مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

سيدات الأرض... أميّات ولكن مبدعات

سيدات الأرض... أميّات ولكن مبدعات


سيدات على دروب الإبداع، إنهن سيدات الأرض، أميات ولكن مبدعات تخطين حاجز الأمية بإصرار على بناء وطنهن الخاص، رسمن، كتبن الشعر وألفن كتاب الرموز الهاتفية البسيطة. عشقن التفرد، انقلبن على أمية العلم الذي حُرمن منه. هن باختصار سيدات رفضن التقوقع في زاوية الحياة الضيقة فحولن الماكينة والزراعة والرسم إلى مصدر إلهام مبتكر لفن ذاع صيته لأنه خارج من تحدي امرأة لمنزلقات الواقع.

في شهر المرأة والحياة نطل على سيدات خرجن من بوتقة القيود الصارمة التي فرضت عليهن في الماضي فأرسين سفينتهن الإبداعية في مرفأ أبسط ما يقال عنه "مرفأ حرية امرأة هاربة من قيود الماضي".
تخطت المرأة كل حدودها فكانت المبدعة أينما حلّت، حمدة يحيى رسامة ولد فنها من رحم التبغ، ليلى رضا شاعرة خطت بماكينتها أرقى الحروف ومنيرة التي ابتكرت دفتر تلفوناتها الخاص وجميعهن لم يتعلمن لا أصول الرسم ولا الخط في المدرسة بل بفطرة فنية محنكة.
تختصر حمدة وليلى ومنيرة عشرات وربما مئات من سيدات أبين إلا أن يطورن قدراتهن الفنية رغم قيد العلم، فكم من سيدة رغبت أن تكون رسامة وحرمتها ظروفها حلمها؟، وكم من سيدة شاءت أن تغرف من وعاء الفكر أدبا ولم تحظ بتشجيع الأهل ولكن دوما هناك استثناءات رسمت خريطة طريق جديدة لأحلام كادت أن تحتضر لولا الإصرار، الحلم، الإرادة وكبرياء امرأة تريد أن تصل فمن هم أولئك السيدات؟

حروف هندسية
لم تختبئ الحاجة منيرة خلف أميتها، ولم تطأطئ الرأس لعدم إلمامها بفك الحروف، بل شدت همتها وعزيمتها وقررت أن تبتكر حروفا هندسية تعينها في معرفة أرقام هواتف الجيران والأصحاب وأيضا البقال واللحام والسمكري وغيرهم. لم تتعلم فك الحروف في صغرها فقديما كان مصير البنت تربية أخواتها لأن الأم والأب منشغلان في زراعة التبغ، كبرت وبقي حلم الهندسة يطوف في مخيلتها. الحاجة السبعينية لم تترك التطور يذهب بعيدا عنها فكانت أول من حمل الهاتف المحمول في بلدتها بعد أن كانت تضطر لتتنقل من منزل إلى آخر لتلقي مكالمة من ابنها المغترب، تحاكي الحاجة منيرة واقع المرأة اليوم وإن بأسلوبها وحنكتها وفلسفتها البسيطة والحكيمة التي تعلمتها من دروب الحياة الشاقة.
الحكيمة كما متعارف عليها في بلدتها، عجزت عن حفظ أرقام الهواتف العديدة، والأنكى أنها وجدت نفسها "ضائعة" في عالم الأرقام والأسماء. في دفترها الغريب، المثير للجدل تتعرف على ذكاء امرأة "صحيح لم أتعلم، ولكن لديّ عقلا أفكر به عبره تغير الكثير من الظروف وإن بشكل صغير"، تحمل الدفتر الصغير وتطل منه على مسرحية فكاهية رسمت الحاجة منيرة السيناريست، فتجد "الإبرة" التي ترمز للمستوصف، ومفك البراغي الذي يدل على عامل التصليحات، وقنينة الغاز وخزان المياه والنظارة السوداء التي ترمز إلى "كفيف" والنرجيلة " دلفري أركيلة" وأكثر من 70 رسمة تخلصت عبرها الحاجة منيرة من جهل عالم الاتصالات والأرقام، واستطاعت أن تكون رقما صعبا في معادلة "المجتمع" بل حوّلت "أميتها" إلى فن تشكيلي هيروغرافي بالنسخة اللبنانية.

رسامة بالفطرة
لم تكن تدرك حمدة يحيى أنها ستكون رسامة وهي الفلاحة ابنة الأرض، بيد أن إصرارا داخليا حفزها على حمل ريشة وألوان لترسم روحها الدفينة، فجاءت لوحاتها على شاكلة أفكار طفولية بسيطة من وحي الواقع، رسمت الحب العذري والمرأة والطفولة والفلاحة والأرض، رسمت بيئتها ومجتمعها الصغير الذي حولها من فلاحة إلى رسامة بالفطرة تخطت برسمها كبار رسامي اليوم.
تحوك يحيى بين كلماتها حكاية امرأة فلاحة رفضت كل الظروف وأبت إلا أن تقدم نموذجا غير "مبتذل"، إذ غرفت من بحر الواقع والظروف لوحات توزعت في حنايا منزلها العتيق، المدجج بكنوز التراث وبساطة الفلاح، فكل لوحة تحكي حكاية عاشتها "أرسم نفسي بصورة الواقع فخرجت عن نمطية الرسم التقليدي".
بزغ نجم ريشتها في الطفولة في مدرسة "الضيعة" بيد أن ضعف الإمكانيات المادية حال دون مواظبتها على الرسم "كنت أزرع وأعمل في التبغ كي أجمع مالا أشتري به الألوان"، انقطعت يحيى عن الرسم لتربية أولادها حتى كبروا، ثم عادت للريشة واللون، أول لوحة رسمتها كانت قبل 27 عاما حاكت الطبيعة والأرض "فأنا المزارعة والفلاحة والرسامة أيضا وهذا وسام اعتزاز لي، فهذه الهواية تخرجني إلى عالم جديد بعيدا عن مشاكل وآفات المجتمع وهموم الأولاد".

خياطة الشعر
وإذا كانت حمدة يحيى أبدعت في الرسم، فإن ليلى رضا في الشعر كانت رائدة، فلعبت على حياكة أبياتها الشعرية عبر ماكينة خاطت عليها ملابسها القصائدية فكانت خياطة الشعر على مقاس الإبداع. من خلف أسوار المدرسة تعلمت فك الحروف فرسمت بها قصائد شعرية بلغة عامية رقيقة سرقت الأنظار إليها إذ حاكت بقصائدها الحرية، العدالة، الوطن ولكن بأسلوب امرأة تبحث عن ملاذها الآمن بين الحروف.
من رحم اللاشيء ولدت مبادئ وخيوط الشعر العامي عند الحاجة ليلى رضا، المرأة السبعينية، التي ألفت موسوعتها الخاصة واقتحمت الشعر من بوابته العريضة، "رغم أنني لم أدخل المدرسة ولم أتعلم فك الحرف" فالتقاليد القديمة كانت تحرم البنت البكر من التعلم لكي تتفرّغ لتربية أخوتها وتساعد في الأعمال المنزليّة، كإنجاز الغسيل والطبخ ..." ورغم تلك المعوقات نجحت أم حسان في تزويد نفسها بثقافة ذاتية، فكيف تعلمت أم حسان؟ تجيب بالقول:  "كانت المدرسة قرب منزلنا، وكنت أقف خلف السور أسترق العلم، أصغي جيدا إلى المدرس، أسمع ما يقوله، أحفظه ثم أعيد قراءته آخر الليل على ضوء "سراج الكاز"، أهجي الحروف وأعاندها حتى تتعانق مع روحي، وكانَ أول ما تعلمت تهجيته، جزء "عم" في القرآن الكريم، وقد وضعت نصب عيني أن أتعلّم، مهما كلفني الأمر، كنت عاشقة الشعر الذي يطوف في أرجاء منزلنا، فالشعر عندنا يولد بالفطرة".
تعلمت أم حسان الخياطة والتطريز اليدوي ، فكانت آلة الخياطة متنفسها الروحي، "كنت أخيط الملابس، وفي قربي قلم وورقة، وكلمة عفوية أجود بها، فكم من مرة تركت الإبرة لأرسم بالقلم لوحتي العفوية ، القادمة من علياء الروح، فتكون الروح العاشقة، أو الوردة المؤاسية للحزن، وغالبا ما تكون أنا".
في منزلها تجلس أم حسان تتلقّن الثقافة، ولكن ليس عبر كتاب بل من خلف شاشة التلفاز، تقول: "لا أدع برنامجا ثقافيا ولا مقابلة إلا وأتابعها، فالتلفزيون منهلي الوحيد لصقل وتنمية قدراتي اللغوية"، وتروي كيف أصبحت تلقي أبيات الشعر في مناسبات الرثاء والفرح.
في زمن غلب فيه "copy paste" وغابت القدرة على تفريغ المخزون الفكري الإبداعي عند جيل همه الوحيد سرقة الأفكار "العنكبوتية" كانت ليلى رضا تغزل الشعر العامي بماكينتها، لم تقف عند حدود بل وضعت نصب عينيها "الشعر" فهو "لسان حالي أينما حللت كنت أعبر عن غضبي وفرحي وحزني به فكتبته لأنه يمثلني".



المصدر: جريدة البلد.

التعليقات (0)

اترك تعليق