مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الأيقونة الجزائرية جميلة بوحيرد في لبنان: أسئلة معلقة...

الأيقونة الجزائرية جميلة بوحيرد في لبنان: أسئلة معلقة...

وصلت إليها رغم كل الحشود المتجمهرة حولها. واستطعت أن أقول لها، وسط الضجيج، بالفرنسية التي تجيدها: أنا من موقع المنار. أريد أن أجري معك مقابلة. هل ممكن. ردت علي بالفرنسية والعربية في آن: كصحافية لا، ولكن كابنتي نعم، وأعادت الكرة: كصحافية لا، ولكن كابنتي، نعم.
وابتعدت. أو بالأحرى أبعدتها أمواج المعجبين وإدارة التلفزيون.
أردت أن أقول لها أشياء، وأن أستفسر عن أخرى. ولكن الأبواب أُغلقت ورحلت!
أردت أن أقول لها أنها طبعت طفولتي منذ نعومة أظافيري. ربما كنت من أوائل من تعرف عليها من كل هذا لجمهور اللبناني والعربي الذي لبى دعوة محطة الميادين. بدا واضحا أن جزءا منه لا يعرفها، من الشباب خاصة، أو تعرف عليها للتو، من خلال البرامج التي بثت في الأيام التي سبقت حفل تكريمها. وقد جاؤوا تلبية لدعوة النضال الذي تمثله.

أعجبني أن تنفض الميادين الغبار عن مناضلات الزمن الغابر، وأن تمنحهن قسطاً من العلا الذي تستأثر به فنانات الزمن الحاضر!
كنت في العاشرة من عمري، عندما قرأت كتاباً يسرد نضالها لدحر الاستعمار الفرنسي عن الجزائر حيث كنت أقيم. وحيث كان الكثيرون لا يزالون يذكرون فضلها ويذكّرون به!
هالني ما تعرضت له من تعذيب خلال مرحلة اعتقالها. لم يستوعب عقلي الصغير الذي كان مدمنا على قراءة القصص والروايات الفرنسية، أن يصدر من الفرنسيين في الحقيقة كل هذه القسوة والوحشية. كما أنه ما كان ليصدق بأن يتمكن جسدها الصغير من أن يتحملها. طيلة قراءتي للكتاب حسبت أنها لن تصمد. أن خبر استشهادها سيرد.
ولكنها نجت!! وكانت المفاجأة!
ناجية دوما هي السيدة جميلة في حياتها: من قنبلة أرادت أن تضعها في باص للفرنسيين، كادت أن تنفجر في حقيبتها ولكنها في نهاية المطاف لم تنفجر.
من حكم بالإعدام في فرنسا كان مقدرا لها لا محال، فخُفف إلى مؤبد نتيجة المظاهرات والإعترضات!
ومن سجن المؤبد كان من المفترض أن يجعلها تتعفن وراء قضبانه حتى آخر أيامها. فحُررت مع استقلال بلادها بعد بضع سنين. ومن ومن...
هل تجيد السيدة جميلة مع الموت لعبة الحياة أم أنها تجيد مع الحياة لعبة الموت؟ فتصل دوما إلى الحدود القصوى من الحياة، حيث الموت ينتظر فلا يلتقطها؟ وهل هذا هو السبب الذي من أجله منحها المجدُ نفسَه كما لم يمنح أحداً غيرها، من رفيقات ورفقاء درب الجلجلة؟ لماذا هي الأيقونة دون غيرها، وما أكثر الذين بذلوا النفيس لتحيا الجزائر، أم أن فيها اجتمع كل أترابها؟  أسئلة أولى أردت أن أطرحه عليها، ولم يتسن.
أردت أيضا أن أقول لها أن كتاب حياتها علمني أن أعشق النضال. فهي جعلته جمالا وحبا، رغم عذاباته ومخاطره. ربما هو اسمها الذي يرشح بما فيه على كل ما يحل بها. ليس كل المناضلين يستطيعون ذلك. منهم يحولون مظلوميتهم إلى علة للعنف المضاد المبرح.
(أعرف أنكم ستحكمون علي بالإعدام. ولكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم وإنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة). كلمة مأثورة قالتها للمحكمة الفرنسية، من دون ثأرية.
هذا سر العمل النضالي الحقيقي: الذي يمنع الظلم من دون أن يظلم. وكم هو في عصرنا الرديء، حيث الخيط رفيع بين المظلومية والظلامية.
هل تحمل سنوات النضال لها اليوم نسمات جمالية رغم آلامها؟ ماذا أعطتها وماذا أخذت منها؟ هل ترك التعذيب عليها آثاره النفسية والجسدية؟ ألم تحقد على جلاديها ومعذبيها؟ هل التقت بأحدهم في يوم من الأيام؟ هل اعتذروا منها؟ هل سامحتهم؟ ماذا ترد على بعض الفرنسيين الذين يعيبون عليها أنها قتلت بعض المدنيين منهم في الجزائر، خلال عملياتها؟ هل تندم في مكان ما؟ تساؤلات أردت أيضا طرحها، ولكن دون جدوى.
منذ ذلك الكتاب، انقطعتُ عن أخبار السيدة جميلة لفترة من الزمن. تبين أنها هي أيضا انقطعت عن الحياة العامة. ربما لم تشأ قط بعد التحرير أن تقطف بشخصها ثمار نضالها من أجله. وهي التي منحته لكل شعبها.
هكذا المقاومون دوما. يتكبدون جم الصعوبات بصمت، ويرحلون حينما يحين وقت الرحيل، بصمت، وإذا ما فاتهم قطار الشهادة، يحيون بصمت!
إلى أن وصل إلى مسامعي أمران في آن: أنها تركت الجزائر، وأقامت في فرنسا!!
وأنها لم تتزوج من أبناء ملتها، بل تزوجت من محاميها، والذي دافع عن كل رفقائها حتى سمي محامي الشيطان، الأستاذ الفرنسي جاك فرجيس.
وهنا أيضا كانت المفاجأة.
كيف تغادر جميلة جزائرها وقد منحت شبابَها وطيشه من أجل حريتها؟ ألا تمنح نضوجَها وعقلَه من أجل بنيانها؟
بل وكيف تستغني الجزائر عن جميلتها؟ أليس المضحّون بكل شيء في خضم الثورة هم من يُضحون الأولى عند بناء الدولة؟
وكيف تقيم جميلة في كنف الأمة التي سلبت لأكثر من قرن تاريخها وجغرافيتها؟ هل نسيت وغفرت؟ وهل فرنسا اعتذرت لعذاباتها وهي التي ترفض حتى الآن الاعتراف بعذابات وطنها؟ كيف تنظر إليها اليوم وهي لا تزال تلعب أوراقها الاستعمارية بأساليب أخرى؟ كيف تطورت مشاعرها تجاهها بين الأمس واليوم؟
أردت أيضا أن أفهم منها هذا كله. ولكن لم أحصل على شيء.
ثم التقيت بالأستاذ فرجيس هنا في لبنان، عندنا في المنار. فكان السؤال الأول عنها: كيف هي السيدة جميلة؟ حسبت أنه لا يزال رفيق دربها. بعد أن تماهى مع نضالها. فأخبرني أنهما انفصلا. "لماذا"، سألته عاتبةً أكثر مني مستفسرة. فأجابني: "تعرفين، جميلة لديها عالمها". لم أفهم إجابته. ولم أشأ التطفل أكثر.
ولكنني عرفت حينها أنها كانت قد عادت إلى جزائرها التي لا شك أنها هي عالمها!.
وهنا أيضا كانت المفاجأة! لأنها عادت إليها في خضم الحرب الأهلية. وربما لهذا السبب فعلت... عندما رأتها تئن، أسرعت إليها لتنقذها.
هكذا هم المقاومون حقا. حينما يهرب أقرانهم من وقوع الحرائق، يهرولون هم باتجاهها ليطفؤوها بأجسادهم!
ألهذا السبب عادت السيدة جميلة؟ وكيف تفسر كل هذا العنف الذي عصف ببلادها؟ ما هي الحلقة المفقودة في حرب التحرير والتي جعلت شعب المليون ونصف شهيد يتقاتل بعد ثلاثين سنة من استقلاله ؟ هل لا زال الاستعمار الفرنسي قابع فيها؟ أم انه لقح فيها لوثة عنفه الجهنمي، قبل أن يرحل؟  حتى ينهش أهلها؟ هل طويت صفحة الحرب الأهلية إلى غير رجعة؟ أردت أيضا أن أعرف رأيها. ولكن لم يتسن.
تتبعت أخبارها بين الفينة والأخرى. عرفت أنها استقرت في العاصمة وأنها تعيش من معاش تقاعدي للمجاهدين والمجاهدات لا يسد الرمق. وديونها موزعة في كل صوب. وكاد المرض يودي بها، لولا نداء استغاثة بعثت به إلى الرئيس الجزائري. أعرف أنها عاتبة بقدر ما هي خائفة على جزائرها: لأن الفساد أنهشها وأفقر شعبها وأن شبابها يتحينون الفرص لمهاجرتها... إلى الاستعمار القديم! وعرفت أيضا أنها هددت أنها لن تسكت!
لماذا يرزح تحت الفقر شعب دفع ثمن الحرية دما شلالا، ولديه كل أسباب الرفاه؟ هل أخفقت الجزائر استقلالها لأنها أخفقت تنميتها؟ هل رحل فعلا الاستعمار عنها أم أنه لا يزال قابعا فيها، ولكن بوجوه جزائرية؟ هل تحن للاستعمار لأنه العدو الخارجي الذي يسهل تشخيصه وقتاله؟ أما الداخلي فخبيث ينهش فينا. هل تمردت جميلة أم عادت إلى صمتها لأنه أهابها ربيع عربي، أكثر الضجيج، وأقل الحجيج، ولم يزد العرب إلا بؤسا؟
أردت هنا أيضا معرفة تحليلها. ولكن دون جدوى.
ليست المرة الأولى التي تأتي فيها السيدة جميلة إلى بيروت.
في الأولى كانت الدعوة جنوبية. على شرف المقاومة: بنت جبيل ومارون الراس... تخللها ورود ودموع على ضريح الشهداء: هادي نصر الله وعماد مغنية.
اليوم دعوتها بيروتية. تكريما لنضالها وإنعاشا للذاكرة. فكانت الضيفة وربة البيت في آن معا.
حضرت مما حضر ابنة ايقونة أخرى، شريكها في النضال في الشق الثاني من الكرة الأرضية. تشي الغيفارا!
أبيات شعرية عربية (غسان مطر)، وأغنية اسبانية (بصوت ألدا ابنة تشي)، و(عصفور طل من الشباك ل مارسيل خليفة من دون حضوره بصوت كورال بيروتي). تخللها صورتها على الشاشة، بين الدموع والامتنان.
وكان لا بد من مفاجأة أخرى هنا أيضا. حينما طلت بقامتها الصغيرة على الخشبة وأرادت التوجه الى الجمهور، اعتذرت كثيرا لأنها لا تعرف من العربية إلا لهجتها الجزائرية التي قد لا يفهمها المشرقيون. فتكلمت بالفرنسية، لغة مستعمرها!.
هي ربما سنوات المدارس الفرنسية إبان الاستعمار التي طبعت طفولتها حتى باتت لا تحسن التعبير إلا بها؟ رغم أنها كانت فيها المتمردة دوما، الرافضة أن تغني (فرنسا أمنا الحنون)، والمصرة على أن تنشد (يا جزائرنا).
وربما هي أيضا أعوام الإقامة الفرنسية بعد الاستقلال التي لم تسنح لها فرصة تعلم لغة الضاد، حتى تستشعر بها.
وربما هي سمة خاصة بالجزائريين بعد الإستعمار: حملة التعريب لم تنسهم الفرنسية! ولغتهم العامة تقع ما بين فرنسة العربية وتعريب الفرنسية. ولهجتهم استعارت من الفرنسية سرعتها وتسرعها ! بل وفرنسيتهم يتحدثونها باللهجة الجزائرية. ولا غبار على عروبتهم.
أين هي فرنسا اليوم في الجزائريين؟ في قلوبهم، عقولهم، مشاعرهم، أم في السنتهم فقط؟ أم أنهم اختاروا من الفرنسية ثقافتها الإنسانية ونبذوا تلك الإستعمارية؟ فأخذوا فولتير وزولا وهوغو وسارترو...  ولفظوا أصحاب الأقلام العنصرية؟ ربما هي طريقتهم للإنتقام من سنين الاستلاب. أن يعرفوا دوما لغة من كان عدوهم!
في نضالها المستميت، بدا جليا أن جميلة بوحيرد حاربت الفرنسي من خلال أدواته. حينما قالت له ان استعماره وبالا على حريته وثقافته وشعاراته! ولاحقا استعارت من سارتر، جملته الشهيرة، في إدانتها للفاسدين في بلادها، "جهنم هي هم"!
كم وددت لو أسالها عن هذا وذاك.
كصحافية أردت ذلك، لأن للجمهور العربي عليها حق ما دامت حية.
وكم أريد ذلك أيضا كإبنة رضعت من حليب نضالها الجميل... وما ارتوت!
طلب برسم "أمنا جميلة"؟؟
 
    
 
      

المصدر: موقع المنار 
ليلى مزبودي

التعليقات (0)

اترك تعليق