ولادة حنة للسيدة مريم(ع)
جاء في التواريخ والأخبار الإسلامية وأقوال المفسرين أن "حنة" و"أشياع" كانتا أختين، تزوجت الأولى "عمران"(1) أحد زعماء بني إسرائيل، وتزوجت الأخرى "زكريا" النبي.
مضت سنوات على زواج "حنة" بغير أن ترزق مولودا. وفي أحد الأيام بينما هي جالسة تحت شجرة، رأت طائرا يطعم فراخه. فأشعل هذا المشهد نار حب الأمومة في قلبها، فتوجهت إلى الله بمجامع قلبها طالبة منه أن يرزقها مولودا، فاستجاب الله دعاءها الخالص، ولم تمض مدة طويلة حتى حملت.
ورد في الأحاديث أن الله قد أوحى إلى "عمران" أنه سيهبه ولدا مباركا يشفي المرضى الميؤوس من شفائهم، ويحيي الموتى بإذن الله، وسوف يرسله نبيا إلى بني إسرائيل. فأخبر عمران زوجته "حنة" بذلك. لذلك عندما حملت ظنت أن ما تحمله في بطنها هو الابن الموعود، دون أن تعلم أن ما في بطنها أم الابن الموعود "مريم" فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت الله "بيت المقدس". بأنها تهب ابنها خادما في بيت المقدس، لأنها كانت تظنه ذكرا بموجب البشارة التي أتاها بها زوجها، ولذلك قالت "محررا" ولم تقل "محررة" ودعت الله أن يتقبل نذرها: ش فتقبل مني إنك أنت السميع العليم.
"المحرر" من التحرير، وكانت تطلق في ذلك الزمان على الأبناء المعينين للخدمة في المعبد ليتولوا تنظيفه وخدماته، وليؤدوا عباداتهم فيه وقت فراغهم. ولذلك سمي الواحد منهم "المحرر"، إذ هو محرر من خدمة الأبوين، وكان ذلك مدعاة لافتخارهم. قيل إن الصبيان القادرين على هذه الخدمة كانوا يقومون بها بإشراف الأبوين إلى سن البلوغ، ومن ثم كان الأمر يوكل إليهم، إن شاؤوا بقوا، وإن شاؤوا تركوا الخدمة. ويرى البعض أن إقدام امرأة عمران على النذر دليل على أن عمران توفي أيام حمل زوجته، وإلا كان من البعيد أن تستقل الأم بهذا النذر.
«فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى» هذه الآية تشرح حال أم مريم بعد ولادتها، فقد أزعجها أن تلد أنثى، وراحت تخاطب الله قائلة: إنها أنثى، وأنت تعلم أن الذكر ليس كالأنثى في تحقيق النذر، فالأنثى لا تستطيع أن تؤدي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ لها عادة شهرية ولا يمكنها دخول المسجد، مضافا إلى أن قواها البدنية ضعيفة، وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك. وليس الذكر كالأنثى. ويظهر من القرائن في الآية والأحاديث الواردة في التفاسير أن هذا القول ش وليس الذكر كالأنثى قول أم مريم، لا قول الله كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين. ولكن كان ينبغي أن تقول "وليست الأنثى كالذكر" باعتبارها قد ولدت أنثى لا ذكرا. ولكنها إذ رأتها أنثى ارتبكت ولم تدر ما تعمل، إذ أن الخدمة في بيت الله كانت مقصورة على الذكور، ولم يسبق أن خدمت فيه أنثى.
لذلك يمكن أن يكون في الجملة تقديم وتأخير، كما نلاحظه في كلام العرب وغير العرب. ولعل ما انتابها من الكدر والحزن لوضعها أنثى جعلها تنطق بهذا الشكل، إذ كانت شديدة الاعتقاد بأن ما ستلده ذكر وأنها ستفي بنذرها في جعله خادما في بيت المقدس. وهذا الاعتقاد والتوقع جعلاها تقدم الذكر على الأنثى، على الرغم من أن أصول تركيب الجمل وجنس المولود يقتضيان تقديم الأنثى. والجملة المعترضة والله أعلم بما وضعت من قول الله. أي لم يكن يلزم أن تقول إنها ولدت أنثى، لأن الله كان أعلم منها بمولودها منذ انعقاد نطفته وتعاقب مراحل تصوره في الرحم.
وإني سميتها مريم... يتضح من هذه الجملة أن أم مريم هي التي سمتها بهذا الاسم عند ولادتها. و"مريم" بلغتها تعني "العابدة". وفي هذا يظهر منتهى اشتياق هذه الأم الطاهرة لوقف وليدها على خدمة الله. لذلك طلبت من الله -بعد أن سمتها- أن يحفظها ونسلها من وسوسة الشياطين، وأن يرعاهم بحمايته ولطفه وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.
الهامش:
1- تفيد بعض الأحاديث أن "عمران" كان نبيا ويوحى إليه. وعمران هذا غير عمران والد موسى، إذ بينهما 1800 سنة من الزمان. (مجمع البيان- وتفسير المراغي، ذيل الآية مورد البحث).
المصدر: الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل. ج2.
اترك تعليق