مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

فضل وعظمة ليلة ويوم المبعث النبوي الشريف

فضل وعظمة ليلة ويوم المبعث النبوي الشريف

إعلم أن الرحمة التي نشرت على العباد وبشرت بسعادة الدنيا والمعاد بالإذن لسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وعلى ذريته الطاهرين، في أن يظهر رسالته عن رب العالمين إلى الخلائق أجمعين، كانت السعادة بإشراق شموسها وتعظيمها وتقديمها على قدر ما أحيى الله جل جلاله بنبوته من موات الألباب وأظهر بقدس رسالته من الآداب وفتح بهدايته من الأبواب إلى الصواب. وذلك مقام يعجز عن بيانه منطق اللسان والقلم والكتاب، ولا تحصيه الخواطر ولا تطلع على معانيه البصائر، ولا تعرف له عددا، (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)(1).
وأنت إذا أنصفت علمت أن الأمم كانت تائهة في الضلال وقد أحاط بهم استحقاق الاستيصال، وقد كانت اليهود في قيود ضلالها لمخالفة موسى عليه السلام، والنصارى هالكة بسوء مقالها في عيسى عليه السلام، والعرب ومن تابعها سالكة سبيل الدواب والأنعام وفاقدة لفوائد الأحلام بعبادة الأصنام، وبحر الغضب من الله جل جلاله قد أشرف على أرواح أهل العدوان، وأمواج العطب قد أحاطت بنفوس ذوي الطغيان، ونيران العذاب قد تعلقت بالرقات وسعت إلى الفتك بالأجساد، ورسل الانتقام قد أشمتت بأهل الإلحاد والعناد وقلوب الأعداء والحساد وأهل الضلال وذووا عيون غير ناظرة وعقول غير حاضرة وقلوب غير باصرة وجوارح غير ناضرة، وقد خذل بعض بعضا بلسان الحال من شدة تلك الأهوال.
فبُعث محمدا صلى الله عليه وآله من مجلس الغضب والمقت والعذاب وانكاله إلى الأمم المتعرضة بتعجيل العقاب واستيصاله، وهو واحد في العيان منفرد عن الإخوان والأعوان، يريد مقاتلة جميع من في الوجود من أهل الجحود، برأي قد احتوى على مسالك الآراء واستوى على ممالك الأقوياء، وجنان قد خضع له إمكان الأبطال، وبيان قد خشع له لسان أهل المقال والفعال، ونور قد رجعت جيوش الظلمات به مكسورة ورؤوس الجهالات بلهبه مقهورة، وقدم قد مشى على الرؤوس والنفوس وهم(2) قد حكمت بإزالة الضرر والنحوس. فسرى نسيم أرج(3) ذلك التمكين والتلقين، وروج حياة ذلك السبق للأولين والآخرين، في اليوم السابع والعشرين من رجب بالعجب وشرف المنقلب، فاستنشقه(4) عقول كانت هامدة أو بائدة، واستيقظت به قلوب كانت راقدة، وجرى شراب العافية بكأس آرائه العالية في أماكن أسقام الأنام فطردها وأحاط بجيوش النحوس فشردها، وتهدد نفوس العقول المتهجمة على العقول فأبعدها، حتى ألفها بعد الافتراق في الآفاق وعطفها على الوفاق والاتفاق وأجلسها على بساط الوداد والاتحاد وحماها عن مهاوي الهلكة والفساد.
فما ظنك بمن هذا بعض أوصافه، ومن ذا يقدر على شرح ما شرفه الله جل جلاله به من الطافه، وبأي بيان أو لسان أو جنان يقدر على وصف مواهبه وإسعافه، ولقد دعونا العقل إلى الكشف فذهل، فدعونا القلب إلى الوصف فوجل، فدعونا اللسان إلى البيان فاستقال، فدعونا القلم إلى الإمكان فذل وتزلزل وزال، فدعونا الجوارح جارحة بعد جارحة فشردت عنا هاربة ونازحة. فاستسلمنا لما يدل عليه لسان الحال من كمال ذلك الإقبال واستعنا بصاحب القوة المعظمة لذاته أن يعرفنا قدر ذلك اليوم السعيد وجسيم هباته وصلاته، وأن يعلمنا كيفية الشكر على ما عجزنا عن وصفه، ويلهمنا كشف ما أقررنا بالقصور عن كشفه، ويقبل بنا على ما ريد من القبول وتعظيم المرسل والرسول.
عن الصادق عليه السلام قال: ومن صام يوم سبعة وعشرين من رجب كتب الله له أجر صيام سبعين سنة (5).
وروى ذلك أيضا جعفر بن محمد الدوريستي بإسناده في كتاب الحسنى إلى علي بن النعمان، عن عبد الله بن طلحة، عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: صيام يوم سبعة وعشرين من رجب يعدل عند الله صيام سبعين سنة.
ومما رويناه في تعظيم صوم هذا اليوم بإسنادنا إلى شيخنا المفيد رحمه الله فيما ذكره في التواريخ الشرعية من نسخة قد كتبت في حياته عند ذكر رجب فقال ما هذا لفظه: وفي اليوم السابع والعشرين منه كان مبعث النبي صلى الله عليه وآله، ومن صامه كتب الله له صيام ستين سنة.
أقول: وينبه على تعظيم هذا اليوم ما رويناه في ليله أنها خير للناس مما طلعت عليه الشمس، فإذا كانت الليلة التي جاورته بلغت إلى هذا التعظيم فكيف يكون اليوم الذي هو سبب في تعظيمها عند أهل الصراط المستقيم.
وروينا بإسنادنا إلى أبي جعفر الطوسي رضي الله عنه فيما رواه عن الحسن بن راشد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: غير هذه الأعياد شيء؟ قال: نعم أشرفها وأكملها، اليوم الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: قلت: فأي يوم هو؟ قال: إن الإيلام تدور وهو يوم السبت لسبع وعشرين من رجب، قال: قلت: فما نفعل فيه؟ قال: تصوم وتكثر الصلاة على محمد وآله عليهم السلام(6).
وذكر الشيخ أبو جعفر محمد بن بابويه في كتاب ثواب الأعمال وفي أماليه عن النبي صلى الله عليه وآله فقال: ومن صام من رجب سبعة وعشرين يوما أوسع الله عليه القبر مسيرة أربعمائة عام، وملأ جميع ذلك مسكا وعنبرا(7).

وروى أن صوم يوم مبعث النبي صلى الله عليه وآله بعدل ثوابه ستين شهرا اعلم أن تعظيم يوم مبعث النبي صلى الله عليه وآله أعظم من أن يحيط به الإنسان بمقالة ثواب الصائمين لهذا اليوم العظيم، فأما من ذكر أن صومه بستين شهرا فيحتمل أن يكون معناه أن صومه يعدل ثواب ما يعمل الإنسان في الستين شهرا من جميع طاعاته، وذلك عظيم لا يعلم تفصيله إلا الله العالم لذاته ولم يقل في الحديث انه يعدل صوم ستين شهرا.
ويحتمل أيضا إذا حملناه أن يعدل ثواب صوم ستين شهرا، أن يكون مقدار ثوبا الصائمين لهذا اليوم العظيم قدرا على ما يبلغه كل صائم له من الطريق التي يعرف بها فضله، فإن المطيعين لرب العالمين ولسيد المرسلين يتضاعف أعمالهم بحسب تفاضلهم في اليقين وإخلاص المتقين والمراقبين، فيكون الثواب الضعيف في التعريف ستين شهرا لقصوره عن معرفة قدر هذا الثواب الشريف.
وينبه على ذلك ما ذكره جعفر بن محمد الدوريستي في كتاب الحسنى بإسناده قال: قال الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: لا تدع صوم سبعة وعشرين من رجب فإنه اليوم الذي أنزلت فيه النبوة على محمد صلى الله عليه وآله وثوابه مثل ستين شهرا.
أقول: وفي قوله عليه السلام: مثل ستين شهرا لكم، إشارة واحتمال لما ذكرناه من تأويل هذا المقال.
وذكر أبو جعفر محمد بن بابويه في كتاب المرشد، وهو كتاب حسن، ما هذا لفظه: وفي سبعة وعشرين نزلت النبوة على النبي صلى الله عليه وآله وثوابه كفارة ستين شهرا، هذا لفظه: نزلت النبوة.



الهوامش:
1- الكهف: 109.
2- همم (خ ل).
3- أرج تأرج: فاحت منه رائحة طيبة، فهو ارج.
4- واستنشقه (خ ل).
5- أمالي الصدوق: 349، عنه البحار 97: 34.
6- مصباح المتهجد 2: 820، الكافي 4: 148، الفقيه 2: 90.
7- ثواب الأعمال: 81، أمالي الصدوق: 432، عنهما البحار 97: 30.


المصدر: إقبال الأعمال: السيد ابن طاووس، ج3، الطبعة الأولى، محرم الحرام 1416، مكتب الإعلام الإسلامي.

التعليقات (0)

اترك تعليق