مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

البحرين؛ أم يوسف موالي:

أم يوسف موالي: "يهون علينا ما بنا أنه بعين الله،... قد شرفني ابني، ورفع منزلتي وقدري، بأن صرت أم الشهيد".

قرب القبر جلست، رفعت يديها بتضرعٍ موجع، رددت بصوت الواثق: "اللهم تقبل منا هذا القربان" ثم تعالت زغرداتها وسط القبور، علّ الأرواح المقيمة هناك تستقبل عرّيسها بما يليق، كانت فرحة لموته كما لا تكون الأمهات، وأمام وكيل النيابة وقفت بشموخ، قالت: "أنا فرحة من أجله، سعيدة لهذه النهاية...
تقول أم يوسف، أردت أن أتجاوز تلك المرحلة، أن أتجاوز صورة ابني ممداً فوق صفيحٍ بارد في هذا الشتاء القاسي، تركت هذه المهمة للرجال، انشغلت حينها بتهيئة نفسي لدورٍ كنت أظن أني لا أقوى على احتماله، حين كنت أرى عوائل الشهداء عبر التلفاز وهم يرددون نحن صابرون وراضون بما قسمه الله لنا، أقول في نفسي: "كيف يمتلكون كل تلك الشجاعة لتحمل كل هذا، لا أقوى على فراق أبنائي، ولست على استعداد لخسارة أحدهم".
أراد الله يومها أن يختبر أم يوسف، وأن يكشف ما لا تعرفه عن نفسها، أن يمدها بما تحتاج من صبر كي تصمد، لم تكن مستعدة لذلك يوماً، لكن الله هيأها لتكون أماً للشهيد، لتربيه، وتصادقه، وتلتصق به، ثم تتركه يرحل محملاً بالزغاريد، أراد لها الله أن تكتشف قوتها التي لم تعرفها أبداً، وأن يعطيها من الثبات ما يكفي لتحارب من أجل حق يوسف في القصاص من قتلته.
مر أسبوع على رحيله، ما زال جسده ينام وحيداً، عارياً في هذا الشتاء، وما زالت تصر على براءة البحر من دمه، انتهى كل ذلك بسير القضية في أروقة المحاكم الطويلة، وقرر الأهل دفن فقيدهم، دون أن يتنازلوا عن حقهم في معرفة حقيقة ما جرى، وأن ينال معذبوه جزاءهم وفق القانون، أخيراً، هو في المقبرة، انتظرت الانتهاء من تغسيله بصبرٍ مر، قالت بلهجتها المحرقية العتيقة: "وحشني، بس آبي أجوفه"، طلبت من ابنتها أن تجهز الكاميرا، أرادت أن تأخذ له صورةً أخيرة، لذاك الوجه الجميل، "لكنه لم يكن ابني" هكذا قالت.
لقد تحول ذاك الشاب الجميل إلى جثة مخيفة، تغير ابيضاض لونه إلى اسوداد غريب، وبدت على جسده آثار تعذيب، وساعات طويلة من الوجع الذي لا يحتمل، صدمت أم يوسف مما رأت، صرخت: "لا... ليس ابني، هذه الجثة لا أعرفها، ليس ابني" ثم سقطت مغشياً عليها، لقد كانت صامدة، قوية، مؤمنة بما كتبه الله، لكن منظر ابنها الأخير هزها من الأعماق، جزء منها أراد أن يصدق أن هذه الجثة المبضعة ليست جثة ابنها، سألت أعمامه: "أواثقون أنتم أنها جثة يوسف؟" قالوا: نعم، أخذت بيد أخيها، قالت له:" أنا لا أصدق أحداً غيرك، هل من تراه ممداً أمامنا هو يوسف؟" رد بتألم: نعم. قالت: أصدقك.
لم تستطع أم يوسف أخذ صورة معه، ولا صورة واحده للذكرى، كانت تريد أن تنسى ما رأته فقط، عند الوداع أرادت تقبيله، قبلةً أخيرة يتزود بها في طريق وحشته، لكنها عجزت، كانت أضعف من أن تقترب من غريب لا تعرفه، ما زالت روحها تصرخ بصمت: ليس ابني، أصروا عليها أن تقبله، رفضت، قالت: لا أستطيع، أنا لا أعرف هذا الشخص، لم أعرفه أبداً، بعد إصرار أغمضت عينيها، قبلت جبينه، صرخت بعدها: خذوني لمجلس ابن زياد، لطاغية عصري، أريد أن أقول لهم: "أن ابني الآن يستريح، من عذاب طويل، وأنه يهون علينا ما بنا أنه بعين الله، أريد أن أصرخ، أنا أم الشهيد، قد شرفني ابني، ورفع منزلتي وقدري، بأن صرت أم الشهيد".

المصدر: وكالة أبنا.

التعليقات (0)

اترك تعليق