في رحاب السيدة مريم بنت عمران(ع)
قال تعالى: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا، وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين» (التحريم 12).
بهذه الآية المباركة، يباهي تبارك وتعالى بنموذج نسائي آخر بعد آسية(ع) ويقدم مثلا لأبناء الأمة التي أرادها أن تكون القائدة في الأرض.
والملاحظ أنه في المثل الأول، حاول القرآن الكريم أن يركز على امرأة فرعون كحالة من حالات الإستضعاف الفكري الذي يرسب فيه كثيرون، فبين من خلال آسية "النموذج" بأن الإستضعاف مرفوض حتى في عالم النساء، وأنه بمقدور الإنسان المؤمن رجلا كان أو امرأة أن ينشد الحق ويتجه عمليا إليه، مبينا دور الإرادة الواعية في عملية النهوض لتقرير المصير.
أما في المثل الثاني الذي نحن بصدده، فقد قدم الكتاب الكريم –ابنة عمران- كحالة من حالات الحرب النفسية التي قد تزعزع كيان الفرد وتودي به إلى مهاوي الإنهيار، فبين من خلال مريم "النموذج" إمكانية التصدي للإضطهاد النفسي، والإرتفاع فوق شائعات الهمج الرعاع، وافتراءاتهم المختلفة مبينا دور التربية السليمة والأجواء الروحية الصادقة في عملية الثبات والصمود أمام أعتى العواصف وأعسر الأزمات..
ومن أجل شد الأمة إلى أجواء البيت الرسالي، حاولت النصوص القرآنية منذ البدء أن تركز على الدور المعنوي الذي كان يشغله عمران والد مريم. فكانت تلك الإشارة الموحية، التي اختصرت فيها الوقائع والتفصيلات إلى اعتبار أنه عماد البيت وأساس قيامه، ثم سلط المزيد من الضوء على دور الأم المنهل العاطفي الذي زود مريم بذلك المخزون المتوهج من الحب الإلهي، وكأن الله سبحانه وتعالى قد شاء:
أولا: إلفات نظر الأمة إلى النمط المميز الذي كان عليه آل عمران، وحيث حرص هذان الأبوان المؤمنان على تهيئة الجو الأسري الصالح الممهد للتربية الطاهرة.
ثانيا: إلفات العناصر المؤمنة إلى صلة التربية الروحية بالثبات على الدين في الأيام الصعبة، ومن ثم قدرة هذه التربية على امتصاص غصص المحن والآلام والإضطهاد وفتنة العذاب النفسي.
ثالثا: التركيز في الأذهان، بأنه من هذه الكريمة خرجت مريم(ع)، وأنه لمقتضى علمه تعالى بكفاءتها وكفاءة العائلة ككل، كان الإصطفاء الذي جعلهم ضمن الصفوة فيمن اختارهم سبحانه ليكونوا طلائع الموكب الإيماني في شتى مراحله المتصلة على مدار الأجيال والقرون، وقد بين تعالى هذا بقوله: «إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين» (آل عمران 33)، ومن هنا كان لا بد من وقفة يسيرة مع هذه العائلة قبل الإنطلاق باتجاه النموذج الرسالي.
والدي مريم(ع):
إن عمران الرجل الجليل، الذي عُرف بالصلاح في قومه، والذي هيأ لعائلته أجواء تزخر بحب الله والذوبان في طاعته، كان رجلا عظيما بين العلماء في إسرائيل(1)، وقد عاش حياته في خدمة بيت المقدس إلى جانب زوجة صالحة عمر قلبها بالإيمان... هذه الزوجة المؤمنة الصابرة، التي عرفت بكمال الإنقطاع والتجرد، قدم القرآن الكريم صورة رائعة لما كانت تفيض به نفسها الصافية من مشاعر الود العظيم لله سبحانه، وحيث كانت تخلو بخالقها لتناجيه بكل خشوع وخضوع، فترفع إليه عبر مناجاتها البسيطة كل ما كان يجول في خاطرها من أشواق وأماني… فهي من حيث التطلعات لم تشغلها هموم الدنيا كمثيلاتها من النساء، ولذا لم تخدش أجواء دعائها بأهواء الذات وطموحاتها، وإنما جلّ ما فكرت به هو أنها تريد أن تملك في حياتها شيئا تقدمه لله، تريد أن تعيش نعمة البذل، وكان أن غمرها شوق شديد إلى ولد صالح يوقف حياته لخدمة بيت الله والعبادة فيه...
ورغم إحساسها بالخيبة، إلا أنها لم تملك نفسها مما هاج فيها من أفكار وخواطر... إنها تعلم بأنها عاقر، ولكنها تعلم أيضا بأن ربها على كل شيء قدير...
ومن هنا لجأت إليه تعالى وبكل ما اعتلج في نفسها من الحنين، وما انطبعت عليه ذاتها من الإخلاص المجرد من كل رغبة دنيوية.
ومضت تسأله تعالى سؤال المؤمن المتذلل الخاشع، بأنها تريد أن تتقرب إليه بما يمكنها أن تملك، إن هو شاء لها، هذه المكرمة... وكان أن تحققت الأمنية، واستجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ويملك الإجابة حين يشاء. وسرعان ما اتجهت الداعية لتعلن للواهب الكريم عن مضمون طلبها وأبعاد توجهاتها «إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبّل مني إنك أنت السميع العليم» (آل عمران35).
لقد نذرت الأم مولودها المرتقب لكن قلبها بقي معلقا في القبول من الله، فهذا الشيء مهم بالنسبة لها، وعبر هذا التطلع شقّت التأملات الروحية الصافية طريقها، ومضت الأم ترسم لوليدها معالم الطريق، فهي تود لهذا الجنين إذا ما أبصر النور أن يكون خالصا لربها محررا من كل قيد ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه، تريده أن يتفرغ كليا للقيام بمهام بيت الله، بعيدا عن أي سلطة في هذه الدنيا، سواء سلطة الناس أو حتى سلطة الوالدين.
لم يخطر ببال هذه الأم مطلقا، أن يكون لها ولد تنتفع به كغيرها، لا من ناحية معنوية اجتماعية ولا من ناحية مادية، إنها فقط تريد ولدا صالحا همه الله...
ولادة مريم عليها السلام:
وبعد طول انتظار، جاء اليوم المرتقب، وحدثت المفاجأة التي تركت امرأة عمران في حيرة، فالمولود أنثى، وكانت ترجو أن يكون ذكرا، لأن الأنثى لا تصلح عادة للخدمة الدائمة في المعبد. وهنا اتجهت الأم الصالحة إلى ربها لتهتف بكل جوارحها هتاف المعتذر الخائب قائلة: «ربّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» (آل عمران 36).
بهذه الروح المفعمة بحب الله، راحت تلك النفس الصافية تحلق منقطعة في مناجاة لذيذة مع خالقها، ومتى؟ في لحظة تحقق الأمنية بالمولود، إنها تخاطبه وكأنها تخاطب قريبا ودودا سميعا مجيبا، فتعرض بمنتهى البساطة واقع حالها مع كل ما نجم عنه من تساؤل وحيرة، ثم تقدم الإسم الملائم للمولودة، معلنة بأنها اختارت لها اسم "مريم"(2) لتكون إنسانة عابدة مطيعة لكل ما يأمر به سبحانه وينهى عنه، غير غافلة عن سؤاله تعالى بأن يحصن ابنتها وذريتها من غواية الشيطان الرجيم، وأن يجيرهم من وسوسته ومكره ومكائده، ليتمكنوا من النهوض بالفرائض دون أي انحراف أو زلل، فهي تريدهم جميعا في هذا السبيل الذي يرضيه سبحانه وتعالى.
كفالة مريم(ع):
بعد الإخلاص والتجرد، جاء الإمداد الإلهي وإحراز الجزء الأوفى، وكان أن تقبل ربها ابنتها «بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا»، ولتصبح محررة خالصة لعبادته تعالى، فإن القبول الإلهي شمل كل معاني الرعاية لها، حاضرا ومستقبلا، بحيث هيأ لها تعالى البيئة الصالحة التي تكفل لها النمو الطبيعي وتحميها من كل المعوقات التي يمكن أن تؤخر نموها أو تعطل مسيرتها...
إذ مع وفاة الأب، واحتياج الأم إلى من يكفل الطفلة ويقوم بشأنها من بعده كان لا بد لها أن تسلم أمرها لخالقها، فحملتها وأتت بها إلى بيت الله. وكان أن تنافس الأحبار في كفالة بنت إمامهم، وتداعوا للقرعة على ذلك، فانطلقوا إلى نهر جار وألقوا أقلامهم، فطفا قلم زكريا فوق الماء، بعد أن رسى الباقي أو جرى مع جرية الماء، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله تعالى «وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون» (آل عمران 44).
وهكذا كانت كفالة مريم من نصيب زكريا النبي، وزوج خالتها الذي قام برعايتها على أكمل وجه، فاتخذ لها محرابا لا يدخل عليها فيه سواه، ووجهها إلى حب الله وطاعته، وسلك بها طريق السعداء بعيدا عن مؤثرات السوء، وقد روي أنه لما بلغت تسع سنين صامت النهار وقامت الليل وتبتلت حتى غلبت الأحبار .
وكان أن شبت مريم كنبتة طيبة في أرض طيبة، والتزمت بنذر أمها وعاشت حياة ملؤها التقوى إلى أن بلغت بكمالها النفسي ذلك المستوى الإيماني العظيم، بحيث لم يكن لها في ذلك الزمان نظيرا في النسك والعبادة إلى أن بلغ من شأنها أنها حين كانت تعبد الله في المحراب ويأتي وقت الطعام، فيغلبها الإحساس بالجوع، كانت تأبى أن تفارق محرابها لتأكل لأنها لا تريد أن يشغلها شيء عن هذه الأجواء الأنيسة والحبيبة إلى قلبها، فكان الرزق الشهي يأتيها من الله سبحانه وتعالى، وهذا ما جعل كافلها وهو نبي، يتعجب ويسألها مستفسرا عن مصدر هذا الطعام قائلا لها: «يا مريم أنى لك هذا» (آل عمران 37)، كيف ومن أين هذا الرزق الذي لا وجود لمثله عند الناس، فتجيب في خشوع العارفين وصفائهم: «هو من عند الله» (آل عمران 37).
كلمات تصور حال مريم، والكمال النفسي الذي بلغته، وبعد أن خرجت من ظلمات الغرور وما يحمله من تفاخر ومباهاة، إلى نور الإنابة وما يصدر عنها من أمن وتسليم، ولذا لم تعد ترى في هذا الطعام الآتي –من عالم الغيب- شيئا عجبا. فالرزق –كما تؤمن- من الله سواء جاءها بالطرق والأسباب العادية أو غيرها «إن الله يرزق من يشاء بغير حساب» (آل عمران 37).
إنه نموذج العيش المطمئن في أفياء حب الله والذوبان في طاعته، وحيث لا يملك إنسان في الأرض من الأمن والثقة واليقين ما يملكه قلب مؤمن أحب الله وأحبه الله. أجواء مريم هذه، هزت قلب زكريا النبي(ع) أمام ما رآه من آيات الله الباهرة وكرامته تعالى لهذه الفتاة، وأمام ما رآه من صفاء سريرتها ودأبها وإخلاصها في طاعة الله. هذه الأجواء حركت فيه مشاعر الأبوة فعيشته حالاً من الحنين إلى ولد صالح يرثه كما ورثت مريم عمران وواصلت نهجه: «هنالك دعا زكريا ربه، قال ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة، إنك سميع الدعاء» (آل عمران 38).
مريم عليها السلام بين الإعداد والتهيؤ:
لا شك أن هذه الأجواء الروحية التي عاشتها مريم، والتي جاءت مغمورة باللطف الإلهي بما تخللها من بشائر الرزق والإرتباط بعالم الغيب، بالإضافة إلى الإعتكاف الذي هيأه له زكريا. هذا كله كان طرفا من تدبير الله سبحانه للفتاة التي ستتجلى عبرها قدرة الخالق جلّ وعلا بأسلوب لم يألفه البشر.
فقد عاشت مريم آفاقا من العناية التي لا يهبها الله سبحانه إلا لمن يحب، وعاشت بقلبها وروحها أكمل وأسمى ما تكون حياة القلوب والأرواح، بحيث نهلت من نبع المحبة الإلهية حتى ارتوت، وحتى بات الخالق سبحانه بالنسبة لها هو الأنس والشوق والرضا.
لذا مع اقتراب موعد المشروع الإلهي، أخذت أحلام مريم تفيض بالنور وبدأت أذانها تلتقط أصوات الملائكة التي راحت تحدثها لتجعلها تعيش الإحساس العميق برعاية الله سبحانه وتعالى قبل أن تدهمها المفاجأة «وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين• يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين» (آل عمران42-43). لقد وضعتها الملائكة في أجواء التهيؤ لحدث هام، دون أن تطلعها على تفاصيله. فقد بينت لها من جهة أن الله اختارها واصطفاها لكرامة، لتعي بأن ما يحدث لها لم ولن يحدث لغيرها من النساء، ومن جهة ثانية بينت لها بأن الله تعالى جعلها طاهرة، لأجل أن يتعمق في إحساسها الشعور بالطهر، فلا يداخلها أي هم طارئ أمام الشبهات التي لن يتورع اليهود من إلصاقها بها.. وإلى هذا حملت الملائكة أوامر الله سبحانه وتعالى بالقنوت لتعيش الخشوع والخضوع في محراب جلال الله، تمهيدا لما هي مقبلة عليه، ومن ثم المثابرة على التعبد لتكون مع قوافل الساجدين والراكعين شكرا لله على اصطفائه لها.
البشارة: بعد أن قطعت مريم(ع) مرحلة من الدأب والمثابرة على ما أمرت به من تكاليف وتأهلت لاستقبال الحدث، ما لبثت رسل الله أن أتت لتكشف لها عن مضمون المشروع الإلهي: «وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، وجيها في الدنيا والآخرة» (آل عمران 45)... وما كادت مريم(ع) تسمع تفاصيل البشارة، حتى تجسدت المفاجأة أمامها، وأخذ الروع منها كل مأخذ، فقد أثارت البشارة في نفسها حالة الإضطراب، إذ كيف يكون لها ولد؟! وراحت تسبح في غمرة أفكار شتى، تارة تتخيل الحدث المعجزة فتهتز نفسها إجلالا لقدرة الله سبحانه، وتارة تتصور أصداء الحدث في مجتمعها التعيس وما سيردده الناس فتجزع وترتعد...
ومن ذهول المفاجأة راحت مريم تلملم حيرتها لتواجه الموقف بتساؤل ملؤه الإستفسار والتعجب استعظاما لقدرة الخالق جلّ وعلا، وتطلعا إلى كشف اللغز المحير، وكان أن بادرت الرسل مستفهمة: «قالت ربّ أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر» (آل عمران 47)، وجاءها الجواب: «كذلك الله يخلق ما يشاء، إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون» (آل عمران 47).
إنها الحقيقة البسيطة التي كثيرا ما يغفل الناس عنها، فالأمر عائد لله سبحانه، فلا بدّ أن يذهب التعجب وتزول الحيرة، وتؤوب النفس إلى سكينتها، غير أن الواقع المستجد جعل مريم الطاهرة تميل إلى العزلة الكلية والإنفراد، لتبتعد بنفسها عن أعين الناس، وقد صور لنا القرآن الكريم هذه الأجواء الضاغطة التي مرت بها البتول أبلغ تصور إذ قال تعالى: «واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا لها روحنا فتمثل لها بشرا سويا» (مريم16-17).
لقد وقفت مريم وجها لوجه أمام الملك الذي هبط من عالم الغيب ليخبرها عن الله تبارك وتعالى، بعد أن تمثل لها بصورة بشر..
ليتصور (الذين آمنوا ...) قسوة المحنة التي عبرتها هذه الفتاة المنقطعة إلى الله، فقد دخلت محرابها مطمئنة كعادتها، لكنها ما لبثت أن فوجئت مفاجأة شديدة، وأخذتها الدهشة لوجود شخص اقتحم عليها خلوتها بغير إذن منها.
لنتصورها وهي تحاول أن تتماسك علّها تطرد عن نفسها الذعر والخوف لتتمكن من تكليمه، لنتأمل كيف بادرت من موقف التعقل إلى اختيار أنسب الكلمات التي يمكن أن تحرك، فيه عوامل النخوة والحمية إلى جانب الخوف من الله سبحانه والتحرج من رقابته: «قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا» (مريم 18)، لقد خلعت عليه صفة محببة إلى النفس، صفة تأبى الشهامة التفلت منها، مذكرة إياه بأن يحسب حساب الرحمن لأنها لا تملك من أسباب القوة إلا عونه، وهنا يخاطبها الأمين جبرائيل(ع) مخففا عنها ومطمئنا بأنه ليس ببشر كما حسبته: «قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشرا ولم أكن بغيا، قال كذلك قال ربك هو عليّ هين ولنجعلَه آية للناس ورحمة منّا وكان أمرا مقضيا» (مريم 19-21).
ولكن إذا كانت المجاهدة قد اجتازت الصعب على صعيد النفس بإيمانها الكبير، فكيف تجتازه على صعيد المجتمع الجاهل الذي لا يرحم... وكان أن اشتدت حيرتها لهول ما تتوقعه من لوم اللائمين من قومها، وما سيرمونها به...
معاناة الوضع واللطف الإلهي:
يتحدث القرآن الكريم عن هذه العذراء الحائرة بأنها حين حملت انفردت واعتزلت مكانا بعيدا عن الناس لتتستر به عن أعينهم، ولقد شاءت لها الرعاية الإلهية بهذه العزلة التي أقدمت عليها، أن تخلو بنفسها بعيدا عن ضغط الناس من حولها، وما قد تتعرض له في هذه المرحلة الحساسة من ملاحظات واستفزازات بالإضافة إلى أنه لا بدّ لأي روحٍ وجهتها الله، من خلوة وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن صخب المجتمع وهموم الناس الصغيرة التي تثقل الحياة. فالروح التي تريد أن تسمو وتصفو يلزمها فترة من التأمل والتدبر لتعيش التفاعل العميق مع الكون الكبير بكامل حقائقه وأبعاده، ويلزمها أيضا أن تنخلع من أسر الواقع الذي يحيط بها بحيث تنقطع عن كل شيء عدا الله وما أمر به، فهذا وحده هو الذي يؤهل الروح الكبيرة إلى ما هو أكبر، وهو الذي يهيء القدرة الذاتية على المواجهة والصبر والتحمل والإستقامة على الخط بلا تردد ولا ارتياب، وبدون أي التفات وراء الهواتف والجواذب والمعوقات.
إنّ هذا كله، هو الذي سينير لهذه الفتاة التي اصطفاها الله طريقها، وهو الذي سيعصمها من الشيطان ووسوسته ويمكنها من الثبات والإرتفاع.
ولنتأمل مليا في الصورة التي تبرز المعاناة المرّة التي مرت بها هذه المجاهدة، وكيف كان حالها حين آن أوان الوضع واضطرتها آلام الولادة للإلتجاء إلى جذع نخلة لتتستر به وتعتمد عليه، ثم كيف هزّها الحياء حين تذكرت ما هي مقبلة عليه.
فهاجت خواطرها تهيبا ورهبة إلى أن وصل بها الأمر لشدة حيائها من قومها وقلة الحيلة في أفهامهم، أن تمنت لو أنها ماتت قبل هذا وكانت نسيا منسيا: «فحملته فانتبذت به مكانا قصيا• فأجأها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا «.
لكن وفي حومة الألم وغمرة المعاناة، أدركها لطف الله وأحاط بها عنايته سبحانه، وكان أن سمعت صوتا يناديها مطمئنا إياها: «فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا• وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا• فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا» (مريم 24-26).
بنداء المولود هذا، شاء الخالق سبحانه أن يسكن من روع مريم ويهدئ نفسها، لتعلم أن من أوجد لها الرطب في النخلة، وأوجد لها الماء الجاري في تلك الهضبة التي كانت عليها في الجبل، قادر أن يرد عنها عيب العائبين ولومهم.
تفكر ونشاط: وفي تلك اللحظات الفريدة التي جمعت بين الدهشة والطمأنينة عاشت مريم حالة من نشوة روحية خاشعة، وراحت تصغي إلى المنادي الذي مضى يحدثها بإسهاب مزيلا عنها ما أصابها من الحزن والغم الشديدين، طالباً منها بأن تحاول استعادة قوتها ونشاطها، وبأن تهدأ بالا ولا تعبأ بالأفكار التي تصرفها عن لذيذ الطعام والشراب، بل تستبدلها بالسرور والإنشراح لما حباها الله به. وما تخافه من تهمة الناس واستنكارهم فإنه يطلب منها أن ترد الأمر إليه، مشيرا عليها بأن تلتزم الصمت وتنوي الصيام لوقتها عن الكلام(3) وتنذره لله، لأن الله سبحانه هو الذي يتولى البرهنة على براءتها.
وبعد أن استجمعت مريم أفكارها ورأت رحمة ربها بها وبمولودها سكنت نفسها واطمأنت إلى حجتها، وأحست بشعور قوي يدفعها إلى النهوض والمواجهة. لقد ثار في نفسها حب الله والرغبة الحارة لجهاد أعدائه، فصممت على أن لا تخشى في الله لومة لائم.
إن قومها الذين طال عليهم الأمر حتى قست قلوبهم، وأصبحوا في حالة مزرية من الإنحطاط والفساد بعد انحرافهم عن طريق الأنبياء لا شك أن أحوالهم التعيسة تستدعي إصلاحا قويا ومصلحا مخلصا، وإن الله الذي أحبته وانقطعت إليه يطلب منها أن يكون لها دور في تحمل المسؤولية من أجل النهوض بهؤلاء التعساء وردهم إلى سواء السبيل.
وهكذا نهضت مريم معتصمة بالله من كل المصاعب والضغوط، ومضت بجرأة الحق وقوة الإيمان تعد العدة لكل ما تطلبه المواجهة من تكاليف. وكان أن طردت من نفسها كل تهيب ورهبة، ثم سارت بخطى ثابتة مطمئنة، وقد أشرق وجهها بنور اليقين وامتلأ فؤادها بغبطة غامرة لعظيم ما انتدبت إليه من دور...
مواجهة وصمود:
لو حاولنا تصور الوضع الذي استقبت به البتول من قومها حين أتت وعلى يديها "عيسى" تحمله، لأمكننا أن نكتشف ونقدر عظيم شخصية مريم وما كانت تتمتع به من مقومات... لنتخيلها وقد أقبلت بطفلها لتقف أمام غضب قومها ووجوههم الصامتة، هؤلاء القوم القاسية قلوبهم الملوثة أنفسهم وأيديهم، فعدا أنهم بعيدين عن الله الذي تحب، فإنهم بعيدين عن أي حوار منطقي.. ومن هنا كان من البديهي أن تهزهم المفاجأة لا بل تروعهم، بالإضافة إلى أنه مع الأفق الضيق والنظر المحدود لا مجال إلى التروي والتفكير حتى مع ما هو معلوم عن المنبت الطاهر ونشأة التقوى التي نشأت عليها مريم.
وهكذا انطلقت الألسن بأسوأ حملة نفسية يمكن أن تتعرض لها إنسانة في هذه الأرض، فمن التعنيف والتهكم الجارح، إلى الشائعات المدسوسة الساخرة من قبل اليهود والتي راحت تحدث بما ارتكبته متعبدة من خطيئة، وكانت أن راحت الكلمات تسدد لمريم كالسهام «يا مريم لقد جئت شيئا فريا• يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا» (مريم 27-28).
لكن مريم الرسالية المجاهدة التي وعت دورها وأدركت مسؤوليتها، كانت قد خرجت نهائيا من أفق مشكلتها الضيق، وباتت تعيش مشكلة الناس من حولها وهموم المشروع الإلهي الذي يهيأ للخروج بهم من ظلمات واقعهم السيء إلى أنوار الرحمة الربانية، وإنها لمستبشرة بذلك الغد الكريم والباذلة في سبيله كل ما بوسعها من جهد.
وهكذا لاذت مريم المؤمنة بنذرها، ومضت بكل ما تملك لتداري الموقف بصبر مطمئن لا يشوبه أي اضطراب...
أي جلد وحزم تمتعت به تلك المجاهدة حتى تمكنت من أن تواجه تلك العاصفة الهوجاء بذاك الهدوء الرزين؟ فالموقف بالنسبة لها كان أكثر من قاسي، إذ ليس هناك أشقّ وأمرّ على الفتاة الطاهرة من أن تتهم، وخاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة والنزاهة حاضرا وماضيا، وخاصة إذا كانت حجة الخصم واضحة وهي لا تجد سبيلاً إلى دفع التهم سوى الإلتزام بالصمت على كل ما أمرت به من تعاليم.
وكان أن اكتفت البتول بأن أشارت إلى طفلها وهو في المهد من دون أن تزايلها مسلكيتها، طالبة إليهم أن يكلموه، وهنا نطق الصبي بخير ما ينطق به إنسان، وخيم على الجميع صمت رهيب: «فأشارت إليه، قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أينما ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا عصيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا» (مريم29-33).
وهكذا شرع عيسى(ع) بالجواب دون أن يمهلهم، فأجابهم الجواب الدالّ على براءة أمه، وذلك من دون أن يتعرض لمشكلة الولادة التي كان الناس يلحون بها على مريم(ع)، لأن معجزة نطقه وما أخبر به لا يدع ريبا لمرتاب في أمره، فأخبرهم بأنه سيكون من أهل العلم، الذين آتاهم الله الكتاب، وأنه سيجعله نبيا ويبارك فيه أينما توجه، وأن الله أوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته، وأنه سيكون برا بوالدته، وسيكون عبدا متواضعا رؤوفا بالناس لا متجبرا ولا شقيا، وأكمل بأن سلّم على نفسه في أهم المواطن من ولادة وموت وبعث، دالاّ بذلك على نزاهة وطهارة مولده. وكان قد بدأ كلامه بقوله "إني عبد الله"، وختمه بقوله: «وأن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم» (مريم36).
فوز المجاهدة:
وهكذا جعل الله لمريم من أمرها يسرا، فعبرت التجربة القاسية، ومضت غير عابثة بكل ما يحيط بها من أجل أن تكمل المهمة وترعى الأمانة الألهية التي ائتمنت عليها بحيث نهضت، لتكون مثال الأم عبر التكاليف، كما كانت مثال الفتاة المؤمنة عبر التكاليف.
نهضت لتعمل على تأمين العيش الكريم لطفلها إلى جانب الدأب على تنشئته تنشئة صالحة، بالشكل الذي يضمن سلامة نفسه واستقامة مسيرته، وإنه لجهاد عظيم حين تعمل الأم بوعي وانطلاقا من روح المسؤولية، على تهيئة الإبن للدور الرسالي العظيم الذي ينتظره، وهذا ما أدته مريم النموذج على أكمل وجه.
وما يجب أن نقف عنده هو أن هذه الفتاة الطاهرة الواعية العارفة، لم يجعلها تعالى فوق ما تملك نساء العالم من إمكانيات، وإنما أظهرها القرآن الكريم من خلال أخلاقها وتحركاتها وطاقتها، إنسانة مثلنا تعيش المعاناة كما نعيش، وتتألم للصعاب كما نتألم، وتبذل في سبيل الوصول إلى غايتها ما هو متوفر وبمقدور أي منّا أن تبذله إن هي رغبت أن تقف جهدها لله وأن تكون قريبة منه سبحانه.
ما يجب أن نقف عنده، هو أن مريم ارتفعت وأحرزت ذاك التكريم الإلهي بعد أن بذلت في كل مرحلة من مراحل حياتها أقصى ما يملكه الإنسان من الوسع والطاقة، وبعد أن بقيت روحها الكبيرة في كل وقت وفي كل مرحلة حيث هي، سابحة في تلك العبودية الخالصة لله.. وإنه لجزاء هذا التوجه والتجرد، كان الفوز العظيم بحيث استحقت من الله سبحانه بأن يثني عليها باسمها (مريم)، مع أنه تعالى لم يذكر في كتابه العزيز اسما نسائيا غير اسمها، ومع ذلك تكرر اسم مريم في القرآن الكريم في حوالي ثلاثين موضعا وما يقارب العشرين سورة، وفي كل موضع ثناءُ عليها وعلى عفتها وما أدته من دور وتحملته من معاناة، وهذا كله لإلفات –نساء الأمة القائدة وفتياتها- إلى ذلك المستوى العظيم من التوجه، وإلى تلك المنزلة الرفيعة من العبودية...
ما يجب أن نقف عنده أن مريم لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أن تغلغل حب الله في أعماقها، وأنه عبر هذا المكنون الصافي تمكنت من أن تقف وحدها راسخة القدم ثابتة الجنان لتستقبل بإيمانها الكبير أوامر الله ونواهيه، وما أجلّ الموقف وأعظمه، ومن ثم تقف لتواجه وحدها قومها ومجتمعها الذي لا يرحم مع كل ما يمثله من فساد وجهل وانحراف، ثم تقف وحدها تفكر وتقرر وتسعى لأفضل الأساليب التي تملكها في إتمام دورها الإلهي، وبعد هذا كله، نراها تواصل سعيها وجهادها حتى آخر لحظة من حياتها. فبعد أن تقف إلى جانب ابنها –الوديعة الإلهية- لترعاه وتتحمل في سبيله كل أنواع القهر والعنف والأذى والإتهام، نراها كذلك تقف إلى جانبه، كنبي، لتكون له سندا ولثورته النيرة داعية مبشرة.
ويبقى الأهم بالنسبة لنا، هو أن نستلهم من حياة مريم التي ارتفعت عن جدارة لتكون نموذجا عاليا في التجرد إلى الله، ومثلا قرآنيا يقدم لأبناء خير أمة أخرجت للناس معالم الشخصية العابدة العارفة المجاهدة في آن...
1 قصص الأنبياء للنجار-ص374
2 أي العابدة في لغتهم
3 كان الصوم عن الكلام لونا من العبادة في ذلك الوقت
اترك تعليق