مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

بالأمس أنقذتُ حياتها واليوم هي رفيقة الدرب

بالأمس أنقذتُ حياتها واليوم هي رفيقة الدرب

 بينما كان ثلاثتنا منهمكين في تجهيز الذخيرة والعتاد؛ لأننا أيقنّا أن آلة البطش الصهيونية ستزداد وتيرتها خلال الساعات المقبلة بعد أسر زملائنا الجندي الإسرائيلي شاؤول أرون، تفاجأنا بضربات شديدة من الطائرات الحربية تجاه المواطنين الآمنين في المناطق الحدودية، فكان البطش حينها عشوائيًّا، والارتباك والتخبط الصهيوني طال كل شيء، في يوم رمضاني مُنهك.
على امتداد البصر، رأيت رجالًا ونساءً، شيبًا وأطفالًا، يركضون بلا وعي، ودون أن يحددوا وُجهتهم، كانوا يفرّون من الموت الذي يحمل بجنباته تفاصيل مرعبة، فالقذائف تُطلق في كل مكان، والصواريخ تنفجر في كل جانب.
اشتدت الضربات وزاد عدد ضحايا الحرب، فكانت الأشلاء تتناثر في الطرقات وعلى الجدران وفوق الركام، وفق الأخبار التي كانت تبثها الإذاعات المحلية، ومساحات الألم تزداد في نفسي على ما حل بأبناء شعبي، ليزداد معه حماسي للدفاع عنه والثأر له.

لحاجة عسكرية، اقتربت وزميلاي من بيوت المواطنين الخاوية منهم، وأثناء قيامنا بتجهيز العتاد سمعنا صوت أنين، فأخذنا التدابير اللازمة وتتبعناه خشية أن تكون خدعة ما، وإذ بها شابة لا تتجاوز 22 عامًا مضرجة بدمائها تستغيث لإنقاذ حياتها، إلا أن صوتها لم يكن مسموعًا.

فكرتُ مليًّا قبل أن أسارع إلى نقلها إلى جانب أحد المنازل خشية أن يحدث لها مكروه آخر، فلم يكن أمامنا سوى ذلك، نقلناها إلى مكان أكثر أمانًا وأجرينا اتصالاتنا غير المباشرة مع الطواقم الطبية التي حضرت إلى المكان ونقلتها إلى المشفى.

لم أكن أعرف شيئًا عما حلّ بتلك الفتاة إن كانت لا تزال على قيد الحياة أم فارقتها، انقضت الحرب ووضعت أوزارها، ولكن صوت أنينها لم يفارق مسامعي.. ظننت الأمر عاديًّا، إلى أن صارحتني أمي بنيتها تزويجي كي تفرح بي، وترى أحفادها، بداية الأمر رفضت الفكرة، وأخبرتها بأنني لا أفكر بالزواج لتفرغي للعمل في صفوف المقاومة، ولكني استجبت لطلبها وإلحاحها الشديد.

بدأت أمي في جولتها لاختيار العروس المناسبة لابنها، فكانت تطرق بيوتًا كثيرة إلا أنها تخرج منها دون أن تنوي العودة إليها، واستمرت على هذا الحال لقرابة الستة أشهر.

إحدى الفتيات لاقت استحسان ورضا والدتي الخمسينية، رغم أنها خالفت المواصفات العامة التي تحدثت بها إليها، فطلبت مني تجهيز نفسي للذهاب لبيت أهلها لرؤيتها، وكان لي ذلك.. بمجرد أن دخلت الفتاة الغرفة أفسحت لنفسها مكانًا في قلبي، فأبديت موافقتي عليها على الفور، ولم أكمل ما اتفقت عليه مع والدتي التي طلبت مني التريث بالرد على أهل العروس حتى العودة إلى منزلنا، بعدما أخبرت والدها بطبيعة عملي.

شاء الله أن تكون هي شريكة حياتي دون أن أعرف ما يخبّئه القدر لي، وبعدما عشنا تحت سقف واحد وأصبح كلانا امتدادًا للآخر، أفصحتُ لها عن ذكرياتي في الحرب الأخيرة على غزة، وأثناء ذلك أخبرتها بما حدث لتلك الفتاة، لتخرج من جوفها شهقة قوية ألجمت لساني عن إكمال الحديث.

قبل أن أستفسر عن سبب شهقتها، واندهاشها، سألتني زوجتي بعض الأسئلة الدقيقة الخاصة بالمكان، لأكتشف بأن تلك الفتاة أصبحت رفيقة الدرب وشريكة العمر؛ منذ ذلك اليوم كلما تذكر كلانا القصة التي أخفيناها عمّن هم حولنا، نجد أنفسنا غارقين في الضحك لهذا القدر العجيب.


المصدر: فلسطين برس.

التعليقات (0)

اترك تعليق