مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الصحابية آمنة بنت الشريد

الصحابية آمنة بنت الشريد

الصحابية آمنة بنت الشريد

وهي زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي، فصيحة من أهل الكوفة، اشتهرت بولائها لأمير المؤمنين علي عليه السلام والبراءة من أعدائه عليه السلام، وتحملت في هذا السبيل مرارة السجن وقساوة الظالمين، فكانت مثالا للصبر والشجاعة والمضي على نهج الحق والمبادىء السامية، بقلب شديد، ولسان حديد، وجواب عتيد.
قال ابن طيفور: حدثنا العباس بن بكار، قال:
حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الزهري وسهل بن أبي سهل التميمي، عن أبية، قالا: لما قتل علي بن أبي طالب عليه السلام بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، فراغ منه، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد، فحبسها في سجن دمشق سنتين.
ثم إن عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله، وبعث برأسه إلى معاوية، وهو أول رأس حمل في الاسلام، فلما أتى معاوية، وهو أول رأس حمل في الاسلام، فلما أتى معاوية الرسول بالرأس، بعث به إلى آمنة في السجن، بعدما طاف بالرأس في دمشق، وقال للحرسي: احفظ ما تكلم به حتى تؤديه إلى، واطرح الرأس في حجرها، ففعل هذا، فارتاعت (1) له ساعة، ثم وضعت يدها على رأسها، وقالت: واحزنا لصغره في دار هوان، وضيق من ضيمة سلطان، نفيتموه عني طويلا، وأهديتموه إلى قتيلا، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية(2)، وأنا له اليوم غير ناسية، إرجع به أيها الرسول إلى معاوية، فقل له ولا تطوه(3) دونه: أيتم الله
ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك.
فرجع الرسول إلى معاوية، فأخبره بما قالت، فأرسل إليها، فأتته وعنده نفر فيهم إياس بن حسل أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء(4) عن فيه، لعظم كان في لسانه، وثقل إذا تكلم، فقال لها معاوية، أأنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني؟ قالت: نعم غير نازعه(5) عنه، ولا معتذرة منه، ولا منكرة له، فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد، وإن الحق لمن وراء العباد، وما بلغت شيئا من جزائك. وإن الله بالنقمة من ورائك.
فأعرض عنها معاوية، فقال إياس، اقتل هذه يا أمير المؤمنين، فوالله ما كان زوجها أحق بالقتل منها. فالتفتت إليه، فلما رأته ناتئ الشدقين ثقيل اللسان، قالت: تبا لك، ويلك بين لحيتيك كجثمان(6) الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين.
فضحك معاوية، ثم قال: لله درك، أخرجي، ثم لا أسمع بك في شيء من الشام.
قالت: وأبي لأخرجن، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام، فما الشام لي بحبيب، ولا أعرج فيها على حميم(7). وما هي لي بوطن، ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد عظم فيها ديتي، وما فرت فيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة، ولا حيث كنت بحامدة. فأشار إليها ببنانه أخرجي.
فخرجت وهي تقول: واعجبي لمعاوية، يكف عني لسانه، ويشير إلى الخروج ببنانه، أما والله ليعارضنه عمرو(8) بكلام مؤيد سديد، أوجع من نوافذ الحديث، أو ما أنا بابنة الشريد.
فخرجت وتلقاها الأسود الهلالي، وكان رجلا أسود، أصلع، أسلع، أصعل(9)، فسمعها وهي تقول ما تقول، فقال: لمن تغني هذه، الأمير المؤمنين تعني! عليها لعنه الله. فالتفت إليه، فلما رأته قالت: خزيا لك وجدعا(10)، أتلعنني واللعنة بين جنبيك، وما بين قرنيك إلى قدميك، إخسأ يا هامة الصعل، ووجه الجعل(11)، فأذلل بك نصيرا، وأقلل بك ظهيرا. فبهت الأسلع ينظر إليها، ثم سأل عنها فأخبر، فأقبل إليها معتذرا خوفا من لسانها.
فقالت: قد قبلت عذرك، وإن تعد أعد، ثم لا أستقبل ولا أراقب فيك! فبلغ ذلك معاوية، فقال: زعمت يا أسلع أنك لا تواقف من يغلبك، أما علمت أن حرارة المتبول(12) ليست بمخالسة نوافذ الكلام عند مواقف الخصام؟ أفلا تركت كلامها قبل البصبصة منها(13) والاعتذار إليها.
قال: إي والله يا أمير المؤمنين، لم أكن أرى شيئا من النساء يبلغ من معاضيل الكلام(14) ما بلغت هذه المرأة، حالستها(15) فإذا هي تحمل قلبا شديدا، ولسانا حديدا، وجوابا عتيدا(16)، وهالتني رعبا، وأوسعتني سبا.
ثم التفت معاوية إلى عبيد بن أوس، فقال: أبعث لها ما تقطع به عنا لسانها، وتقضي به ما ذكرت من دينها، وتخف به إلى بلادها. قال: اللهم اكفني شر لسانها، فلما أتاها الرسول بما أمر به معاوية، قالت، يا عجبي لمعاوية! يقتل زوجي، ويبعث إلى بالجوائز! فأخذت ذلك، وخرجت تريد الجزيرة، فمرت بحمص، فقتلها الطاعون سنة ٥٠ هـ، فبلغ ذلك الأسلع، فأقبل إلى معاوية كالمبشر له، فقال له: أفرح روعك(17) يا أمير المؤمنين، قد استجيبت دعوتك في ابنة الشريد، وقد كفيت شر لسانها. قال: وكيف ذلك؟ قال: مرت بحمص فقتلها الطاعون.
فقال له معاوية: فنفسك فبشر بما أحببت، فإن موتها لم يكن على أحد أروح(18) منه عليك، ولعمري ما انتصفت منها حين أفرغت عليك شؤبوبا وبيلا(19).
فقال الأسلع: ما أصابني من حرارة لسانها شيء إلا وقد أصابك مثله، أو أشد منه.
هذا آخر ما عثرنا عليه من ترجمة حياة البطلة آمنة بنت الشريد، فسلام عليها يوم ولدت، ويوم جاهدت، ويوم ماتت، ويوم تبعث حية سعيدة مرضية.


الهوامش:
1- أي فزعت.
2- القالي: الكاره، المبغض.
3- طواه: أخفاه.
4- أي انتفاخ.
5- أي غير منتهية.
6- الجثمان: الجسم.
7- الحميم: القريب.
8- أي في يوم الحساب في الآخرة.
9- الأسلع: الأبرص، والأصعل: الدقيق العنق.
10- الجدع: قطع الأنف.
11- الجعل: حشرة حقيرة، والرجل الأسود الدميم.
12- المتبول: المصاب بالعداوة.
13- أي قبل أن يظهر منها ما ظهر، من قولهم: بصبصت الأرض، ظهر منها أول ما يظهر من النبات.
14- معاضيل الكلام: شدائده ومضايقه.
15- حالسه: طاف له وحام به.
16- أي حاضرا مهيا.
17- أي أذهب فزعك.
18- أي أكثر سرورا.
19- الشؤبوب: شدة وقع المطر وغيره، والوبيل: المهلك.


المصدر: الأعلام من الصحابة والتابعين، الحاج حسين الشاكري، الجزء: 12. الطبعة الثانية،  ١٤١٨.

التعليقات (0)

اترك تعليق