الدور التبليغي والبطولي لنساء أهل البيت (ع) وتجليه في خطبهم ومواقفهم
كانت مواقف بنات أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل الحسين عليه السلام، يصدعن بالحقّ والعدالة جهاراً في غير جمجمة ولا إدهان، لا يثنيهنّ عن قول الحقّ رهبة يزيد وأذنابه المارقين، ولا تصدّهم عن البيان مخافة السيوف والسجون والرماح والنبال، فقد اندفعوا وراء الحق والقرآن، يجاهدون دونهما بسماحة نفس وطيب خاطر ومن هؤلاء:
أم كلثوم الكبرى:
لا شكّ ولا ريب أنّ الدور التبليغي الذي قُمْنَ به بنات الرسالة بعد مصرع الحسين عليه السلام، كان له أكبر الأثر في توعية الناس وتعريفهم بحقيقة الاُمور، وبأنّهم آل الرسول (ص)، لا خوارج كما يدّعي يزيد، ومن اللواتي قُمْنَ بهذا الدور البطولي هي اُم كلثوم بنت علي بن أبي طالب.
قال السيّد ابن طاووس: خطبت اُم كلثوم من وراء كلّتها رافعة صوتها بالبكاء، فقالت:
يا أهل الكوفة سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتبّاً لكم وسحقاً.
ويلكم، أتدرون أي دواهٍ دَهتكم، وأي وزرٍ على ظهوركم حملتم، وأي دماءٍ سفكتموها، وأي كريمةٍ أصبتموها، وأي صِبيةٍ سلبتموها، وأي أموالٍ انتهبتموها؟ قتلتم خير رجالات بعد النبيّ (ص)، ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا أنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.
سَفكتم دمـاءً حرَّم الله سَفكهـا * وحَـرّمهـا القـرآن ثـم محمّدُ
ألا فـابشروا بـالنارِ أنّكـم غَداً * لـَفي سَقرٍ حَقّـاً يَقينـاً تخلدوا
وإنّي لأَبْكي في حَياتي على أخي * علـى خير مَنْ بَعد النبيّ سيولدُ
بِـدمعٍ غَـزيرٍ مُستهلٍ مُكفكف * علـى الخدّ مني دائماً ليسَ يجمدُ
قال الراوي: فضجّ الناس بالبكاء والنوح، ونشرت النساء شعورهنّ، ووضعْنَ التراب على رؤسهنّ، وخَمشْنَ وجوههنّ، وضربْنَ خدودهنّ، وعدوْنَ بالويل والثبور، وبكى الرجال ونتفوا لحاهم، فلم يُرَ باك ولا باكية أكثر من ذلك اليوم(1).
فاطمة الكبرى بنت الإمام الحسين (ع):
كان لفاطمة دورها، حيث وقفت فاطمة بقلب كلّه عزم وإيمان وثبات ويقين، وضمير صالح صادق، تخطب بأهل الكوفة، وتكشف فضائح الأمويين.
فبعد أن مكثت العائلة في الكوفـة عدّة أيام جاء الأمر من يزيد إلى ابن زياد أن يسرّح عائلة الحسين عليه السلام إلى الشام، وفعلاً فقد دخلت العائلة إلى الشام، وإذا بأهل الشام يُعيّد بعضهم الآخر بالإنتصار!!! ورأى الإمام زين العابدين عليه السلام أنّ الجو مناسب لأن يتحدّث، وفعلاً صعد المنبر وألقى خطبته المعروفة التي قاطعها يزيد عدّة مرّات.
ثم تكلّمت العقيلة زينب سلام الله عليها، ففضحت بني اُميّة وعرّفت الناس حقيقتهم المزيّفة.
وفي هذا المجلس جرت لفاطمة سلام الله عليها قصة يرويها لنا الشيخ المفيد، قال:
قالت فاطمة بنت الحسين عليه السلام: ولما جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا، فقام إليه رجل من أهل الشام فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. وكنتُ جارية وضيئة، فأرعدتُ وظننتُ أنّ ذلك جائز لهم، فأخذتُ بثياب عمّتي زينب، وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون، فقالت عمتي للشامي: كذبتَ والله ولؤمت، والله ما ذاك لكَ ولا له.
فغضب يزيد فقال: كذبتِ والله، إنّ ذلك لي، ولو شئتُ أن أفعل لفعلت.
قالت زينب: كلا والله ما جعل الله ذلك لكَ، إلاّ أن تخرج عن ملّتنا وتدين بغيرها.
فاستطار يزيد غضباً وقال: إياي تستقبلين بهذا، إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.
قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنتَ وجدَكَ وأبوكَ إن كنتَ مسلماً.
قال يزيد: كذبتِ يا عدوة الله.
قالت زينب: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك.
فكأنّه استحى وسكت ، فعاد الشامي فقال: هب لي هذه الجارية، فقال له يزيد: أعزب وهب الله لك حتفاً قاضياً(2).
استيداعها الوصية:
وممّا يدل على مكانة فاطمة عند الإمام الحسين عليه السلام، ورجاحة عقلها، ومعرفتها التّامة بنصوص الإمامة، هو إيداع الحسين عليه السلام وصيّته عندها يوم عاشوراء.
روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين وأحمد ابن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام قال: " إن الحسين بن علي عليهما السلام لمّا حضره الذي حضر، دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين عليه السلام فدفع إليها كتاباً ووصيّة ظاهرة، وكان علي بن الحسين عليه السلام مبطوناً معهم لا يرون إلاّ أنّه لمّا به، فدفعت فاطمة الكبرى الكتاب إلى علي بن الحسين عليه السلام، ثم صار والله ذلك الكتاب إلينا يا زياد".
قال: قلتُ: ما في الكتاب جعلني الله فداك؟
قال:" فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم ، منذ خلقَ الله آدم إلى أن تفنى الدنيا، والله فيه الحدود، حتى فيه أرش الخدش"(3).
وروى أيضاً في الكافي عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن ابن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: " لمّا حضر الحسين عليه السلام ما حضره دفع وصيته إلى ابنته فاطمة ظاهرة في كتاب مدرج ، فلمّا أن كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان دفعت ذلك إلى علي ابن الحسين عليه السلام".
قلت: له: فما فيه يرحمك الله؟
فقال :"ما يحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدنيا إلى أن تفنى"(4).
خطبتها بالكوفة:
افتتحت السيدة فاطمة الكبرى خطبتها بحمد الله، ثم الإقرار بالشهادتين، ثم تعرّضت إلى بعض المسائل العرفانية، ثم تطرّقت إلى استشهاد أبيها الحسين عليه السلام وأخوتها باُسلوب حكيم وبعبارة رزينة، صوّرت فيها ألوان القتل المرير، وترجمت بها أشجان القلوب الكسيرة، وترفّعت في الوقت نفسه عن ذكر قَتَلَتِهِ عليه السلام، فلم تذكّرهم ولم تتطرّق إلى أسمائهم؛ لأنّهم ليسوا من الّذين يستحقون الذكر والبيان، ولم تشتمهم ولم تسبّهم ولم تلعنهم؛ لأنّها علمت أنّ ليست لصاحبة الرسالة أن تشتم، إنّما وظيفتها وواجبها أن تنبّه الأذهان وتمتلك القلوب ببيانها واُسلوبها، لينفذ في أعماق القلوب ويأخذ مأخذه الراسخ.
نعم، وقفت فاطمة بنت الحسين عليه السلام بقلب كلّه إيمان وثبات، ونفس كلّها إطمئنان وسكون، وقالت:
الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، وأحمده وأومن به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات من غير ذحل ولا تراث.
اللَّهمَّ إنّي أعوذ بكَ أن أفتري عليك، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود والوصيّة لعلي بن أبي طالب المغلوب حقّه، المقتول من غير ذنب في بيت من بيوت الله تعالى وبها معشر مسلمة بألسنتهم، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته، ولا عند مماته، حتى قبضه الله تعالى إليه محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيكَ لومة لائم، ولا عذل عاذل، هديتَه اللَّهمَّ للإسلام صغيراً، وحمدتَ مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لكَ ولرسولكَ، زاهداً في الدنيا، غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لكَ في سبيلكَ، رضيتهُ فاخترتهُ، وهديتهُ إلى صراط مستقيم.
أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، إنّا أهل بيت إبتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا، وفهمه لدينا، فنحن عَيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّد (ص) على كثير ممّن خلق الله تفضيلاً.
فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، كأنّنا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدّنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمانا أهل البيت، لحقد متقدّم، قرّت لذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم، افتراء على الله، ومكراً مكرتم والله خير الماكرين.
فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة، في كتاب مِن قبل أن نبرأها، إنّ ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كلّ مختال فخور.
تباً لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنْ قد حلّ بكم وتواترت من السماء نفحات فيُسحتكُم بعذاب، ويذيق بعضهم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.
ويلكم ، أتدرون أيّة يد طاعنتنا منكم ؟ ! وأية نفس نزعت إلى قتالنا ؟ ! أم بأي رجل مشيتم إلينا ؟ ! تبغون محاربتنا ؟ قست قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع الله على أفئدتكم، وختم على سمعكم وبصركم ، سوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.
تباً لكم يا أهل الكوفة، أي تراث لرسول الله قِبلكم، وذحول له لديكم، ثمّ غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي، وبنيه عترة النبيّ الأخيار، وافتخر بذلك مفتخركم:
وسبينا نساءهم سبي ترك * ونـطحناهـم فـأي نطاح
بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب، افتخرتَ بقتل قوم زكّاهم وطهّرهم وأذهب عنهم الرجس، فأكضم واقع كما أقعى أبوك، فإنّما لكلّ اُمرىَ ما اكتسب وما قدّمت يداه، حسدّتمونا ويلاً لكم على ما فضّلنا الله تعالى:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ومَن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
عندئذٍ ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب، وقالوا: حسبكِ يا ابنة الطاهرين فقد حرقت قلوبنا، وانضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا، فسكتت عليها وعلى أبيها وجدها السّلام (5).
الهوامش:
1ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 2: 37.
2ـ الإرشاد: 246. وانظر: الكامل في التأريخ 4: 86، تأريخ الطبري 6: 265، سير أعلام النبلاء 3: 204، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 2: 62.
3- ا لكافي 1: 303 ـ 304 حديث 1، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 4: 172.
4ـ الكافي 1: 304 حديث 2.
5- الإحتجاج 2: 27، مقتل الحسين عليه السلام: 376، اللهوف: 149.
اترك تعليق