مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الأم أكنس مريم: علينا أن نصنع نوعاً من جبهة الإستنارة والعرفان تجاه الظلامية

الأم أكنس مريم: علينا أن نصنع نوعاً من جبهة الإستنارة والعرفان تجاه الظلامية وأن نسمي الأشياء بمسمياتها

بسم الله الرحمان الرحيم

«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» المائدة: 82
جمعتنا القضية السورية، جاءت هي ومجموعة أخرى من العلماء والشخصيات الدينية من الإسلام والمسيحية والنشطاء السياسيين والإعلاميين ضمن قافلة السلام لسورية وقدمت في المؤتمر الذي أقيم في مدينة قم المقدسة في إيران، تقريرا مفصلا ميدانيا عما شاهدته من مجازر مروعة اقترفتها أيدي الإرهاب في مدينة حمص وسط سوريا. وعلى هامش فعاليات هذه القافلة وجدنا فرصة مناسبة لفتح باب الحوار بين الأديان والمذاهب وجلسنا مع عدة شخصيات من المذاهب والأديان المختلفة. ومن ضمن هذه اللقاءات: الحوار مع الأم أكنس مريم والذي تطرقنا فيه إلى الأزمة السورية وجوانب فكرية وروحية مشتركة بين الإسلام والمسيحية والتجربة الإيرانية الحضارية. وإليكم تفصيل هذا الحوار.

في البداية عرّفي نفسك ونشاطاتك ونبذة عن سيرتك الذاتية لقرّاء موقعنا؟
[...]
أنا الأم أكنس ماريا رئيسة دير "ماريا يعقوب الفارسي المقطع" في مدينة قارة والتي تبعد 90 كيلومتراً شمالي مدينة دمشق. وجدَت هذا الدير سنة 1993 وشُغِفتُ بجماله وكان ديراً مندثراً مجردّ أطلال فقط. لا تخفي عظمته الغابرة فقررّت أن أُرمّمه، وابتدأنا العمل سنة 1994 وسنة 2000 استطعنا أن نسكن في هذا الدير، ونؤسس جماعة ديرية رهبانية توحّيدية تلتمس وجه الله وتمارس الضيافة الروحية لجميع أبناء آدم وبناته. كانت نشطاتنا نشاطات دينية، روحية، ثقافية، تنمويّة، وسنة 2010 كان زوارنا يتخطون 25 ألف سنوياً.
أما إبّان الأزمة تعاطّينا مع ضرورات المسألة الإنسانية ومساعدة المظلومين، ساعدنا في إخلاء سبيل السجناء من خلال التوسط مع الخاطفين. توسط بين الخاطفين وأهالي المخطوفين، وأيضاً أعطينا الدّين بشهادتنا. وبعد كانون الثاني 2012 دخلنا في معترك مبادرات المصالحة الوطنية التي أطلقت في سنة 2012 إبّان تجّمع للعائلات السورية حيث كان المجتمعون أكثر من 1000 شخصية مدّنية وروحية، تعهّدوا أن لا يلجأوا أبداً إلى العنف تجاه الآخرين.
وتفرّغت لمسائل المصالحة وعوّمت فكرة المصالحة عالمياً بشكلٍ إذا ذكرت مصطلح مصالحة بأي مقالة في اللغات الأجنبية باتت لا تحتاج إلى الترجمة فقد أصبحت مصطلح عالمي، وفي حوالي حزيران سنة 2012 تكلّمت في الإذاعة الإيرلندية فتَعرّفت عليّ جائزة نوبل للسلام، فأصدرت بياناً نُشر على الشبكة العنكبوتية لتدعم مواقفي وتدافع عنّي تجاه من كان يتحدّاني بسبب شهادتي.

يعني كان يوجد تهديدات؟

بالتأكيد، لم يكن لديّ مواقف بل كان لديّ شهادة، أنا لستُ سياسية ولكن أنظر بعين مجرّدة للمسائل الحياتية المتأتية من السياسة المحلية والعالمية والتي تضع حياة المدنيين في الخطر.

هذه التهديدات من أي جهة كانت تصدر؟

أنت تعرف ما يُسمى المعارضة الخارجية، أُناسٌ هربوا من سوريا منذ عشرات السنين ولم يسكن أحدهم في سوريا ولم يشاطر الشعب السوري محنته وشجونه، فجأةً أصبحوا يعرفون الشأن السوري ويتكلمون باسم الشعب السوري وليسوا على أرض الواقع، وهنالك جحافل من المسلحين يعيثون فساداً في الأرض وهؤلاء لا يعرفون حتى عن وجودهم أو عن أعمالهم فإمّا يجهلون وهذا ليس عذراً وإمّا يتجاهلون وهذا يكون بمثابة تهمة موجهة إليهم، لا يريدون أن يعرف أحد بهذه المسائل، ولا أن يشهد عليهم وإنما أنا ضميري كان يحثني لأتكلم عن مأساة الشعب السوري ولذلك هبّت السيدة ماكواير للدفاع عنّي ولدعم نشاطاتي وتطلعاتي ودعتني لكي أزورها في إيرلندا الشمالية وأتيت وكان لنا لقاء مثمر جداً إذ قرّرنا تنظيم تجمع عالمي لدعم جهود المصالحة في سوريا وهكذا انطلقنا.
[...]
نحن نستقبل ونتمنّي من الجميع، أي شخص ذو الإرادة الحسنة أن يأتي ويدعمنا لأنّنا بأمس الحاجة لهذا الدعم.
في الحقيقة التنوع الديني والمذهبي في منطقة الشام بشكل عام وعلى وجه التحديد لبنان وسوريا، والتعايش السلمي الموجود عبر قرونٍ وسنواتٍ عديدة هي جمال، وهذا التنوع جمال إنساني وجميل وهذا التعايش كان مستهدفاً في هذه الأزمة والحرب وأرادوا أن يُحوّلوا هذه النعمة إلى نقمة الحرب الطائفية. وهذه المجازر التي قاموا بها هؤلاء الإرهابين على أرض الواقع هل سبّبوا إيجاد الشرخ يعني التفرقة بين أبناء الشعب؟ أم ما زال الشعب واع ومنتبه ويعرف الأزمة وخطورتها وكيف هي الأوضاع حالياً؟
على الصعيد المدني هنالك تألف عظيم جدّاً بين جميع أطياف الشعب السوري، والنسيج الاجتماعي المتنوع، حيث الجميع يتزّوج من الجميع ويعيش مع الجميع، وكان قبل الأزمة هنالك نوع من المنع التلقائي للتكلم في الإنتماء المذهبي، يعني عندما تتكلم بالإنتماء الطائفي تحسّ بالخجل، لأنّ ذلك يُفرّق، وكل ما كان يريده الشعب السوري التعايش بالمساواة وبالتنعم بما تقدّمه الدولة من أمان وإستقرار وفرص عمل وإلى آخره.
[...] وفي جميع الأحوال كان هنالك جحافل من المرتزقة المسلحين المجهولين الذين يعتدون على الجميع ليخلقوا البلبلة ويرسخوا الشرخ الديني، ولكن جميع المحاولات باءت بالفشل لماذا؟
لأنّ الشعب السوري تربّى على خلفية وطنيّة متينة جداً، هنالك بعض ضعفاء العقول الذين انجرفوا ولا ننسى المآرب المالية والإغراءات المالية التي قُدّمت بكثرة في عدّة محطات من الأزمة، ولكن خارج هذه الإغراءات المالية وضعف العقل ترى أنّ معظم الشعب السوري لم ينجر وراء الفتنة وحتى البيئة الحاضنة لنوع من الثورة الداخلية التي تبتغي الإصلاح وتبتغي التغيير جميعهم اليوم يعترفون أنهم لن يرضوا بتفكيك الدولة وفي تدمير المكونات والبنى التحتية للدولة السورية مع تدمير تراثها الثقافي والديني وجوامعها وكنائسها يعني جميع المقدسات التي يدوسها هؤلاء المرتزقة، واليوم المزاج الشعبي العارف في سوريا يتوق إلى المصالحة ويتوق إلى تهدئة وإلى الرجوع سويةً إلى بناء الدولة وتخطي التفكك والتشتت القائم من جراء اجتياح مناطق شاسعة في سوريا من قبل مسلحين ينتمون إلى أكثر من ثمانين دولة.

أريد منكِ أن توضّحي لنا الصلة المعنوية والروحية بين الإسلام والمسيحية، كما تعرفين أنّ القرآن الكريم يشير إلى ذلك «لتجدنّ أقرب الناس مودّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصاري»، فهذه المسألة لها جذورٌ تاريخية ومذكورة في نصوصٍ إسلامية، وإذا أردنا أن نقارن هذه الصلة الروحية المعنوية بالمقارنة بين اليهود والإسلام وبين المسيحية والإسلام، كقرابة واقعية موجودة فما هي وجهة نظرك كراهبة مسيحية؟
قبل كل شيء وقبل أن نكون منتمين إلي ديانة معيّنة نحن بشر خلقهم الله سبحانه وتعالى على صورته ومثاله وجعله خليفةً، أي الإنتماء البشري يسبق الإنتماء الديني والدين هو ضرورة بشرية لكي ينتمي الإنسان إلى منظومة تجعله يتسلّق الطريق الوعرة التي تصله بالإلوهية.
نحن في المنطقة أبناء ابراهيم عليه السلام، جميعنا ننتمي إلى الكشف الإلهي لإبراهيم الخليل عليه السلام. كان يعيش بين أمةٍ وثنية نسيت الخليقة وبعد سنوات من الفيضان يعني هو من سلالة نوح وتعلم أنّ الفيضان أتى عِقاباً على الفساد البشري وإنما نوح لقي حظوة لدى الله سبحانه وتعالى، فلذلك المخزون الروحي للإيمان بالإله الواحد جل جلاله هو تراث مشترك بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو مبني على شريعة الله الذي ينهى عن الباطل، وينوّرنا إلى عمل الخير.
الآن يوجد تطوّر في المسيحية عبر العصور، كان يوجد انغماس في الفكر العالمي لأنّ المسيحية في أصلها ترتكز على حريّة الإنسان، ودون حرية ليس هنالك مبايعة لله أنت لا تستطيع أن تبايع إلهك مكروهاً، عليك أن تكون مريداً، فبالإرادة يوجّه قلبك نحوه، لذلك المسيحية لا تقوم على الإكراه والإسلام أيضا يقول «لا إكراه في الدين» المسيحية مرّت عبر العصور بتطوّرات ثقافيّة في مراحل نموّها أو انغماسها في العالم.
كانت المسيحية رغم أنّ السيد المسيح «له المجد» فتح باب الرحمة على مصراعيه وكان يبشّر بالمحبة وبالتسماح اللامتناهي وكان يقول: (إذا تجنى عليك أخاك سبعين مرة، عليك أن تسامحه في النهار). فتأمّل كيف مع التحول الثقافي للمسيحية وصلنا إلي أّيام مظلمة كانت هنالك محاكم التفتيش تعاقب من لا يفكّر بالدين المستقيم بالحرق أو بالجلد أو بتقطيع الأوصال وما إلى ذلك من التعديّات على حقوق الإنسان. هذه التطورات مثل الحملات الصليبية ليست من صلب المسيحية وإنّما تطوّر ثقافي سياسي أو فكري إنساني، والنقد الذاتي مهم جداً ونحن في المسيحية نلم به، يعني لا نخاف من النقد الذاتي. ترى الباباوات يركعون أمام بطاركة القسطنطينية ليطلبوا السماح على أخطاء البعض.
أما إذا تطلعنا إلي الإسلام نرى أنّ في نشأته ديناً حنيفاً يعتنق مسلّمات أهل الكتاب ويقول أنّه أتى ليثبّت كل ما أتى من قبله، وأنا أرى في تطور الإسلام، التطور الثقافي التطور السياسي، والتطور الانساني البحت، هنالك محطّات مجيدة وهنالك محطّات مثل المحطّات التي تكلّمت عنها فيما يخصّ بالمسيحية يعني أقل استنارة. اليوم مثلاً تواجه فكراٌ لا نتعرّف فيه على المسلّمات الحنيفة للدّين الحنيف، عندما يأتي داعية ويقول للجميع عليك أن تقتل تلك أو ذاك لأنّه ليس من دينك، لا نستطيع أن نتعرّف إلى الإسلام من هذه التهديدات.

رابطة الحوار الديني للوحدة:
تأكيداً لكلامك أعطيك ذكرى، عندما كنت صغيراً كان قد استشهد عمّي دفاعاً عن الإسلام والوطن في منطقة خوزستان في الحرب مع العراق ذكر في وصيته هذه الآية الكريمة «لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع وبِيعٌ ومساجدُ يذكر فيها اسم الله كثيراً» فأنا كنت أفكر بالآية كيف يمكن أن يأتي أناسٌ الله تبارك وتعالى يدفع شرّهم ولو لا يدفع شرّ هؤلاء، يهدمون الصوامع والبَيّع والمساجد، ما كنت أستوعب هذه الآية إلى أن بدأت الحرب في سوريا، فرأيت بأمّ عيني يهدمون المساجد والكنائس ويخطفون المسيحيين والعلويين والسنة والشيعة، رأيت تطبيق الآية بأمّ عيني عند هؤلاء المجرمين.

الأم أكنس ماريا:
نحن كأبناء هذه الروحانيات السماويات، علينا أن نتسلّح بالفطنة والمعرفة لنقوم بنقد ذاتي مستمر كي لا نحوّل منطقتنا الّتي هي بوتقة الديانات ومرتع الحضارات إلى بركان ينفث السمّ لجميع الإنسانيات، فعلينا أن نقف بحزم وقوة وذلك لا يعني أنّنا مستائون من أي ديانة بل إنّنا مستائون من التأويلات الّتي تشنّع بالوجه الحقيقي لأي ديانة. أنا فقط لا أريد ديانة تقتُل وتذبَح وتدمّر وتلعن وتعيث فساداً وتخرّب.

أولاً علينا أن نصنع نوعاً من جبهة الإستنارة والعرفان تجاه الظلامية ونسمي الأشياء بمسمياتها وهذا يعني أنّنا لا نعادي أي دين، وثانياً علينا أن نقرّ بحرية المعتقد، هذا الشيء المسيحية تبنّته ولربّما تنهدم من الداخل من وراءه، ولكن الحرية المنضبطة أجمل من أي تعدّي على الحريّات حتى لو كان باسم الله.
أنا اليوم أطلق صوتي للحرية التامة بالمعتقد ولكن كل شيء بعنوانه يعني أنت لا تستطيع أن تقول أنّني أنتمي إلى هذه المدرسة أو لهذه الديانة وأنت تنفي بأقوالك أو بأفعالك أبسط مبادئ انتمائك، فعلى السلطات أن يحذفوك من هذا الإنتماء ولكن أن يدعوك حرّاً بمعتقداتك.
إنّني أدعوا جميع السلطات الروحية لأنّهم مثل آباء وآمهات لنا جميعاً أن يعتمدوا تحرير أبنائهم من جميع القيود التي تقيّد حرية التفكير، وبالمقابل عليهم أن يقدّموا الرسالة الحسنة والتعليم الصحيح وأنا أرى أنّ في الجمهورية الإسلامية مثلاً مدينة قم، كل البنى التحتية المتوفرة لتنوير المنتسبين إلى مذهبكم بكل ما يحتاجونه من فكر ومعرفة وتوجيه وفرص لكي يحقّقوا بحوثاتهم العلمية لكي يصطعوا في مجال المعرفة إن كان مناطقياً أو دولياً وهذا جيّد.
فسررت كثيراً وأشعر بأنّ المشترك بيننا أكبر بكثير من التباين هنالك نقاط صغيرة وحتى في هذه النقاط سمعت من الباحثين من كلّمني بإقرار بمبادئ عقيدتنا بطريقة لم أكن أحلم بها ونحن جميعاً ننتظر مجيء السيد المسيح في آخر الآزمنة وقد قالها السيد أحمدي نجاد في صالة الأمم المتحدة وأظنّ أنّه الرئيس الوحيد الذّي تكلّم في هذه المسائل النهيوية بهذا الإيمان وهذا التطلّع وأنّ سياسية الجمهورية الإسلامية ترتكز على مبادئ لاهوتية وأنّ المبادئ اللاهوتية هي التي تنير الإنسان في مجال المدّنية والاقتصاد والسياسية وغيرها.

رابطة الحوار الديني للوحدة:
ونحن نعتقد أنّ هناك ظهور للإمام المهدي وسيدنا المسيح وهم يصلّون مع بعضهم البعض ويقومون بالحركة الإصلاحية العظيمة في الأرض يملآ الله بهما الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. هذه رؤيتنا لنهاية التاريخ ونحن نؤمن بالانتظار الهادف وننتظر هؤلاء المصلحين السماويين ويجب أن نصلح أنفسنا ومجتمعنا لنوحّد الأرضية لظهور هؤلاء .

الأم أكنس مريم:
إنّما هذا المشروع مشروع مشترك يستطيع أن يمدّ إلى الآخرة يعني نحن متصلون في هذا المشروع ومتحدون إن شاء الله. ومن خلال هذا المشروع يستطيع أن يتغلب الخير على الشرّ، وأن تكون السياسة هي من صنع الحكيم ولا تتحكّم بالحكيم.
رابطة الحوار الديني للوحدة: شكراً جزيلاً لكِ لقد استفدنا من الحديث معكِ كثيراً وإن شاء الله إلى لقاءات أخرى بإذن المولى عز وجل.

الأم أكنس مريم:
شكراً لكم والله يعطيكم الصحة والعافية.


المصدر:
www.moqavemat.ir  
*بتصرف

التعليقات (0)

اترك تعليق