السيدة مريم (ع) والملائكة
«وَإذ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العالَمينَ»(1).
«إِذْ قالتِ المَلائِكَةُ يَا مَريَمُ إنَّ اللهَ يُبَشرُكِ بِكلِمَةٍ مِنهُ اسمُهُ المَسيحُ عيسَى ابنُ مَرْيَمَ وَجيهاً فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَبينَ»(2).
«وَاذْكُرْ فِي الكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهلِهَا مَكَانَاً شَرْقِيّاً* فاتخذت مِنْ دونِهِمْ حِجَابَاً فَأَرْسَلْنَا إليها رُوحَنا فَتَمَثَلَ لها بَشَراً سَوياً* قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً* قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِكِ لِأَهَبَ لَكِ غلاماً زكياً»(3).
تكرر ذكر الملائكة في قضية السيدة مريم عليها السلام كما تكرر ذكرها في القرآن الكريم ومنه قوله تعالى: «الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَواتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ»(4).
الملائكة جمع ملك بفتح اللام. وهم موجودات (كائنات) خلقهم الله، وجعلهم وسائط بينه وبين العالم المشهود. ووكّلهم بأمور العالم التكوينية والتشريعية. عباد مكرّمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وتشير الآية إلى وجود ملك مجهّز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحيه فينتقل بهما من السماء إلى الأرض بأمر الله، ويعرج بهما منها، ومن أي موضع إلى أي موضع. وقد سمّاه القرآن جناحاً، ولا يستوجب ذلك إلا ترتيب الغاية المطلوبة من الجناح عليه(5).
وقد ورد في الملائكة روايات، منها ما روي في "الدر المنثور" عن أبي العلاء بن سعد أن رسول الله (ص) قال يوماً لجلسائه: أطت السماء وحق لها أن تئط(6) ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد، ثم قرأ: «وَإنّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ* وَإنَّا لَنَحْنُ المُسبِّحُونَ»(7).
وخلاصة أفضل ما قيل في حقيقة الملائكة وأوصافها وأصنافها:
أولاً: لم يسكنوا أصلاباً، ولم تضمّهم أرحام. لم يخلقوا بل أنشئوا إنشاء.
ثانياً: لقد كرّمهم بجواره وجنّبهم الآفات، وبه قالوا، ولولاه لم يكونوا.
ثالثاً: لا يخلو موضع قدم من السماء إلا وملك راكع أو ساجد.
رابعاً: ما من أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة.
خامساً: أمناء على ما ائتمنوا لا يعتريهم سهو العقول ولا يغشاهم نوم العيون.
سادساً: طاهرون مطهرون، مطيعون يفعلون ما يؤمرون.
سابعاً: هم أصناف متعدّدون من حملة عرش، إلى اسرافيل صاحب الصور، إلى ميكائيل، إلى جبريل الأمين على الوحي، إلى الروح ملائكة الحجب الذين هم من أمر الله، إلى من دونهم من سكان السماوات، إلى الروحانيين من ملائكتك وأهل الزلفة، إلى خزان الرياح..... الخ.
ومما ذكره السيد الطباطبائي (قده) من صفات الملائكة وأعمالهم:
أولاً: أنهم كائنات مكرمون، هم وسائط بين الله تعالى وعالم الشهود، ليس لهم إلا إجراء الأمر الإلهي في مجراه، وتقريره في مستقره كما قال تعالى: «لَا يَسْبِقونَهُ بِالقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (8).
ثانياً: إنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به، فليست لهم إرادة مستقلة تريد شيئاً غير ما أراده الله سبحانه، فلا يستقلون بعمل، ولا يغيّرون أمراً حملّهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان، قال تعالى: «لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون»(9).
ثالثاً: إن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علواً ودنواً. فمنهم آمر مطاع ومنهم مأمور مطيع، والآمر منهم آمر بأمر الله، فليس لهم من أنفسهم شيء البتة، قال تعالى: «وَمَا مِنَّا إلّا لَهُ مَقَامٌ مَعلُومٌ»(10)، »مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين»(11)، وقال: «قَالُوا مَاذا قَالَ رَبُكُمْ قَالوا الحَقَّ»(12).
رابعاً: إنهم غير مغلوبين، لأنهم إنما يعملون بأمر الله وإرادته،«وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيءٍ فِي السَّمَاواتِ وَلَا فِي الأَرْضِ» (13)، «وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِه»(14)،«إنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِه»(15).
ومن هنا يظهر أن الملائكة كائنات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال والفساد والتغير، ومن شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها، وربما صادفت الموانع والآفات، فحرمت الغاية، وبطلت دون البلوغ إليها(16).
وللملائكة تمثلات وظهورات بحسب ما تقتضيه المصلحة والحكمة. ومما يؤكد ذلك ما ورد في قصة المسيح (ع) ومريم (ع) حيث قال تعالى: «فَأَرْسَلْنَا إليْها رُوحَنَا فَتَمَثَلَ لَها بَشَراً سَويّاً»(17).
وبناءً على ما ذكرنا يكون حديث الملائكة مع مريم (ع) غير قابل للجدل خصوصاً بعد عرض القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى:«وَإذ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العالَمينَ».
بلغت السيدة مريم الدرجة العالية، واكتملت نورانيتها التي تمكّنها من أن تتلقى الفيوضات الخاصة بأهل الاصطفاء من الأنبياء والأولياء والرسل، ولذلك ذهب بعضهم إلى القول إن مريم (ع) هي نبية، ولكن لم يتم دليله حيث قال تعالى:«وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إلّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم»(18).
نعم إذا وسعنا مفهوم النبوّة ليشمل من عصم نفسه، وكان يملك كل استعدادات الكمال. كانت مريم (ع) بهذا المعنى نبية وولية من أولياء الله.
السيدة مريم عليها السلام هي المجتباة التي قد تجاوزت بروحها وطهرها كل حجاب، ولم يبق في قلبها إلا الله تعالى، إلتقتها الملائكة وقد أُمرت بمخاطبتها. سبحانك يا إلهي إنها ملاك قد تجاوزت الطبيعة والمحدود إلى الآفاق اللامحدودة، تجاوزت عالم الملك إلى عالم الملكوت، ولعلها تخطّت ذلك. وقد أكبرتها الملائكة ونفذوا أمر مخاطبتها بلغة ملائكية اصطفاء من غير شائبة، وطهارة من كل دنس وريب وشك، فهي مريم (ع) الجوهرة التي تجلت فيها أنوار الحق، ومثلت صورة من صور الاستخلاف الإلهي في زمان قد عز فيه الطهر والاصطفاء.
وقد تصدرت مريم (ع) المقام المرموق عند الله فكانت تاجه وظله وحنانه، وتناديها الملائكة «يَا مَرْيَمُ اقنُتِي لِرَبِكِ وَاسْجُدي وَارْكَعي مَعَ الرَاكِعين»(19).
نعمة الإصطفاء والطهر لا تقابل إلا بالشكر، وبالشكر تدوم النعم «وَإذْ تَأذَنَ رَبُكُّمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ»(20).
وأيُّ شكر أعظم من إقرار العبودية الخالصة بين يدي المنعم المتفضل. والصورة الأكمل للعبادة هي التي علّمتها الملائكة مريم (ع)، قنوت وخضوع، تذلل ودعاء ومناجاة وسجود ونكران ذات وذوبان في الحق، وركوع تعبيراً صادقاً عن خضوع وتسليم مع الراكعين والعابدين قد أخلصوا لله تعالى يتقدمهم زكريا (ع).
مريم عليها السلام في غرفتها منقطعة عن العالم لا يدخل إليها زكريا (ع). عزلة جعلتها أكثر تأمّلاً وتفكّراً بربّها، وهو الأنيس في وحدتها وقد سخّر ملائكته لأنسها والحديث معها، وتطييب روحها الطاهرة. وها هي الملائكة تطوف حولها تبشّرها بأن الله تعالى قد اصطفاها لؤلؤة في صدفة لا يعلم سرها إلا الله تعالى.
سبحانك يا إلهي، ما أكرمك! يا دائم العطايا. هذا زكريا (ع) يرتقي، ويصعد السلم الطويل قاصداً غرفة مريم (ع) في يوم شتائي قارس يحمل إليها طعاماً، كسرة خبز، وقليلاً من اللبن، وعلى الباب يسمع صوتاً مثل خرير الجداول. ولم يكن في الغرفة سوى مريم (ع)، وإذا به صوت مناجاة مريم (ع) مع آهات القلب، وخشوع العينين دموعاً. ويدخل زكريا (ع) بهدوء ومريم (ع) مشغولة، كأنها في عالم آخر. ووقع نظره على إناء وقد امتلأ بالرطب، ونكهة الرطب تملأ فضاء الغرفة. يا إلهي، رطب ونحن في أيام الشتاء؟!
قال: من أين لك هذا يا مريم؟
قالت: يا سيدي هو من عند الله يرزق بغير حساب.
يا إلهي، ما هذا إلا وحي ينطق على لسانها، وروح تتفجر إيماناً، ووجه ملائكي يشرق نوراً.
وتمر الأيام، ويأتي فصل الصيف، ويقصد زكريا مريم (ع) متفقداً، ويدخل عليها غرفتها، فيراها ساجدة قد غمرها السكون ولا حركة. توقف متعجباً، وهو يردد في نفسه هل أصيبت بعارض أفقدها الحياة؟ يا إلهي، هذه روائح البرتقال، ولسنا في موسمه! ويقع نظره على وعاء قد امتلأ بالبرتقال. يا مريم أنا زكريا جئت إليك متفقداً. وتجيب بصوت خفي كأنه آت من بعيد ينقله الأثير، فأدرك أنها في عالم آخر. يا مريم أنى لك البرتقال؟
قالت: هو من عند الله، يرزق بغير حساب، ولا يتخلف مراده عن إرادته.
ما أعظمها وهي في انقطاعها، لا يرى شخصها، وفيّة لنذر أمها الصالحة، ملتزمة بالعبادة، طائعة. إنها المرأة التي وقع عليها الاختيار لليوم الموعود لولادة حجته ونبيه المنقذ والمخلص...
ومريم (ع) كما بشرتها الملائكة أن الله قد اصطفاها. واصطفاؤها على نساء العالمين. ولقد ورد عن الإمام محمد الباقر (ع) أنه اصطفاء على نساء عالمِي زمانها. وقد قال رسول الله (ص) لابنته فاطمة (ع): أنت سيدة نساء عالمي زمانها، ورُوي عن النبي (ص) أنه قال: فضّلت خديجة على نساء أمتي كما فضّلت مريم على نساء العالمين.
مريم عليها السلام هي الجوهرة الإلهية، والصنع الإلهي، والاختيار الرباني. تعجز الكلمات والأوصاف عن إعطائها حقّها، هي نور وكل شيء يعرف بالنور، وكل ما يقال في مريم (ع) جميل، ولكن الأجمل أن يترك لجمال مريم (ع) وعظمتها، وكبريائها، وطهارتها، وعفّتها، أن تعرف بآثار تجليات فيض انبثق على الوجود نوراً وكلمة وروحاً منه «ذَلِكَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» (21).
الهوامش:
1. سورة آل عمران، الآية 42.
2. سورة آل عمران، الآية 45.
3. سورة مريم، الآيات 16, 17, 18, 19.
4. سورة فاطر، الآية 1.
5. الميزان في تفسير القرآن: ج 17، ص 7.
6. المنجد في اللغة والأعلام قال: أطّ_ أطيطاً: صوّت. وهنا لكثرة الملائكة وحركتها بين راكع وساجد فإنها تئط يعني تصوت.
7. سورة الصافات، الآيتان: 165_ 166.
8. سورة الأنبياء، الآية 27.
9. سورة التحريم، الآية 6.
10. سورة الصافات، الآية 164.
11. سورة التكوير، الآية 21.
12. سورة سبأ، الآية 23.
13. سورة فاطر، الآية 44.
14. سورة يوسف، الآية 21.
15. سورة الطلاق، الآية 3.
16. الميزان في تفسير القرآن، ج: 17، ص:12 _ 13.
17. سورة مريم، الآية 17.
18. سورة الأنبياء، الآية 7.
19. سورة آل عمران، الآية 43.
20. سورة إبراهيم، الآية 7.
21. سورة مريم، الآية 34.
المصدر: يزبك، محمد: مريم العذراء أم المسيح في القرآن الكريم، دار المحجة البيضاء، لبنان_ بيروت، ط1، 2008م.
«إِذْ قالتِ المَلائِكَةُ يَا مَريَمُ إنَّ اللهَ يُبَشرُكِ بِكلِمَةٍ مِنهُ اسمُهُ المَسيحُ عيسَى ابنُ مَرْيَمَ وَجيهاً فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَبينَ»(2).
«وَاذْكُرْ فِي الكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهلِهَا مَكَانَاً شَرْقِيّاً* فاتخذت مِنْ دونِهِمْ حِجَابَاً فَأَرْسَلْنَا إليها رُوحَنا فَتَمَثَلَ لها بَشَراً سَوياً* قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً* قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِكِ لِأَهَبَ لَكِ غلاماً زكياً»(3).
تكرر ذكر الملائكة في قضية السيدة مريم عليها السلام كما تكرر ذكرها في القرآن الكريم ومنه قوله تعالى: «الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَواتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ»(4).
الملائكة جمع ملك بفتح اللام. وهم موجودات (كائنات) خلقهم الله، وجعلهم وسائط بينه وبين العالم المشهود. ووكّلهم بأمور العالم التكوينية والتشريعية. عباد مكرّمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وتشير الآية إلى وجود ملك مجهّز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحيه فينتقل بهما من السماء إلى الأرض بأمر الله، ويعرج بهما منها، ومن أي موضع إلى أي موضع. وقد سمّاه القرآن جناحاً، ولا يستوجب ذلك إلا ترتيب الغاية المطلوبة من الجناح عليه(5).
وقد ورد في الملائكة روايات، منها ما روي في "الدر المنثور" عن أبي العلاء بن سعد أن رسول الله (ص) قال يوماً لجلسائه: أطت السماء وحق لها أن تئط(6) ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد، ثم قرأ: «وَإنّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ* وَإنَّا لَنَحْنُ المُسبِّحُونَ»(7).
وخلاصة أفضل ما قيل في حقيقة الملائكة وأوصافها وأصنافها:
أولاً: لم يسكنوا أصلاباً، ولم تضمّهم أرحام. لم يخلقوا بل أنشئوا إنشاء.
ثانياً: لقد كرّمهم بجواره وجنّبهم الآفات، وبه قالوا، ولولاه لم يكونوا.
ثالثاً: لا يخلو موضع قدم من السماء إلا وملك راكع أو ساجد.
رابعاً: ما من أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة.
خامساً: أمناء على ما ائتمنوا لا يعتريهم سهو العقول ولا يغشاهم نوم العيون.
سادساً: طاهرون مطهرون، مطيعون يفعلون ما يؤمرون.
سابعاً: هم أصناف متعدّدون من حملة عرش، إلى اسرافيل صاحب الصور، إلى ميكائيل، إلى جبريل الأمين على الوحي، إلى الروح ملائكة الحجب الذين هم من أمر الله، إلى من دونهم من سكان السماوات، إلى الروحانيين من ملائكتك وأهل الزلفة، إلى خزان الرياح..... الخ.
ومما ذكره السيد الطباطبائي (قده) من صفات الملائكة وأعمالهم:
أولاً: أنهم كائنات مكرمون، هم وسائط بين الله تعالى وعالم الشهود، ليس لهم إلا إجراء الأمر الإلهي في مجراه، وتقريره في مستقره كما قال تعالى: «لَا يَسْبِقونَهُ بِالقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (8).
ثانياً: إنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به، فليست لهم إرادة مستقلة تريد شيئاً غير ما أراده الله سبحانه، فلا يستقلون بعمل، ولا يغيّرون أمراً حملّهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان، قال تعالى: «لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون»(9).
ثالثاً: إن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علواً ودنواً. فمنهم آمر مطاع ومنهم مأمور مطيع، والآمر منهم آمر بأمر الله، فليس لهم من أنفسهم شيء البتة، قال تعالى: «وَمَا مِنَّا إلّا لَهُ مَقَامٌ مَعلُومٌ»(10)، »مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين»(11)، وقال: «قَالُوا مَاذا قَالَ رَبُكُمْ قَالوا الحَقَّ»(12).
رابعاً: إنهم غير مغلوبين، لأنهم إنما يعملون بأمر الله وإرادته،«وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيءٍ فِي السَّمَاواتِ وَلَا فِي الأَرْضِ» (13)، «وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِه»(14)،«إنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِه»(15).
ومن هنا يظهر أن الملائكة كائنات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال والفساد والتغير، ومن شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها، وربما صادفت الموانع والآفات، فحرمت الغاية، وبطلت دون البلوغ إليها(16).
وللملائكة تمثلات وظهورات بحسب ما تقتضيه المصلحة والحكمة. ومما يؤكد ذلك ما ورد في قصة المسيح (ع) ومريم (ع) حيث قال تعالى: «فَأَرْسَلْنَا إليْها رُوحَنَا فَتَمَثَلَ لَها بَشَراً سَويّاً»(17).
وبناءً على ما ذكرنا يكون حديث الملائكة مع مريم (ع) غير قابل للجدل خصوصاً بعد عرض القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى:«وَإذ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العالَمينَ».
بلغت السيدة مريم الدرجة العالية، واكتملت نورانيتها التي تمكّنها من أن تتلقى الفيوضات الخاصة بأهل الاصطفاء من الأنبياء والأولياء والرسل، ولذلك ذهب بعضهم إلى القول إن مريم (ع) هي نبية، ولكن لم يتم دليله حيث قال تعالى:«وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إلّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم»(18).
نعم إذا وسعنا مفهوم النبوّة ليشمل من عصم نفسه، وكان يملك كل استعدادات الكمال. كانت مريم (ع) بهذا المعنى نبية وولية من أولياء الله.
السيدة مريم عليها السلام هي المجتباة التي قد تجاوزت بروحها وطهرها كل حجاب، ولم يبق في قلبها إلا الله تعالى، إلتقتها الملائكة وقد أُمرت بمخاطبتها. سبحانك يا إلهي إنها ملاك قد تجاوزت الطبيعة والمحدود إلى الآفاق اللامحدودة، تجاوزت عالم الملك إلى عالم الملكوت، ولعلها تخطّت ذلك. وقد أكبرتها الملائكة ونفذوا أمر مخاطبتها بلغة ملائكية اصطفاء من غير شائبة، وطهارة من كل دنس وريب وشك، فهي مريم (ع) الجوهرة التي تجلت فيها أنوار الحق، ومثلت صورة من صور الاستخلاف الإلهي في زمان قد عز فيه الطهر والاصطفاء.
وقد تصدرت مريم (ع) المقام المرموق عند الله فكانت تاجه وظله وحنانه، وتناديها الملائكة «يَا مَرْيَمُ اقنُتِي لِرَبِكِ وَاسْجُدي وَارْكَعي مَعَ الرَاكِعين»(19).
نعمة الإصطفاء والطهر لا تقابل إلا بالشكر، وبالشكر تدوم النعم «وَإذْ تَأذَنَ رَبُكُّمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ»(20).
وأيُّ شكر أعظم من إقرار العبودية الخالصة بين يدي المنعم المتفضل. والصورة الأكمل للعبادة هي التي علّمتها الملائكة مريم (ع)، قنوت وخضوع، تذلل ودعاء ومناجاة وسجود ونكران ذات وذوبان في الحق، وركوع تعبيراً صادقاً عن خضوع وتسليم مع الراكعين والعابدين قد أخلصوا لله تعالى يتقدمهم زكريا (ع).
مريم عليها السلام في غرفتها منقطعة عن العالم لا يدخل إليها زكريا (ع). عزلة جعلتها أكثر تأمّلاً وتفكّراً بربّها، وهو الأنيس في وحدتها وقد سخّر ملائكته لأنسها والحديث معها، وتطييب روحها الطاهرة. وها هي الملائكة تطوف حولها تبشّرها بأن الله تعالى قد اصطفاها لؤلؤة في صدفة لا يعلم سرها إلا الله تعالى.
سبحانك يا إلهي، ما أكرمك! يا دائم العطايا. هذا زكريا (ع) يرتقي، ويصعد السلم الطويل قاصداً غرفة مريم (ع) في يوم شتائي قارس يحمل إليها طعاماً، كسرة خبز، وقليلاً من اللبن، وعلى الباب يسمع صوتاً مثل خرير الجداول. ولم يكن في الغرفة سوى مريم (ع)، وإذا به صوت مناجاة مريم (ع) مع آهات القلب، وخشوع العينين دموعاً. ويدخل زكريا (ع) بهدوء ومريم (ع) مشغولة، كأنها في عالم آخر. ووقع نظره على إناء وقد امتلأ بالرطب، ونكهة الرطب تملأ فضاء الغرفة. يا إلهي، رطب ونحن في أيام الشتاء؟!
قال: من أين لك هذا يا مريم؟
قالت: يا سيدي هو من عند الله يرزق بغير حساب.
يا إلهي، ما هذا إلا وحي ينطق على لسانها، وروح تتفجر إيماناً، ووجه ملائكي يشرق نوراً.
وتمر الأيام، ويأتي فصل الصيف، ويقصد زكريا مريم (ع) متفقداً، ويدخل عليها غرفتها، فيراها ساجدة قد غمرها السكون ولا حركة. توقف متعجباً، وهو يردد في نفسه هل أصيبت بعارض أفقدها الحياة؟ يا إلهي، هذه روائح البرتقال، ولسنا في موسمه! ويقع نظره على وعاء قد امتلأ بالبرتقال. يا مريم أنا زكريا جئت إليك متفقداً. وتجيب بصوت خفي كأنه آت من بعيد ينقله الأثير، فأدرك أنها في عالم آخر. يا مريم أنى لك البرتقال؟
قالت: هو من عند الله، يرزق بغير حساب، ولا يتخلف مراده عن إرادته.
ما أعظمها وهي في انقطاعها، لا يرى شخصها، وفيّة لنذر أمها الصالحة، ملتزمة بالعبادة، طائعة. إنها المرأة التي وقع عليها الاختيار لليوم الموعود لولادة حجته ونبيه المنقذ والمخلص...
ومريم (ع) كما بشرتها الملائكة أن الله قد اصطفاها. واصطفاؤها على نساء العالمين. ولقد ورد عن الإمام محمد الباقر (ع) أنه اصطفاء على نساء عالمِي زمانها. وقد قال رسول الله (ص) لابنته فاطمة (ع): أنت سيدة نساء عالمي زمانها، ورُوي عن النبي (ص) أنه قال: فضّلت خديجة على نساء أمتي كما فضّلت مريم على نساء العالمين.
مريم عليها السلام هي الجوهرة الإلهية، والصنع الإلهي، والاختيار الرباني. تعجز الكلمات والأوصاف عن إعطائها حقّها، هي نور وكل شيء يعرف بالنور، وكل ما يقال في مريم (ع) جميل، ولكن الأجمل أن يترك لجمال مريم (ع) وعظمتها، وكبريائها، وطهارتها، وعفّتها، أن تعرف بآثار تجليات فيض انبثق على الوجود نوراً وكلمة وروحاً منه «ذَلِكَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» (21).
الهوامش:
1. سورة آل عمران، الآية 42.
2. سورة آل عمران، الآية 45.
3. سورة مريم، الآيات 16, 17, 18, 19.
4. سورة فاطر، الآية 1.
5. الميزان في تفسير القرآن: ج 17، ص 7.
6. المنجد في اللغة والأعلام قال: أطّ_ أطيطاً: صوّت. وهنا لكثرة الملائكة وحركتها بين راكع وساجد فإنها تئط يعني تصوت.
7. سورة الصافات، الآيتان: 165_ 166.
8. سورة الأنبياء، الآية 27.
9. سورة التحريم، الآية 6.
10. سورة الصافات، الآية 164.
11. سورة التكوير، الآية 21.
12. سورة سبأ، الآية 23.
13. سورة فاطر، الآية 44.
14. سورة يوسف، الآية 21.
15. سورة الطلاق، الآية 3.
16. الميزان في تفسير القرآن، ج: 17، ص:12 _ 13.
17. سورة مريم، الآية 17.
18. سورة الأنبياء، الآية 7.
19. سورة آل عمران، الآية 43.
20. سورة إبراهيم، الآية 7.
21. سورة مريم، الآية 34.
المصدر: يزبك، محمد: مريم العذراء أم المسيح في القرآن الكريم، دار المحجة البيضاء، لبنان_ بيروت، ط1، 2008م.
اترك تعليق