهما كلف الأمر حيث لم يقل سليمان: «لنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها... »؟ ثم ... ألم تكن من حكمة بلقيس أنها رجّحت الانقياد لله ولسليمان على الكبر والغرور والبقاء في الكفر والضّلال؟
وهكذا فليتعلّم الناس، هداة ومدعوين إلى الهداية.
وقعت في زمن (داود) والد (سليمان) عليهما السلام، قصّة دلّت على فضل سليمان ونبله، فقد كان في بني إسرائيل رجل كان له (كرم) شجر العنب، فنفشت ورعت في بستانه غنمٌ لرجل آخر، في الليل، فقضمته وأفسدته.
ولمّا جاء الصباح، وجاء صاحب البستان فرأى الفساد وانجال في بستانه، فجاء بصاحب الغنم إلى داود (ع) ليحكم بينهما.
لكن داود، أحال الحكم على ولده سليمان، ليظهر للناس علمه وقضاءه ويكون ذلك تمهيداً لخلافته من بعده. فذهبا إلى سليمان ليحكم بينهما.
قال سليمان: إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع، فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم وما في بطنها، وإن كانت الغنم ذهبت بالفرع، ولم تذهب بالأصل فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم أولادها فقط دون أصل الغنم.
ولعل هذا الحكم كان لأجل تساوي أصول الكروم للأمهات، وفروع الكروم للأولاد، قيمةً، فكان من باب تطبيق الضّمان على الغنم، كما أنه من الممكن أن هذا كان حكم شريعة موسى (ع)، فإن داود وسليمان كانا متعبّدين لشريعة موسى.
وبهذا ظهر علم سليمان وفضله على الناس «وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث» الزرع الذي أكله الغنم «إذ نفشت» رعت ليلاً «فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين» نرى ماذا يحكمان «ففهّمناها» أي القضيّة وحكمها «سليمان وكلاًّ» من داود وسليمان «آتينا حكماً» قضاءً بين الناس «وعلماً» فإن كليهما كان نبياً من عنده سبحانه.
وذات مرة وقف سليمان(ع) ليستعرض الخيل التي كان هيأها لجهاد الكفار ـكما هي العادة في الاستعراضات العسكريةـ واشتغل بذلك حتى فاتته صلاة نافلة كان يصليها.
فتأثّر سليمان(ع) من ذلك تأثراً بليغاً، كيف فاتته النافلة وإن كانت هي مستحبة، ولماذا اشتغل بالخيل عن ذكر الله؟
ولذا وقف تلك الخيل في سبيل الله تعالى، حتى يدرك بعض الثواب الذي فاته بسبب تركه النافلة(2).
«ووهبنا لداود» النبي(ع) «سليمان» وسليمان «نعم العبد» المطيع لله تعالى «إنه أوّاب» كان كثير الأوب والرجوع إلى الله تعالى حتى إنه إذا فاتته نافلة آب ورجع وتدارك ذلك بالإتيان ثواب غيرها «إذ عرض عليه» أي على سليمان «بالعشي» في وقت العصر، الأفراس «الصّافنات» وهي التي تقف على ثلاث، وترفع إحدى قوائمها، وذلك لا يكون إلا في الخيل الجيد «الجياد» جمع جيد.
وطال العرض حتى غابت الشمس، ولم يصل سليمان نافلته المعتادة كل يوم «فقال» سليمان متحسّراً على ما فاته «إني أحببت حب الخير» أي حب الأفراس حتى ألهاني ذلك «عن ذكر ربي» بإقامة النافلة «حتى توارت» الشمس «بالحجاب» فكأنها لما غربت فقد توارت واختفت تحت حجاب الأفق.
ثم أردف سليمان قائلاً: «ردّوها» أي الخيل «عليّ» فردّت «فطفق» أي شرع يمسح «مسحاً بالسوق» أي سيقان الخيل «والأعناق» يمسح عليها عطفاً وحناناً، ويوقفها في سبيل الله سبحانه.
وقصة أخرى حدثت لسليمان (عليه السلام)، فإنه لما تزوّج ببلقيس (ملكة اليمن) رزق منها مولوداً ذكراً.. ففرح بذلك فرحاً كثيراً، ثم خاف عليه من الشياطين أن يؤذوه لئلا يخلف سليمان، فيكونون مسخّرين له كما كانوا مسخّرين للوالد.
ولذا أودع ولده السّحاب ـ وكان ذلك ممكناً لسليمان (عليه السلام)، حيث كان بأمره الكون.
لكن هذا العمل لم يكن ينبغي لمثل سليمان النبي الذي يجب أن يكون في أرقى درجة من التوكل وتفويض الأمر لله تعالى.
ولذا أمر سبحانه ملك الموت أن يقبض روح الولد، فمات الولد وذات يوم جاء سليمان ليجلس على كرسي الحكم ويقضي بين الناس فرأى الولد ميتاً ملقى على كرسيّه.
وهنا عرف أنه كان ينبغي له أن لا يدع الولد للسحاب فإن الموت والحياة بيد الله تعالى، ولذا استغفر الله تعالى «ولقد فتنّا» وامتحنّا «سليمان» لنرى صبره ولننبّهنّم على أن الأولى به أن يكون في درجة رفيعة من التوكل «وألقينا على كرسيه» الذي كان يحكم عليه «جسداً» لولده الميت «ثم أناب» وتاب.
(قال) سليمان: «رب اغفر لي» اعتمادي على السحاب في حفظ الولد ـوإن كان هذا الاعتماد جائزاً، إذ من الجائز للإنسان أن يدبّر شؤونه حسب الصلاح والحكمةـ «وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب» فاستجاب الله سبحانه دعاءه، بل تفضّل عليه حيث يقول: «فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب» إلى كل مكان أراد الذهاب إليه.
وهناك قصة شيّقة من قصص سليمان(ع)، فقد بنى أبوه (داود)(ع) بيت المقدس، ولم يكمّله حتى وافاه الأجل. وأخذ (سليمان) في تكميل البناء حتى كملت البناية على أحسن ما يرام.
ثم أمر سليمان الجن الأقوياء بالبناء، فأخذوا في البناء بكل سرعة، وذات يوم وقف سليمان متّكئاً على عصاه ينظر إلى العمل والعمّال.
وإذا به يرى شابّاً حسن الصورة إلى جنبه. سأله سليمان: من أنت؟ ومن أذن لك في الدخول عليّ بدون إجازتي؟ قال الشاب: أنا الذي لا أقبل إرثاً، ولا أهاب الملوك، فعرف سليمان أنه ملك الموت جاءه ليقبض روحه.
فقبض ملك الموت روح سليمان، وهو متّكئ على عصاه، والجنّ يظنّون أنه حي، ويتعجبون كيف لا يتعب؟ وكيف لا يأكل ولا يشرب؟ وكان (آصف بن برخيا) وزير سليمان وخليفته، يدير شأن البناء والعمّال، حتى مضت مدّة طويلة.
«فلمّا قضينا عليه» أي حكمنا على سليمان «الموت ما دلّهم على موته إلا دابّة الأرض» الأرضة «تأكل منسأته» أي أخذت تأكل عصاه، حتى إذا فسدت خرّ سليمان واقعاً على الأرض ـلذهاب متّكئه- «فلمّا خرّ سليمان «تبيّنت الجن» وعرفت «أن لو كانوا يعلمون الغيب» الشيء الغائب عن حواسّهم «ما لبثوا» هذه المدة المديدة «في العذاب المهين» أي تعب العمل الذي كانوا يعملونه لسليمان في بناء ما يريده من الأبنية.[...]
 

الهوامش:
1 ـ بحار الأنوار: ج66، ص335.
2 ـ في الآية، اختلاف كثير، ولعل بما ذكرناه يمكن الجمع بين ظاهر الآية، وبين الروايات، وبين عصمة الأنبياء.


التعليقات (0)

اترك تعليق