الخارجات من الضوء.. نضال المرأة الفلسطينية
سجلت الفتيات الفلسطينيات حضوراً لافتاً ومؤثراً في الهبّة الشعبية التي فجّرتها الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى، والتعدي على النساء المرابطات فيه، وإقدام المستوطنين على إحراق عائلة علي الدوابشة.
جيل جديد من الشابات المتعلمات يشاركن في التظاهرات ويحملن الحجارة في القدس ومدن فلسطينية أخرى. لم يكن حضور الثائرات في ميادين الوجع والأمل عاملاً طارئاً على نضال المرأة الفلسطينية؛ نضال تاريخي تكلله مسيرة طويلة بدأت مع الانتداب البريطاني (1920-1948) ومحاربة الحركات النسائية المسلحة للعصابات الصهيونية وانخراط النساء في العمل الفدائي في فلسطين ودول الشتات.
اتخذ نشاط النساء الفلسطينيات ونضالهن أشكالاً مختلفة. يمكن التأريخ لهذا النضال مع بداية العمل الخيري إثر تأسيس «الجمعية الأرثوذكسية لمساعدة الفقراء» في مدينة عكا العام 1903 وجمعية «عضد اليتيمات الأرثوذكسيات» في يافا العام 1910. شكلت «ثورة البراق» منعطفاً في الانتقال من النشاط النسائي الخيري إلى المشاركة السياسية، حيث سُجل انعقاد مؤتمر نسائي العام 1929 في القدس حضرته 300 امرأة وانبثقت منه توصيات عدة على رأسها مقاطعة المنتجات البريطانية، وإنشاء مركز إعلامي في القاهرة لشرح أبعاد التطورات السياسية في فلسطين والقدس. وفي العام 1932، شهد الريف الفلسطيني ثورة ضد سياسة الإنكليز التي تهيئ الأجواء لاستيطان واسع في فلسطين، وانخرطت المرأة الفلسطينية في المواجهة، وكانت فاطمة غزال التي استشهدت في معركة عزون علماً من أعلام ثورة الريف (راجع: نجاة أبو بكر، المرأة الفلسطينية تاريخ حافل من النضال).
إن أول جمعية نسائية تبنّت الكفاح المسلح في فلسطين، هي جمعية «زهرة الأقحوان» التي تأسست العام 1947 على يد الأختان مهيبة وعربية خورشيد. وقد نشطت الجمعية في مجال جمع التبرعات لشراء السلاح، وشاركت في الدفاع عن يافا من مستوطني تل أبيب خلال النكبة.
شكلت الهزيمة المدوية العام 1967 حافزاً للمرأة الفلسطينية، ولم تقف الفلسطينيات مكتوفات الأيدي أثناء العدوان على الأراضي الفلسطينية والعربية. وفي إحدى الشهادات الحية التي رصدتها الباحثة والناشــطة الفلسطينية فيحاء عبد الهادي في مقالتها «روايــات النساء حول هزيمة 1967: درس الاستعداد»، تؤكِّــد شهادة «عائشــة جابر نعيم»، من مخيم جبــاليا، الدور الذي لعبــته النساء أوائل أيام العدوان، حيث احتضنت قوات الجيش المصري وحاولت حمايته، عبر استبدال الملابس العسكرية بملابس مدنية، وساهمت في تخزين الأسلحة. «وتقول عائشة في لهجــتها الفلســطينية: «يمكن يوم الخامــس من حزيــران، لما اضطروا أهل القرية كلــياتها يحملوا حالهم ويتركوا بيوتهم، وهربــوا على منطــقة آمنة قريبة من البحر، على قرية اســمها بيــت لاهــيا، كلــياتهم هربوا، قعدنا في البيــارات، هناك تفاجأت، المنظر كان بوجّع القلب، الجيش المصري هربان وحامل أسلحته، فما كان منا إلا إنّا نحتضنهم، ونلبسهم ملابس مدنية، نخبّي الأسلحة ونخــزِّنها، طبعاً مو أنا وبس، أنا وعدد كبير من الشباب الفلسطينية».
انخرطت المرأة الفلسطينية بعد العام 1967 بشكل فعلي في العمل المسلح وانضوت في المجموعات الفدائية وساعدت على نقل الأسلحة وتخزينها، ونفذت العديد من العمليات النوعية ضد مواقع الاحتلال الإسرائيلي. برزت أسماء الفلسطينيات اللاتي خضن الكفاح المسلح والفدائي العام 1969، وهو العام الذي شهد تنفيذ المناضلة/ الأيقونة ليلى خالد خطف طائرة (TWA 840) الأميركية التي أعدّها وخطط لها القيادي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وديع حداد (راجع: سارة إرفينغ، ليلى خالد: أيقونة التحرر الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر). سطــعت أسماء كثيرة في تاريخ النضال النسائي الفلسطيني نذكر منهن -على سبيل المثال لا الحصر-: دلال المغــربي، وفاطمة برناوي ولينا النابلسي وفتحــية عــوض الحـوراني.
وبرغم أن الفصائل اليسارية الفلسطينية أتاحت فرصاً أكبر للناشطات في العمليات الفدائية والمسلحة، سجلت حركة حماس أول عملية استشهادية نفذتها ريم الرياشي العام 2004، وذلك بعدما اتخذت قيادة «كتائب القسام» قراراً بإشراك النساء في العمليات العسكرية. وقد شكلت هذه المحطة نقلة نوعية داخل الحركة لجهة إشراك العنصر النسائي في الميدان العسكري.
ومع قيام الانتفاضة الأولى (1987ـ 1993)، نشطت المرأة الفلسطينية بفاعلية ولم يقتصر دورها على الإطار الاجتماعي، إذ دعمت المحاربين في الجبال ودخلت على خط المواجهات اليومية مع الاحتلال الإسرائيلي، سواء في التظاهرات أو في عمليات رشق الحجارة ورمي المولوتوف. ولم تمنع الغازات السّامة وعمليات الاعتقال والرصاص الحي حتى النساء الحوامل من الدفاع عن فلسطين. هذه المشاركة القوية دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى التصريح آنذاك بأن «الحرب هي الحرب، وأن للنساء دوراً فاعلاً في الانتفاضة لذلك يجب اعتقالهن وتعذيبهن إذا لزم الأمر لانتزاع الاعتراف منهن» (راجع: شذى الشيخ، المرأة الفلسطينية والانتفاضات، موقع أخبارك الإلكتروني).
تشكل مشاركة الفتيات في الهبّة الشعبية الدائرة حالياً في فلسطين امتداداً لمسيرة النضال النسائي الفلسطيني. ولعل المؤشر الجديد البارز اليوم ظهور الفتيات الملثمات، وهن في الغالب طالبات في المدارس والجامعات. وقد ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» ـ كما ورد على موقع شبكة فلسطين الإخبارية - «أن أدوار المرأة الفلسطينية خلال أسابيع الاشتباكات الأخيرة اختلف كثيراً عن أدوارهن في الانتفاضتين الأولى والثانية، التي لعب فيها الرجال دوراً أساسياً في التظاهرات والمواجهات العنيفة. وقالت الصحيفة إن بعضهن كنّ ملثمات، وبعضهن يرتدين ملابس عصرية، وأخريات ترتدين لباساً طويلاً ومغلقاً ووشاحاً أخضر، بحيث لا يدع مجالاً للشك لأي فصــيل ينتمــين. وهؤلاء هن الطالبات الفلسطينيات الجدد، نســاء قويات الإرادة، وغير مستعدات لترك منصة الانتــفاضة الشــعبية للرجال فقط. إنهن يخرجن لنقاط التمــاس ويواجهن الجيش، يلقين الحجارة ضد قوات الجيش ورجال الأمن الذين يقفون أمامهن في التظاهرات».
يتمتع الجيل الجديد من الفتيات الفلسطينيات الثائرات المستقلات بحس وطني عالٍ بدا واضحاً في قوتهن وصــمودهن في خضم هبّة الحجارة والسكاكين. فتــيات تلثّمن بالكــوفية الفلســطينية ورشقن جنود الاحتلال بالحجــارة. هنّ في الغالب شابات لا يرتبطن بأي روابط سياسية. قضيتهن الأولى «فلسطين» المشطوبة من ذاكرة العرب.
المصدر: جريدة السفير.
اترك تعليق