مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

فضّة النوبيّة

فضّة النوبيّة

جارية فاطمة الزهراء سلام الله عليها، كانت رحمها الله على درجة عالية من الإيمان والتقوى، والزهد والورع، ومحبّتها لأهل البيت عليهم السلام معروفة ومشهورة، وبلاغتها وحسن منطقها لا يخفى على الكثير. لم تكن مساعدتها للزهراء سلام الله عليها مقتصرة على العمل اليومي في المنزل، ولم يكن إسهامها في خدمة البيت فقط، بل كانت التربية الفاطميّة تنعكس على هذه التلميذة التي كانت ملازمة لمعلّمتها.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
"كان لفاطمة جارية يقال لها فضة، فصارت من بعدها لعلي عليه السلام، فزوّجها
 
من أبي ثعلبة الحبشي، فأولدها ابناً، ثم مات أبو ثعلبة وتزوّجها من بعده أبو مليك الغطفاني، ثم توفّي ابنها من أبي ثعلبة، فامتنعت من أبي مليك أن يقربها، فاشتكاها إلى عمر وذلك في أيامه، فقال لها عمر: ما يشتكي منك أبو مالك يا فضة؟

فقالت: أنتَ تحكم في ذلك وما يخفى عليك، قال عمر: ما أجد لكِ رخصة، قالت: يا أبا حفص ذهب بكَ المذاهب إنّ ابني من غيره مات، فأردتُ أن أستبرئ نفسي بحيضة، فإذا أنا حضتُ علمت أنّ ابني مات ولا أخ له، وإن كنتُ حاملاً كان الولد في بطني أخوه.

فقال عمر : شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي".

وعن ورقة بن عبد الله الأزدي قال: خرجتُ حاجّاً إلى بيت الله الحرام، راجياً لثواب الله ربّ العالمين، فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء مليحة الوجه عذبة الكلام، وهي تنادي بفصاحة منطقها وهي تقول: ربّ البيت الحرام، والحفظة الكرام، وزمزم والمقام، والمشاعر العِظام، وربّ محمّد خير الأنام (ص) البررة الكرام، أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين وأبنائهم الغرّ المحجلين الميامين، ألا فاشهدوا يا جماعة الحجّاج والمعتمرين أنّ مواليّ خيرة الأخيار، وصفوة الأبرار، الذين علا قدرهم على الأقدار، وارتفع ذكرهم في سائر الأمصار المرتدين بالفخار.
قال ورقة: فقلتُ: يا جارية إني لأظنّك من موالي أهل البيت.
فقالت: أجل.
فقلت لها: ومَن أنتِ من مواليهم؟
قالت: أنا فضة أمة فاطمة الزهراء عليها السلام بنت محمّد المصطفى صلّى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.
فقلت لها: مرحباً بك وأهلاً وسهلاً، فلقد كنتُ مشتاقاً إلى كلامكِ ومنطقكِ فأريدُ منكِ الساعة أن تجيبينني عن مسألة أسألك، فإذا أنت فرغتِ من الطواف قفي لي عند سوق الطعام حتى آتيك، وأنت مثابة مأجورة. فافترقنا في الطواف، فلما فرغتُ من الطواف وأردتُ الرجوع إلى منزلي جعلتُ طريقي على سوق الطعام، وإذا أنا بها جالسة في معزل عن الناس، فأقبلتُ عليها واعتزلتُ بها وأهديتُ إليها هدية ولم أعتقد أنّها صدقة، ثم قلت لها: يا فضة أخبريني عن مولاتك فاطمة الزهراء، وما الذي رأيتِ منها عند وفاتها بعد موت أبيها محمّد(ص)؟
قال ورقة: فلمّا سمعتْ كلامي تغرغرت عيناها بالدموع، ثم انتحبت باكية وقالت: يا ورقة هيّجت عليّ حزناً ساكناً، وأشجاناً في فؤادي كانت كامنة، فاسمع الآن ما شاهدتُ منها:
اعلم أنّه لما قبض رسول الله(ص) افتجع له الصغير والكبير، وكثر عليه البكاء، وقلّ العزاء، وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب، والأولياء والأحباب، والغرباء والأنساب، ولم تلقِ إلاّ كلّ باكٍ وباكيةٍ ونادبٍ ونادبة، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب والأقرباء والأحباب أشد حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً من مولاتي فاطمة، وكان حزنها يتجدّد ويزيد وبكاؤها يشتد، فجلست سبعة أيام لا يهداً لها أنين ولا يسكن منها الحنين، وكلّ يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأوّل، فلمّا كان في اليوم الثامن أبدتْ ما كتمتْ من الحزن، فلم تطق صبراً إذا خرجت وصرخت فكأنّها من فم رسول الله(ص) تنطق...
وفي الأصابة: روي عن الصادق عليه السلام عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال:
"إن رسول الله(ص) أخدم فاطمة ابنته جارية اسمها فضة النوبيّة، وكانت تشاطرها الخدمة، فعلّمها رسول الله(ص) دعاء تدعو به، فقالت لها فاطمة: أتعجنين أو تخبزين؟ فقالت: بل أعجن يا سيّدتي واحتطب، فذهبت واحتطبت وبيدها حزمة، فأرادت حملها فعجزت، فدعت بالدعاء الذي علّمها (ص) وهو: (يا واحد ليس كمثله أحد، تميت كلّ أحد وأنتَ على عرشك واحد لا تأخذه سنة ولا نوم)، فجاء أعرابي كأنّه من أزد شنوءة، فحمل الحزمة إلى باب
فاطمة عليها السلام".
وعن أبي العباس في قوله تعالى: «يُوفون بالنذر وَيخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً وَيُطعمون الطعامَ على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً»(1) قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما (ص)، وعادهما عامة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت نذراً. فقال علي (ع): إن برئا ممّا بهما صمتُ لله عزّ وجلّ ثلاثة أيام شكراً، وقالت فاطمة كذلك، وقالت جاريتهما فضة النوبيّة: إن برأ سيّداي صمت لله عزّ وجلّ شكراً، فلبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمّد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون الخيبري فاستقرض منه ثلاثة أصع من شعير، فجاء بهما فوضعها، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلّى علي مع رسول الله (ص)، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بَين يديه، إذ أتاهم مسكين فوقف على الباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من أولاد المسلمين أطعموني أطعمكم الله عزّ وجلّ على موائد الجنّة، فسمعه علي فأمرهم باعطائه الطعام، ومكثوا يومَهم وليلتهم لم يذوقوا إلاّ الماء.
فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى الصاع الثاني وخبزته، وصلّى علي مع النبيّ (ص)، ووضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم يتيم فوقف بالباب وقال: السّلام عليكم أهل بيت محمّد، يتيم بالباب من أولاد المهاجرين، استشهد والدي أطعموني، فأعطوه الطعام فمكثوا يومين ولم يذوقوا إلاّ الماء.
فلمّا كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلّى علي مع النبيّ (ص)، ووضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم أسير فوقف بالباب وقال: السّلام عليكم أهل بيت النبوّة، تأسروننا وتشدّوننا ولا تطعموننا، أطعموني فإنّي أسير، فأعطوه الطعام، ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا إلاّ الماء.
فأتاهم رسول الله (ص) فرأى ما بهم من الجوع، فأنزل الله تعالى: «هل أَتَى على الإنسانِ حينٌ من الدهرِ لم يكن شيئاً مذكوراً -إلى قوله- لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً»(2).
وقال أبوالقاسم القسري: انقطعتُ في البادية عن القافلة، فوجدتُ امرأة فقلتُ مَن أنت؟
فقالت: «وقُلْ سَلامٌ فَسَوفَ يَعْلَمُون» (3)، فسلمتُ عليها وقلت: ما تصنعين ها هنا؟
قالت: «ومَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلَّ»(4).
فقلت: أمن الجنّ أنتِ أم من الإنس؟
قالت: «يا بَني آدم خُذُوا زِينَتَكم»(5).
فقلت: من أين أقبلتِ؟
قالت: «يُنادَوْن من مَكانٍ بَعيدٍ»(6).
فقلت: أين تقصدين؟
قالت: «وللهِ على الناس حجّ البيتِ»(7).
فقلت: متى انقطعتِ؟
قالت: «وَلَقَدْ خَلَقْنا السمواتِ والأرضَ وما بينهما في ستّة أيّام»(8).
فقلت: أتشتهين طعاماً؟
فقالت: «وما جَعَلْناهُم جَسَداً لا يَأكُلُونَ الطَّعام»(9).
فأطعمتها، ثم قلت: هرولي وتعجّلي.
فقالت: «لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وُسْعَها»(10).
فقلت: أردفِكِ؟
فقالت: «لَو كَانَ فيهما آلِهَةً إلاّ اللهُ لَفَسَدَتا»(11).
فنزلت فأركبتها فقالت: «سُبْحَانَ الَّذيِ سَخَّر لنا هذا»(12).
فلمّا أدركنا القافلة قلت لها: ألكِ أحد فيها؟
قالت: «يا دَاوُدُ إنّا جَعَلناكَ خَليفَةً في الأرض»(13)، «وما مُحمّدٌ إلاّ رَسولٌ»(14)، «يا يحيى خُذِ الكتابَ»(15)، «يا مُوسى إنّه أنا الله»(16).
فصحتُ بهذا الأسماء، فإذا بأربعة شباب متوجّهين نحوها، فقلت: مَن هؤلاء منك؟
قالت: «المالُ والبنُون زينةُ الحياة الدُّنيا»(17).
فلمّا أتوها قالت: «يَا أَبتِ استأجِره إنّ خَير مَن استأجرتَ القويّ الأمين»(18).
فكافؤوني بأشياء، فقالت: «والله يُضاعفُ لمن يَشاء»(19)، فزادوا لي.
فسألتهم عنها، فقالوا: هذه أمنا فضّة جارية الزهراء (ع)، ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلاّ بالقرآن (20).



الهوامش:
1- الإنسان: 7 ـ 8.
2- الإنسان 1 ـ 9.
3- الزخرف: 89.
4- الزمر: 37.
5- الأعراف:31.
6- فصلت: 44.
7- آل عمران: 97.
8- ق: 38.
9- الأنبياء: 8.
10- البقرة: 286.
11- الأنبياء: 22.
12- الزخرف: 13.
13- ص: 26.
14- آل عمران: 144.
15- مريم: 12.
16- النمل: 9.
17- الكهف: 46.
18- القصص: 26.
19- البقرة: 261.
20- انظر: الدر المنثور في طبقات ربّات الخدور: 439، تراجم أعلام النساء 2: 363، فاطمة أم أبيها: 94، الإصابة 4: 376.



المصدر: الحسون، محمد؛ أم علي مشكور: أعلام النساء المؤمنات. ط1، 1411هـ.ق، ص 594-597.

التعليقات (0)

اترك تعليق