مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أذكر رائحة الفرح .. بالنصر

أذكر رائحة الفرح .. بالنصر

كنت شابة صغيرة، وتلميذة مجتهدة. كنت في المدرسة حين بدأت عملية التحرير في الجنوب اللبناني. لم أكن أتابع الأخبار السياسية عن كثب، ولا ينتمي أهلي إلى أي حزب سياسي، غير أنني طلبت، حينذاك، من مديرة المدرسة أن نشير، ولو بالتفاتة بسيطة، إلى ذلك الحدث. فرفعت المديرة، حينئذ، العلم اللبناني في بهو المدرسة. حين عدتُ إلى البيت، لم أركض لتناول وجبة الغداء، بل تابعت مع أمي شاشة التلفاز: الأسرى يحطّمون أبواب زنازينهم في معتقل الخيام. كانوا يدمعون، ويهللون، ويصرخون من هول اللحظة.
في اليوم الثاني، قررت العائلة أن تذهب إلى الجنوب. رافقتهم في المشوار، أخذت معي دفتر الرياضيات لأحضّر للامتحان. أذكر الطرق جيداً، كانت تفوح برائحة الفرح، أذكر رائحة الفرح جيداً. كنت أرتدي، حينذاك، قميصاً أزرقَ وكنت أبتسم في الصور إلى جنب أخي وأختي الصغيرين. كانت الصور بريئة، تجمع عائلة عادية أمام قلعة الشقيف، أو في شوارع بلدة أرنون، حيث كانت أمي تتناقل أطراف الحديث مع العائلات الأخرى التي تصادفها في البلدة.
لم تكن بلدتي محتلة، وكنا نقصد الجنوب أسبوعياً لقضاء العطلة. لم ندرك عذابات الحواجز أو خطر الأسر والاعتقال. لم نحرم من زيارة البيت أو رؤية الأقارب. كانت لنا يومياتنا في بلدتنا الجنوبية. كنا نعرف الطرق جيداً غير أن مشوار التحرير، آنذاك، كان مختلفاً. إذ لم يكن المشوار عادياً، ولم يكن درس الرياضيات في السيارة عادياً، ولم تكن الصور التي التقطناها ونحن نبتسم عادية. كان مشواراً تاريخياً: في يوم ما، قصدت فتاة مجتهدة، وهي تحمل دفتر الرياضيات، منطقة محرّرة من الاحتلال الإسرائيلي، من عذاب الاضطهاد والأسر والظلم، من عذاب القمع والخيانة لتكتشف الفرح في الطرق، وعلى وجوه المحرّرين وخلف قضبان الزنازين.
لم يُخبرني أهلي الكثير عن أمور السياسة وأهلها. لم يرفعوا شعارات حزبية في البيت بل تركوا لنا أن نكتشف وحدنا لحظة التحرير. كانت لحظة غريبة. نحن الأبناء الذين تعوّدنا أن نقصد الجنوب أسبوعياً، وأن نتوقف أمام بعض المحال لشراء البوظة أو العصير، وأن نلهو مع أقاربنا في بهو الدار، اكتشفنا فجأة أن الطرق التي نسير بها، ونلهو بها، ونتوقف فيها أصبحت غير عادية. طرق تفوح منها رائحة النصر، رائحة من يحارب الظلم لينتصر عليه، مَن يصبر ويتعذّب وينتظر ويبكي ويتألم ليحقق النصر. أذكر تلك الرائحة، أشمّها الآن وأنا أكتب. للنصر رائحة الفرح الطازج، رائحة الابتسامات الطرية على وجوه كبار السن الذين ينتظرون عودة الأبناء من المدن، يضمّونهم بين أذرعتهم، يقبلونهم، ويبتهلون لهم بإيمان صادق، رائحة عنفوان الشباب الذين يحطّمون الحواجز، والقيود، والأصفاد، رائحة حقول الزهر في الربيع، أو نسائم الريح.
[...]


المصدر: جريدة السفير.

التعليقات (0)

اترك تعليق