الصحابية سودة بنت عمارة
الصحابية سودة بنت عمارة
هي سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية، من سيدات نساء العراق، ومن ربات الفصاحة والبيان. ورثت حب الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام من آبائها الكرام.
ووفدت على معاوية تشتكي جور بسر بن أرطاة الذي سبى الأموال وقتل الرجال واستحل الحرمات بأمر معاوية بن أبي سفيان، فهددت معاوية بقومها وهو في عز سلطانه وأوج جبروته وطغيانه، ومدحت أمير المؤمنين علي عليه السلام ببيتين من الشعر، كانا على معاوية أوقع من طعن الرماح وحز السيوف، بل ومن القصيدة التي قالتها في صفين وهي تحت أهلها وإخوتها على نصرة أمير المؤمنين علي عليه السلام، والتي انتفخت أوداج معاوية لها، فاستنطقها عن
تلك القصيدة، فاعترفت غير مذعنة، ولا راغبة عن الحق، ولا معتذرة بالكذب.
قال ابن طيفور:
قال أبو موسى عيسى بن مهران: حدثني محمد بن عبيد الله الخزاعي يذكره عن الشعبي، ورواه العباس بن بكار، عن محمد بن عبيد الله، قال: استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها، فلما دخلت عليه، قال: هيه يا بنت الأسك
ألست القائلة يوم صفين:
شعر كفعل أبيك يا ابن عمارة * يو الطعان وملتقى الاقران(1)
وانصر عليا والحسين ورهطه * واقصد لهند وابنها بهوان
كلمة استنطاق واستزادة.
إن الامام أخو النبي محمد * علم الهدى ومنارة الايمان
فقه الحتوف(2) وسر أمام لوائه * قدما بأبيض صارم وسنان
قالت: إي والله، ما مثلي من رغب عن الحق، أو اعتذر بالكذب.
قال لها: فما حملك على ذلك؟
قالت: حب علي عليه السلام، وأتباع الحق.
قال: فوالله ما أرى عليك من أثر علي شيئا.
قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، وإعادة ما مضى، وتذكار ما قد نسي.
قال: هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك.
قالت: صدق فوك، لم يكن أخي ذميم الكلام، ولا خفي المكان، كان والله كقول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
قال: صدقت، لقد كان كذلك.
فقالت: مات الرأس، وبتر الذنب، وبالله أسال أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه.
قال: قد فعلت، فما حاجتك؟
قالت: إنك أصبحت للناس سيدا، ولامرهم متقلدا، والله سائلك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقدم علينا من ينوء(3) بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، هذا بسر بن أرطأة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، وأخذ مالي، يقول لي فوهي بما استعصم الله منه، وألجأ إليه فيه(4)، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك.
فقال معاوية: أتهدديني بقومك، لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس(5)، فأردك إليه ينفذ فيك حكمه.
فأطرقت ثم أنشأت يقول:
صلى الاله على جسم تضمنه * قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا * فصار فأصبح والايمان مقرونا
قال لها [معاوية]: ومن ذلك؟
قالت: علي بن أبي طالب عليه السلام.
قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟
قالت: قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا، قدم علينا من قبله، فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فأتيت عليا عليه السلام لأشكو إليه ما صنع، فوجدته قائما يصلي،
فلما نظر إلى انفتل(6) من صلاته، ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ -[يا أمة الله]- فأخبرته الخبر فبكي، ثم قال: "اللهم إنك أنت الشاهد علي وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك "، ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب، فكتب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم * (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) *(7). إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام". فأخذته منه، والله ما ختمه بطين، ولا حزمه بحزام، فقرأته.
فقال لها معاوية: لقد لمظكم(8) ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئا ما تفطمون(9)، ثم قال: اكتبوا لها برد مالها، والعدل عليها.
قالت: ألي خاص، أم لقومي عام.
قال: ما أنت وقومك؟
قالت: هي والله إذن الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلا شاملا، وإلا فأنا كسائر قومي.
قال: اكتبوا لها ولقومها.
فسلام عليها يوم ولدت، ويوم عاشت موالية، ويوم ماتت، ويوم تبعث حية.
_________________________
1- الأقران: الأكفاء.
2- الحتوف: المنايا.
3- أي ينهض.
4- تشير هنا إلى ما تضافرت عليه الاخبار من أن معاوية وعماله كانوا يكلفون الناس سب علي عليه السلام والبراءة منه للحط من شأنه وشأن أولاده وشيعته، ولكن أبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
5- القتب: رحل كالبرذعة بقدر سنام البعير، والمراد أنه يحملها على بعير شرس، أي صعب الخلق والسير.
6- انفتل: انصرف.
7- الآيات من سورة الأعراف: ٨٥، الشعراء: ١٨٣، هود: ٨٦.
8- أي ملاكم غيظا عليه.
9- وفي رواية: هيهات، لمظكم ابن أبي طالب الجرأة، وغركم قوله:
فلو كنت بوابا على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
اترك تعليق