مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كذب الأطفال... بين الواقع والخيال

كذب الأطفال... بين الواقع والخيال في المنظور التربوي والسيكولوجي

قد يلجأ البعض أحياناً إلى الكذب تبريراً لموقف، أو تخلّصاً من عقوبة، ثمّ ينتهي الأمر بمن لجأ إلى هذه الطريقة بأن يصدّق نفسه، ويثق ببراءته، فيعود إلى تكرار كذبه، تخلّصاً من شعور إدانة النفس، فالكذب هو حاصل الغريزة، قبل أن يكون نتيجة لحساب عقلي، ومن جهة أخرى فالمخادعة تحتل مكاناً كبيراً في المكافحة في سبيل الحياة، فالتلوّن والمراءاة، والهستيريا، كلّها أنواع من الكذب، كما أن جميع التنقّلات الوجدانية التي تنظم الحياة العاطفية، هي أيضاً أنواع من الكذب والخداع[...]
يوجد عند الطفل نوع من الكذب الشعري، يرتكز على شيء من الوهم والخيال، فقد يتحدّث، مثلاً، إنه قبل لحظات، شاهد حوادث مدهشة في بلاد بعيدة، ومن الواضح أنه في هذه الحالة، يتعمّد أن يحمل قوله محمل الجد، فعندما يتحدّث عن شعوره وأحلامه، إنّما يقصد إشراك الغير بخيالاته وتصوّراته، وإذا ما شاركه مَنْ حوله بهذه الأحلام، فإنّها تصبح لديه أقرب إلى الحقيقة والواقع، حتى إنه لينتهي هو نفسه إلى تصديقها كلّياً بعد وقتٍ ما، ولا يتورّع بعض المربين المتزمّتين عن تعنيف الأطفال، في مثل هذه الحالات، لاختراعهم أموراً تبعد عن الحقيقة، ولَعمري أنّهم ليخطئون في فهم حقيقة هؤلاء الأطفال الأبرياء، وهل يجهلون عجز الطفل عن التفريق بين ما يصوّره له وهْمه وحقيقة الواقع؟ وهل فاتهم أن معظم ألعابه يكتنفها الوهم والخيال؟ وما لعبة الجندي، واللص، واتخاذ القصبة حصاناً، وما شابه هذه الأجواء، إلا أنواع من الخيالات التي لم يعارضها أشد المربين تزمّتاً وعناداً.
وقد لوحظ أن الألعاب الخيالية، عند الطفل إذا ما اتخذت شيئاً من التوسّع، أنبأت عن ملكات للابتكار في ميدان الأدب، وقد لوحظ أيضاً، بصورة خاصّة، إنه إذا حورب هذا الميل عنده، تحوّل إلى تذوّق للموسيقى، أو فن آخر من الفنون الذوقية والهوايات.
يؤكّد بعض علماء التربية أن أوهام الأطفال، مادامت في مجال الأبحاث الخيالية فإنّها لا تستوجب اللوم والزجر، غير أن الأمر يختلف تماماً، إذا ما لجأ الأطفال متعمّدين إلى نكران، أو إخفاء ما يُسألون عنه، تخلّصاً من ملام، أو سعياً إلى إنزال الضرر بمنافس ما، ولا شكّ في أن هذا كذب حقيقي، ولا يخفى إنه كلّما لجأ الطفل إلى تأكيد شيء يختلف عن الواقع، فهو يخضع بذلك إلى تلبية رغبة ما[...].
فإذا تحدّث طفل صغير إنه بطل مقدام، وأنّه حارب وحشاً، وتغلّب عليه، فهو لا يرمي إلى تصديق ما ادّعاه بالحرف الواحد، إنّما يبتغي أن يحصل في ميدان اللعب على إعجاب الغير، الإعجاب الذي يرجو دوام شيء منه بصورة لاشعورية بعد انتهاء اللعب، والفحص الدقيق يبيّن لنا أن الطفل في هذه اللحظة كان تحت تأثير فشلٍ ما، أو شعَر بحطة في قدره، فسعى إلى نسيان هذه الحالة والتعويض عن هذا الشعور، ومن جهة أخرى، عندما يشعر طفل آخر بالخجل، لفقره بالنسبة لغيره، فيتحدّث إلى بعض رفاقه أن أهله يملكون قصوراً فخمة، فهو لا يحقق بهذا، نفس الأسلوب النفسي المتقدّم ذكره، إنّما إذا توصّل إلى إعطاء حديثه طابعاً واقعيّاً، واستطاع إحراز تصديق رفاقه، رأى المربون في ذلك كذباً يستوجب اللوم، وفي الحقيقة أن الطفل لم يَعدُ بذلك عن التعويض عن حقيقة الواقع بوهم الخيال، ويبدو أن خطورة الكذب تتوقف على درجة تأثيره على السامعين.
أسباب الكذب:
إنّ مبعث (الكذب) أربعة أسباب: الشعور بالضّعة، الشعور بإدانة النفس، العدوان، الحسد، فالأمثال التي سبق ذكرها ترتبط بشعور الضّعة، إذ إن الكذب الأكثر وقوعاً يهدف إلى التعويض أو إبعاد الإدانة، فالطفل ينكر الخطأ الذي يُنسب إليه، حتى ولو أُخذ بالجرم المشهود وأنّه يجهد في اختلاق الحجج والأعذار لإبعاد الشبهات، وإنّ إصراره على النكران أمام الحقيقة الواضحة، أو انخراطه في قصص بعيدة عن التصديق يُظهِر عدم منطقية ما يدّعيه، كما يُظهِر طابعه الانعكاسي أو الغريزي، ويندر أن نرى أطفالاً يدّعون ارتكابهم أخطاءً لم يرتكبوها.
والكذب العدواني أو (الحاقد) يظهر في اتّهام أحد ما، بارتكابه خطأ، لا تخلّصاً من تهمة، إنّما ابتغاء إلحاق الأذى بالغير، ولو لجأنا إلى تحليل دقيق للاتهام التصوري، لدلّنا على إنه غالباً ما يعبّر بصورة رمزية عن نزاع في نفسية الكاذب، وإنّ اتّهامه للغير، فضلاً عن استجابته لشهوة ضغينته، يكون له بمثابة درع يلقي من ورائه على الغير شبح الإدانة الحقيقية، أو التصوّرية الموجودة فيه.
وقد يكذب الطفل بدافع الحسد، فهو إذا شاء شراء حلويّات أو لعبة، مثلاً، تحدّث إلى والديه أن أستاذه افتتح اكتتاباً لمشروع، أو لعمل خيري ما، ابتغاء الحصول على المال اللازم له، ومن الواضح إنه كلّما كان الكذب محبوكاً ومدروساً، ليكون قابلاً للتصديق، ابتعد عن بداهة الغريزة، وجاء بشكل يستوجب مسؤولية الكاذب.
والميل إلى الكذب ينطبق بصورة عامّة على نوع من رفض الحقيقة، ومتطلّباتها كما هو الحال في الكسول، وبالحقيقة أن الكسالى غالباً ما يكونون كاذبين، لأنّهم يميلون أيضاً للتهرّب من وجه الحقيقة، سواء في ميدان العمل أو الفهم، فأمام الجهد اللازم لإصلاح حالة ما، ينام الكسول ويحلم الكذوب، وفي الكذب نوع من استدعاء قوّة سحر الكلام، أو الفكرة السحرية عند الأقدمين، والأحداث الذين لا يميّزون بين المعجزة والواقع، لا شكّ في أن الكاذبين هم من المتأخرين عاطفيّاً، فكذبة مرتّبة وفي ظروف معيّنة، قد تجلب نفعاً كبيراً، ولكن عادة قلب الحقيقة، أي العادة التي تصنع الكذوب الحقيقي تنتهي بسرعة إلى إفساد صاحبها، والقضاء على سمعته، أن رذيلة الكذب لا يمكن أن تنتج عن عملية حسابية دقيقة، ويمكننا القول باختصار: إنّها ناتجة عن الآلية العاطفية للاشعور، أكثر من أن تكون ناتجة عن حالة إراديّة مدروسة.[...]
ومن الأمور المسلّم بها أن كثيراً من الأطفال عندما يُتّهَمون بالكذب قد يبدو عليهم الاضطراب مع احمرار الوجه، في حين أنّهم أبرياء، ولم يرتكبوا الخطأ المَعْزو إليهم، إنّهم لم يرتكبوه فعلاً، بل كان عندهم الميل لارتكابه، ولهذا، فالاضطراب واحد، لأنّ نزاع العواطف واحد أيضاً، ولمّا كان إدراك واقع الحقيقة ضعيفاً عند الولد، فإن بعض الأطفال يعترفون بارتكابهم أخطاءً هم أبرياء منها، إنّهم يشعرون بوطأة ضيق إدانة النفس الشديد، فيتّهمون أنفسهم تخلّصاً من الشكّ والريبة، ولكي يقعوا ثانية عن طريقة مصطنعة في أوضاع حقيقية، مهما كانت المحاذير المتوقّعة.[...]
إذاً، لا يجوز الحكم على كذب الطفل بتسرّع وارتجال، وإذا تحرينا العدالة يجب أن نقيسه بنفس المقياس الذي يقاس به سوء قصد الراشدين، فإذا كذب الطفل تخلّصاً من مسؤولية ما، فمن الواضح أن ضعفه حيال سلطة المربين، هو الذي يدفعه إلى إخفاء الحقيقة، ولا يخفى إنه لكي نستطيع الجهر أمام الأقوياء بكل ما نعلم، وبكل ما نفكّر به، يجب أن نكون أقوياء، لا نخشى عاقبة تصريحنا، أما الرقابة العقلية عند الطفل فهي في طور التشكّل، بينما غرائزه الموروثة لم تكن قد أوقفت فعاليّتها البدائية.
إنّ التفريق بين ذكرى الحوادث الحقيقية، وتمثيل الرغبة لَمِن الأمور الصعبة، إن أشد المربين صرامة في تطلّب الحقيقة من الطفل، ربّما كانوا هم قد أكثروا من الكذب على تلاميذهم بقصصهم عن الذئب والخروف والأب (نويل)، والأطفال الذين يولدون من (الملفوف)، وما شابه ذلك من هذه القصص، كما أنّهم لم يترددوا عن استغلال سذاجة الأطفال في تلقّينهم افتراضات وهميّة كاذبة كحقائق راهنة، فنحن لم نأت هنا بصورة بيانيّة بل نذكر حقائق ملموسة، وكم من الأولاد يصطدمون بأزمة عاطفية شديدة، في اليوم الذي يكتشفون فيه أنّهم كانوا هدفاً لخداع الكبار، وقلَّ مَنْ يُفكّر في اختبار وجدانه، وامتحان نفسه، قبل أن يُحاكم الطفل الذي يكذب.
وفي الحقيقة ليس من واجب التربية المثالية أن تحكم وتدين، بل واجبها الفهم والمساعدة وتأمين الشفاء، فالولد الذي يكذب إنّما يُعبّر بكذبه عن عدم رضاه عن الحقائق الخارجية، أو عن نفسه أيضاً، وإنّ العقوبات المختلفة التي يمكن أن تبتدعها أهواء المربين، لا تستطيع أن تحمله على تذوّق الحقيقة، فهذه العقوبات، في الوقت الذي يُقصَد بها إفهام الأطفال الكذب نقيصة وعار، تدفعه إلى التفنن في تقنيع كذبه بألوان مختلفة من الأساليب، أي أنّها تسوقه إلى درجاتٍ من الكذب، أشدّ خطورة من ذي قبل، أو إلى التزام السكوت تخلّصاً من المزالق، وهكذا فإن العقوبة لا تبدو قليلة الجدوى فحَسْب، بل شديدة الخطورة أيضاً في إفساد نفسيّة الأولاد، وحملهم على إحكام أساليب كذبهم، بصورة تجعل السامع يعجز عن التفريق بين أقوالهم وحقيقة الواقع،  ولا يخفى ما في هذا من الخطورة.
إذن فالحكمة تقضي بمعالجة كذب الأطفال كنوع من اللعب، أي أن نتقبّله بصورة تجعلهم يدركون أننا غير مخدوعين بما صدر عنهم، كما نجعلهم يفهمون أن كذبهم هذا ليس جرماً كبيراً، إنّما هو هنّة صبيانيّة يمكن التسامح عنها نظراً لصغر سنّهم، ولكنها غير مقبولة من الأشخاص البالغين الأشدّاء.
وفي الوقت نفسه، فإنّهم يتعلمون تفضيل الحقيقة، كما يتعلّم المرء تفضيل الحياة الواقعية على أطيب الأحلام، عندما تؤمِّن له الحقيقةُ والواقعُ بلوغ أمان أثبت وأعذب من ملذّات أحلامه وتخيّلاته، وعلى المربي الصالح أن يبحث عن شعور الضِّعة المخبوء، أو النفسيّة الرديئة الغامضة اللتين ينبعث عنهما كذب الطفل، ثمّ يعمد إلى اختبار دقيق لاتّخاذ العلاج اللازم مادّياً ومعنويّاً.
وإذا ما تحقق للطفل أن يكون في سلام واطمئنان مع نفسه ومع غيره فمن المؤكّد إنه لا يعود يشعر بحاجة إلى الكذب.
إنّ لِتَعَشُق الحقيقة علاقات مع تذوّق القوّة والروح الرياضيّة، إذ إن نشدان الحقيقة، والدّفاع عنها، يستدعيان التعرّض إلى نزاع دائم، ومشاحنات طويلة، ففي الوقت الذي نؤمّن فيه للطفل فرصة التعبير عمّا في نفسه وإثبات أقواله، ونسهّل له العمل على نصر الحقيقة ومظاهرتها، مع إطرائه ومدحه في كلّ مرّة يبدو فيها مُحقّاً، فنحن بذلك نشجّعه على الصراحة والصدق، وإذا ما عوّضنا عن نزعاته العاطفية بمنافع ملموسة، فإنّا نعلّمه تذوّق الواقع والحق، ونبعده عن مهاوي الكذب، ويجب أن نمنحه حدّاً أدنى من الثّقة والتقدير، لكي يلمس المسرّة الأدبية، والبهجة النفسية اللتين يشعر بهما الصادقون، يجب أن يعامل بمنتهى العدالة، وأن يناقش في كل ما يصدر عنه بصورة مقنعة لطيفة، يجب أن نعطيه المثل الصالح في الاستقامة والصدق، فلا نخلف وعداً وعدناه به، ولا نخفر عهداً قطعناه له، وهكذا فإن غرائزه الاجتماعية (المتبادلة مع الآخرين) تحمله على الخروج من أحلام المهد وسراب الطفولة، ويؤسفنا أن نقول إنه غالباً ما يكون كذب الأطفال انعكاساً للتربية الخاطئة التي تلقّوها.

المصدر: مجلة الباحثون، العدد 63 - أيلول 2012.
هناء ثابت محمد المداد.

التعليقات (0)

اترك تعليق