هل تزوجت السيدة المعصومة (عليها السلام)؟
حتى نحصل على إجابة هذا السؤال، لا بدّ لنا من قراءة متأنّيه في وصيٌتين لأبيها الإمام الكاظم(ع) وفي روايات اُخرى.
فتعالوا نستطلع الروايات والتأريخ لنحصل على الجواب، ونعرف حقيقة الأمر.
قال اليعقوبي -المؤرِّخ-: «أوصى موسى بن جعفر ألا تتزوج بناته، فلم تتزوّج واحدة منهن إلا اُم سلمة، فإنها تزوجت بمصر، تزوجها القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد، فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد حتى حَلَف أنّه ما كشف لها كنفاً، وأنّه ما أراد إلا أن يحج بها(1)» (2).
ولكن عند الرجوع إلى وصية الإمام الكاظم(ع) التالية نرى أنّ الإمام لم يوص بذلك وإنّما اوصى أن يكون أمر زاجهن بيد أخيهن الإمام الرضا(ع) حيث إنه قال: «... وإلى علي أمر نسائي دونهم(3) ... وإن أراد رجل منهم(4) أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها إلا بإذنه وأمره، فإنه أعرف بمناكح قومه...» (5).
ثم إنه(ع) يؤكد على ذلك في موضع آخر من نفس الوصية: «.. ولا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن، ولا سلطان، ولا عمّ، إلا برأيه ومشورته (6)، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله، وجاهدوه في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوج زوج، وإن أراد أن يترك ترك»(7).
فالإمام -بحسب الوصية- لم يمنع بناته من الزواج -كما ادّعى اليعقوبي- وإنما جعل أمر زواجهن بيد أخيهن الإمام الرضا(ع).
وفي وصية أخرى له(ع) لتعيين أوقافه وصدقاته وكيفيّة تقسيمها، قال: «... يقسم في مساكين أهل القرية من ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الانثيين، فإن تزوجت امرأه من ولد موسى بن جعفر فلاحق لها في هذه الصدقة حتى ترجع اليها بغير زوج، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى...» (8).
ويبدوا أنّ هذه الوصيّة هي التي جعلت اليعقوبي يقول بأنّ الإمام أوصى أن لا تتزوج بناته من بعده ، ولكن الظاهر منها أن التي تتزوج تكون في كفالة زوجها، وهو ينفق عليها، فإن مات أو طلقها رجعت وكان لها مثل حظ التي لم تتزوج.
ومع ذلك كله فانه لقائل أن يقول: يشم من هذه الوصية ومن سابقتها عدم رغبة الإمام في تزويج بناته، بل إن الواقع الخارجي يصدق ذلك، فلا الإمام الكاظم نفسه في زمان حياته زوج واحدة منهن، ولا الإمام الرضا، بل كان هذا سائراً في بناتهم، وقد أوقف الإمام الجواد(ع) عشر قرى في المدينة أوقفها على أخواته وبناته اللاتي لم يتزوجن، وكان يرسل نصيب الرضائية(9) من منافع هذه القرى من المدينة إلى قم (10).
فيستوقفنا -هنا- سؤال وهو: رغب الشرع المقدس في الزواج المقدس في الزواج وحث عليه ونفر من العزوبة وحذر منها، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة فكيف أوصى الإمام الكاظم(ع) بعدم زواج بناته مع العلم أن الزواج سنة رسول الله(ص) ومن المستحبات الأكيدة؟
قد يُجاب عن هذا السؤال بأحد الأوجه التالية:
الوجه الأول:
أنّ العزوبة وإن كانت مكروهة عند الشرع المقدس، لكنها قد ترجح في بعض الأزمنة.
فعن إبن مسعود قال: قال رسول الله(ص): «ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دينه إلا من يفر من شاهق، ومن جُحر إلى جُحر كالثلب بأشباله.
قالوا: ومتى ذلك الزمان؟
قال(ص): إذا لم ينل المعيشة إلا بمعاصي الله، فعند ذلك حلٌت العزوبة» (11).
فالعزوبة تحل في بعض الأزمنة، وعليه قد يكون الإمام(ع) قد مر بما يماثل تلك الأزمنة، فلا تنافي بين ترغيب الإسلام في الزواج، وبين عدم تزويج الإمام(ع) لبناته.
فالحكم الاولي للعزوبة هو الكراهة، ولكن الحكم الثانوي المستفاد من هذه الرواية هو حليّة العزوبة في بعض الأوقات.
الوجه الثاني:
أنه(ع) لم يزوجهن لعدم الكفؤلهن، فإنهن ودائع رسول الله(ص) وكريماته، فينبغي أن لا تزوجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ، ويقدر منزلتهن، فقد قال رسول الله(ص): «أنكحوا الأكفاء وانكحوا فيهم واختاروا لنطفكم» (12).
فلو أنّ الإمام(ع) قد زوجهن من غير الاكفاء لما عرفت مكانتهن، ولهدرت حقوقهن ، وما في ذلك من المهانة والإذلال لودائع رسول الله(ص)، وحاشا الإمام أن يفعل ذلك.
بل قد يكون تزويجهن من غير الأكفَاء عامل ضغط على الإمام(ع) تمارسهُ الحكومة العباسيّة لتكلبيل أشد للإمام، وتقييد أكثر لحريّته.
ولذا نجد أن الإمام(ع) في وصيته قد جعل أمر تزويج بناته بيد الإمام الرضا(ع) معللا ذلك بأنه أعرف بمناكح قومه.
الوجه الثالث:
ما أجاب به الإمام(ع) هارون عندما سأله: «... قال: فلم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن واكفائهن؟ قال: اليد تقصر عن ذلك.
قال: فما حال الضيعة (13)؟
قال: تعطي في وقت، وتمنع في آخر...» (14).
فالإمام(ع) علل عدم تزويجهن لقصر ذات اليد، وضعف الإمكانات الماديّة.
الوجه الرابع:
نتيجة الضغوطات العنيفة، والممارسات لتعسفية التي كانت السلطة العبّاسية تنتهجها تجاه الامام(ع) وشيعته، ما كان أحد ليجرأ أن يتقدم من الإمام ليطلب كريمته أو أخته.
بل إن الشيعة -في فترات مختلفة من الزمن- ما كانوا ليتقربوا من دار المعصومين(ع) في إستفتائاتهم، ولذا كان بعضهم يلجأ إلى الحيلة فيلبس ثياب بائع خيار ويحمل سلة الخيار حتى يتمكن من دخول دار الإمام ، فيستفتيه ويخرج.
فإذا كان أتباع أهل البيت(ع) لا يستطيعون استفتاء الإمام، فما ظنك بمن يريد مصاهرة الامام؟!
إنّ الراغبين لشرف مصاهرة الإمام -سواء أكانوا من أولاد العمومة أم من خيار الشيعة- كان أمرُهم دائراً بين مقتول بأيدي الغدر والعدوان، وبين معتقل معذب في قعر السجون، وبين مطارد من جلاوزة السلطة قد استخفى عن أعينهم...!!
فمن ذا الذي يجرأ -بعد هذا- أن يطلب الوصلة بالإمام(ع)؟
النتيجه:
إنّ السيدة المعصومة(ع) -كسائر أخواتها- لم تتزوج، وعدم تزويج الإمام لهن لا ينافي الترغيب والأمر بالزواج.
وظاهرة عدم تزويج اكثر من إمام لبناته أو اخواته لهي ظاهرة تستحق دراسة أكثر، وبحثاً أعم، للتعرف على أسباب وملابسات هذه الظاهرة وتحليلها، فهي حلقة من حلقات معناناة ومعايشة المعصومين(ع) لظروف عصيبة ومختلفة. فعسى الله أن يفيض من يبحثها ويكشف عن غوامضها.
__________________
(1) أي، الظاهر أن يكون لها محرماً فيستطيع أن يحجٌ بها -وليس بواجب عندنا.
(2) تاريخ اليعقوبي: ج٢ ص ٤١٥.
(3) أي دونه بقية إخوته.
(4) أي من إخوته.
(5) أصول الكافي: ج١ ص ٣١٦، وعيون اخبار الرضا: ج١ ص٣٣.
(6) أي الا براي ومشورة الإمام الرضا(ع).
(7) أصول الكافي: ج١ ص ٣١٧.
(8) عيون أخبار الرضا: ج١ ص٣٧.
(9) أي بنات وحفيدات الإمام الرضا(ع)، فهنٌ ينسبن إليه فيقال: الرضائية.
(10) تاريخ قم -المترجم- ص ٢٢١.
(11) بحار الانوار: ج١٤ ص ٣٥١.
(12) فروع الكافي: ج٢ ص٥.
(13) الضيعة: العقار، والأرض ذات الغلة.
(14) عيون أخبار الرضا: ج١ ص ٨٨ ح١١.
المصدر: كتاب سيّدة عشّ آل محمد صلى الله عليه وآله: السيد أبو الحسن الهاشمي، المطبعة العلميّة.
فتعالوا نستطلع الروايات والتأريخ لنحصل على الجواب، ونعرف حقيقة الأمر.
قال اليعقوبي -المؤرِّخ-: «أوصى موسى بن جعفر ألا تتزوج بناته، فلم تتزوّج واحدة منهن إلا اُم سلمة، فإنها تزوجت بمصر، تزوجها القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد، فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد حتى حَلَف أنّه ما كشف لها كنفاً، وأنّه ما أراد إلا أن يحج بها(1)» (2).
ولكن عند الرجوع إلى وصية الإمام الكاظم(ع) التالية نرى أنّ الإمام لم يوص بذلك وإنّما اوصى أن يكون أمر زاجهن بيد أخيهن الإمام الرضا(ع) حيث إنه قال: «... وإلى علي أمر نسائي دونهم(3) ... وإن أراد رجل منهم(4) أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها إلا بإذنه وأمره، فإنه أعرف بمناكح قومه...» (5).
ثم إنه(ع) يؤكد على ذلك في موضع آخر من نفس الوصية: «.. ولا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن، ولا سلطان، ولا عمّ، إلا برأيه ومشورته (6)، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله، وجاهدوه في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوج زوج، وإن أراد أن يترك ترك»(7).
فالإمام -بحسب الوصية- لم يمنع بناته من الزواج -كما ادّعى اليعقوبي- وإنما جعل أمر زواجهن بيد أخيهن الإمام الرضا(ع).
وفي وصية أخرى له(ع) لتعيين أوقافه وصدقاته وكيفيّة تقسيمها، قال: «... يقسم في مساكين أهل القرية من ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الانثيين، فإن تزوجت امرأه من ولد موسى بن جعفر فلاحق لها في هذه الصدقة حتى ترجع اليها بغير زوج، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى...» (8).
ويبدوا أنّ هذه الوصيّة هي التي جعلت اليعقوبي يقول بأنّ الإمام أوصى أن لا تتزوج بناته من بعده ، ولكن الظاهر منها أن التي تتزوج تكون في كفالة زوجها، وهو ينفق عليها، فإن مات أو طلقها رجعت وكان لها مثل حظ التي لم تتزوج.
ومع ذلك كله فانه لقائل أن يقول: يشم من هذه الوصية ومن سابقتها عدم رغبة الإمام في تزويج بناته، بل إن الواقع الخارجي يصدق ذلك، فلا الإمام الكاظم نفسه في زمان حياته زوج واحدة منهن، ولا الإمام الرضا، بل كان هذا سائراً في بناتهم، وقد أوقف الإمام الجواد(ع) عشر قرى في المدينة أوقفها على أخواته وبناته اللاتي لم يتزوجن، وكان يرسل نصيب الرضائية(9) من منافع هذه القرى من المدينة إلى قم (10).
فيستوقفنا -هنا- سؤال وهو: رغب الشرع المقدس في الزواج المقدس في الزواج وحث عليه ونفر من العزوبة وحذر منها، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة فكيف أوصى الإمام الكاظم(ع) بعدم زواج بناته مع العلم أن الزواج سنة رسول الله(ص) ومن المستحبات الأكيدة؟
قد يُجاب عن هذا السؤال بأحد الأوجه التالية:
الوجه الأول:
أنّ العزوبة وإن كانت مكروهة عند الشرع المقدس، لكنها قد ترجح في بعض الأزمنة.
فعن إبن مسعود قال: قال رسول الله(ص): «ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دينه إلا من يفر من شاهق، ومن جُحر إلى جُحر كالثلب بأشباله.
قالوا: ومتى ذلك الزمان؟
قال(ص): إذا لم ينل المعيشة إلا بمعاصي الله، فعند ذلك حلٌت العزوبة» (11).
فالعزوبة تحل في بعض الأزمنة، وعليه قد يكون الإمام(ع) قد مر بما يماثل تلك الأزمنة، فلا تنافي بين ترغيب الإسلام في الزواج، وبين عدم تزويج الإمام(ع) لبناته.
فالحكم الاولي للعزوبة هو الكراهة، ولكن الحكم الثانوي المستفاد من هذه الرواية هو حليّة العزوبة في بعض الأوقات.
الوجه الثاني:
أنه(ع) لم يزوجهن لعدم الكفؤلهن، فإنهن ودائع رسول الله(ص) وكريماته، فينبغي أن لا تزوجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ، ويقدر منزلتهن، فقد قال رسول الله(ص): «أنكحوا الأكفاء وانكحوا فيهم واختاروا لنطفكم» (12).
فلو أنّ الإمام(ع) قد زوجهن من غير الاكفاء لما عرفت مكانتهن، ولهدرت حقوقهن ، وما في ذلك من المهانة والإذلال لودائع رسول الله(ص)، وحاشا الإمام أن يفعل ذلك.
بل قد يكون تزويجهن من غير الأكفَاء عامل ضغط على الإمام(ع) تمارسهُ الحكومة العباسيّة لتكلبيل أشد للإمام، وتقييد أكثر لحريّته.
ولذا نجد أن الإمام(ع) في وصيته قد جعل أمر تزويج بناته بيد الإمام الرضا(ع) معللا ذلك بأنه أعرف بمناكح قومه.
الوجه الثالث:
ما أجاب به الإمام(ع) هارون عندما سأله: «... قال: فلم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن واكفائهن؟ قال: اليد تقصر عن ذلك.
قال: فما حال الضيعة (13)؟
قال: تعطي في وقت، وتمنع في آخر...» (14).
فالإمام(ع) علل عدم تزويجهن لقصر ذات اليد، وضعف الإمكانات الماديّة.
الوجه الرابع:
نتيجة الضغوطات العنيفة، والممارسات لتعسفية التي كانت السلطة العبّاسية تنتهجها تجاه الامام(ع) وشيعته، ما كان أحد ليجرأ أن يتقدم من الإمام ليطلب كريمته أو أخته.
بل إن الشيعة -في فترات مختلفة من الزمن- ما كانوا ليتقربوا من دار المعصومين(ع) في إستفتائاتهم، ولذا كان بعضهم يلجأ إلى الحيلة فيلبس ثياب بائع خيار ويحمل سلة الخيار حتى يتمكن من دخول دار الإمام ، فيستفتيه ويخرج.
فإذا كان أتباع أهل البيت(ع) لا يستطيعون استفتاء الإمام، فما ظنك بمن يريد مصاهرة الامام؟!
إنّ الراغبين لشرف مصاهرة الإمام -سواء أكانوا من أولاد العمومة أم من خيار الشيعة- كان أمرُهم دائراً بين مقتول بأيدي الغدر والعدوان، وبين معتقل معذب في قعر السجون، وبين مطارد من جلاوزة السلطة قد استخفى عن أعينهم...!!
فمن ذا الذي يجرأ -بعد هذا- أن يطلب الوصلة بالإمام(ع)؟
النتيجه:
إنّ السيدة المعصومة(ع) -كسائر أخواتها- لم تتزوج، وعدم تزويج الإمام لهن لا ينافي الترغيب والأمر بالزواج.
وظاهرة عدم تزويج اكثر من إمام لبناته أو اخواته لهي ظاهرة تستحق دراسة أكثر، وبحثاً أعم، للتعرف على أسباب وملابسات هذه الظاهرة وتحليلها، فهي حلقة من حلقات معناناة ومعايشة المعصومين(ع) لظروف عصيبة ومختلفة. فعسى الله أن يفيض من يبحثها ويكشف عن غوامضها.
__________________
(1) أي، الظاهر أن يكون لها محرماً فيستطيع أن يحجٌ بها -وليس بواجب عندنا.
(2) تاريخ اليعقوبي: ج٢ ص ٤١٥.
(3) أي دونه بقية إخوته.
(4) أي من إخوته.
(5) أصول الكافي: ج١ ص ٣١٦، وعيون اخبار الرضا: ج١ ص٣٣.
(6) أي الا براي ومشورة الإمام الرضا(ع).
(7) أصول الكافي: ج١ ص ٣١٧.
(8) عيون أخبار الرضا: ج١ ص٣٧.
(9) أي بنات وحفيدات الإمام الرضا(ع)، فهنٌ ينسبن إليه فيقال: الرضائية.
(10) تاريخ قم -المترجم- ص ٢٢١.
(11) بحار الانوار: ج١٤ ص ٣٥١.
(12) فروع الكافي: ج٢ ص٥.
(13) الضيعة: العقار، والأرض ذات الغلة.
(14) عيون أخبار الرضا: ج١ ص ٨٨ ح١١.
المصدر: كتاب سيّدة عشّ آل محمد صلى الله عليه وآله: السيد أبو الحسن الهاشمي، المطبعة العلميّة.
اترك تعليق