مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الإيثار والمساعدة عند الأطفال

الإيثار والمساعدة عند الأطفال

حصل فليكس وارنكين على درجة الدكتوراه من جامعة لايبزيغ عندما كان يعمل في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية. وهو يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في علم النفس في جامعة هارفارد، حيث يرأس مجموعة التنمية المعرفية الاجتماعية في معمل الدراسات التنموية في الجامعة. وتركز أبحاثه على أصول التعاون في البشر والشمبانزي.
وهذا المقال معد من مقالة كتبها بعنوان الأطفال يقدمون يد العون والمساعدة.
إحدى أهم السمات البشرية هو ميلنا إلى العمل بالنيابة عن آخرين، من خلال مشاركة موارد مثل المال والطعام مع المحتاجين أو تعزية الأشخاص الذين يمرون بوقت الشدة. نفعل ذلك كبالغين بصورة روتينية، أحياناً دون النظر إلى مكاسب شخصية أو الالتفات إلى أن السلوك مكلف بالنسبة لنا. وغالباً ما تعتبر هذه السلوكيات الإيثارية ذات أصول ثقافية: على سبيل المثال علمنا آباؤنا قيماً أخلاقية أو منحونا مكافآت لأننا نتعامل بلطف مع الآخرين. علاوة على ذلك، يعتقد كثير من الناس أنّ هذه السلوكيات بشرية فريدة، مؤمنين بأنّ الحيوانات الأخرى لا تتصرف على نحو إيثاري بهذه الطريقة؛ لأنها تتصرف بدوافع أنانية مجردة وليس لديها آباء يعلمونها كيف تتصرف بمبدأ الإيثار.
على الرغم من ذلك، تشير العديد من النتائج التجريبية الحديثة إلى أنّ الإيثار البشري له جذور عميقة أكثر مما كان يُعتقد سابقاً. وعلى وجه التحديد، أجريت وزملائي دراسات أظهرت أنّ الأطفال يتصرفون على نحو إيثاري منذ سن مبكرة، أي قبل اكتسابهم خبرات اجتماعية محددة يمكن أن تؤثر على نموهم بصورة كبيرة، مثل تعلم الأعراف الثقافية.
علاوة على ذلك، أحياناً ما يقدم حيوان الشمبانزي المساعدة، مما يزيد من احتمالية عدم تميزنا فيما يتعلق بالإيثار كما نعتقد. ومن خلال إجراء دراسة على بعض الأطفال، نستطيع أن نحدد السلوكيات الإيثارية التي نقدر على ممارستها في مرحلة مبكرة من حياتنا، ونتتبع مراحل التطور لهذه النزاعات أثناء تفاعلها مع الأعراف الثقافية والتربية الأخلاقية.
بالمقارنة بين سلوك الأطفال وصغار الشمبانزي، يمكن الإجابة عن أسئلة أثارت كثيراً من الجدل منذ عصر الفيلسوفين توماس هوبز وجان جاك روسو: هل يرجع أصل الإيثار إلى الأعراف الاجتماعية المتبعة من أجل كبح جماح طبيعتنا الأنانية (رؤية هوبز) أو مثلما افترض روسو، هل نميل فطرياً إلى الاهتمام بالآخرين؟
في مرحلة مبكرة من حياتهم، يتحمس الأطفال لمعرفة لماذا وكيف يفعل الناس الأشياء. ويستوعب الأطفال الأشياء بتطور مدهش. على سبيل المثال، عندما يشاهد أطفال يبلغون من العمر عاماً واحداً شخصاً ما يستخدم آلة جديدة أ يضغطون على أزرة جهاز مذهل فيُحدث نتيجة مدهشة، يمكنهم أن يعلموا الفرق بين ما فعله الشخص عن قصد وما فعله بشكل عرضي (وهو الذي غالباً ما يصاحبه رد فعل يعبر عن الدهشة). وعندما يأتي دورهم في استخدام الأداة أو الضغط على الزر، لا يقلدون كل ما فعله الشخص بل فقط ما كان يقصد فعله. فالأطفال قراء للنوايا، وليسوا مجرد مقلدين للسلوكيات. وتحمل هذه الفترة على قراءة النوايا بعض الفائدة: عندما يتعلم الأطفال من خلال ملاحظة الآخرين، يفصلون القمح عن القشر ويقلدون فقط تلك الجوانب التي تستحق في سلوك الشخص الآخر.
ما خطر في ذهني هو أن هناك مجالاً آخر من الضروري فيه قراءة النوايا هو العطاء. إذا أردت أن تساعد شخصا ما يعاني من مشكلة، يجب أن يكون الشخص الذي يقدم المساعدة قادراً على تحديد ما يحاول الشخص الآخر فعله ولكنه يفشل فيه. هل يستخدم الأطفال الصغار قدرتهم على قراءة النوايا ليس فقط من أجل غاياتهم الخاصة (كيف تعمل هذه الأداة؟ أي زر يشغل التلفاز؟) ولكن أيضاً لمساعدة الآخرين؟ على سبيل المثال، عندما يسقط شيء من شخص ما ويحاول التقاطه، هل سيفهم الأطفال أن عملية الإسقاط كانت عرضية والشخص الآخر يحاول الآن أن يلتقط الشيء الذي سقط؟ هل سيساعدونه؟ لقد سنحت الفرصة عندما كنت أختبر طفلاً عمره عام في دراسة أجريها على لعبة اجتماعية، وكنت أزحف مع الطفل على الأرض حتى يكون من المناسب أن ألعب معه (حيث يبلغ طولي ستة أقدام وست بوصات). في مرحلة معينة، تدحرجت الكرة عرضيّاً بعيداً عن متناول يدي وتظاهرت بعدم قدرتي على استردادها وأنا ممدد على الأرض. وبالفعل وقف الطفل والتقط الكرة ووضعها في يدي.
ألهمت هذه الصدفة مجموعة من الدراسات التي تحقق في السلوك الإيثاري لدى الأطفال الصغار. اتضح من هذه الدراسات أنّ الأطفال يساعدون الآخرين بطرق مختلفة ويبدأون في ذلك منذ مرحلة مبكرة للغاية في حياتهم. بالتعاون مع مايكل توماسيلو من معهد ماكس بلانك للأنثربولوجيا التطورية في لايبزيغ، رتبت عدة مواقف لاحظ فيها أطفال يبلغون من العمر ثمانية عشر شهراً مُخْتَبِراً وهو يؤدّي عملاً بينما تحدث مشكلة مفاجئة تمنعه من تحقيق هذفه. اكتشفنا أنّ الأطفال قاموا تلقائيّاً بتقديم المساعدة دون أن يطلب منهم ذلك أو يحصلوا على جائزة أو حتى ينالوا ثناء على محاولاتهم. التقط الأطفال في الاختبار مشابك الغسيل التي ألقاها المختَبِر على الأرض ولم يستطع الوصول إليها. وفتحوا أبواب الخزانة عندما اصطدم بها المختَبِر عندما كان يحمل مجموعة من المجلات التي أراد أن يضعها داخل الخزانة. وساعدوا على وضع كتاب في مكانه فوق مجموعة من الكتب عندما وقع من أعلى. وبعدما علموا أنّ صندوقاً معيناً من الممكن أن يُفتح من خلال رفع غطائه ورأوا المختَبِر وهو يُسقِط عرضياً ملعقة من خلال فتحة في الصندوق ويحاول إدخال يده في الفتحة في محاولة يائسة لاستعادة الملعقة، استخدموا الأسلوب الذي اكتسبوه حديثاً في فتح الصندوق وإخراج الملعقة وإعطائه إياها.
جدير بالملاحظة أنّ الأطفال البالغ عمرهم ثمانية عشر شهراً لم يؤدّوا هذه السلوكيات في ظروف التحكم، حيث يقع فيها الموقف الأساسي ذاته ولكن من دون أي إشارة إلى أنها تمثل مشكلة للمُختبر (على سبيل المثال: أن يلقى مشابك الغسيل على الأرض عمداً أو أن تكون أبواب الخزانة مغلقة ولكنه يحاول وضع المجلات فوق هذه الخزانة بدلاً من أن يضعها داخلها). يستبعد ذلك احتمالية أنهم يتصرفون بغض النظر عن حاجة الشخص الآخر، فقط لأنهم أحبوا أن يعطوا الأشياء للكبار أو أن يفتحوا أبواب الخزانة على سبيل المثال.
بدا الصغار المشاركون في الاختبار قادرين على تحديد إذا كانت المساعدة مطلوبة أم لا، واستطاعوا فعل ذلك في مواقف متنوعة، مما أبرز قدراتهم المتطورة على قراءة النوايا التي ظهرت مبكراً في طفولتهم.
يرغب الأطفال الصغار أيضاً  في الاجتهاد في تقديم المساعدة. أظهرت دراسات عديدة أنّ الأطفال يستمرون في المساعدة مراراً وتكراراً، حتى لو كان عليهم التغلب على مجموعة من العقبات أو التوقف عن اللعب بلعبة شائقة من أجل التقاط شيء ما سقط. كان علينا ابتكار ألعاب تجذب الانتباه يمكنها أن تقلل من ميل الأطفال إلى المساعدة، مثل الأجهزة اللافتة التي تضيء وتصدر الموسيقى، والصناديق الملونة التي تصدر رنيناً عندما تلقي بها مكعباً من الألعاب وتطلقه في الاتجاه المقابل. قررنا أننا إذا لم نتمكن من إقناع المجتمع العلمي بالنتائج التي نتوصل إليها، يمكننا حينها على الأقل أن نتجه إلى العمل في مجال لعب الأطفال.
وكما هو ملاحظ، فإن سلوك الأطفال لم يبدُ أنه كان مدفوعاً بتوقع الثناء أو المكافأة المادية. في دراسات عديدة، لم يكن آباء الأطفال في الغرفة ولذا لا يرجع تفسير المساعدة إلى رغبة الأطفال في الظهور بصورة جيدة أمام آبائهم. وفي إحدى الدراسات، لم يكن الأطفال الذين تم منحهم لعبة مقابل تقديمهم المساعدة أكثر احتمالية لتقديمهما من أولئك الذين لم يمنحوا لعبة. في الحقيقة، قد يكون للمكافآت المادية تأثير سلبي على المساعدة: أثاء المرحلة الأولى من تجربة أخرى، حصل نصف الأطفال على مكافآت مقابل تقديم المساعدة، بينما لم يحصل النصف الآخر على شيء. بعد ذلك عندما سنحت أمام الأطفال فرصة لتقديم المساعدة ولكن في هذه المرة من دون حصول أي من المجموعتين على مكافأة، كان الأطفال الذين حصلوا على مكافأة في البداية أقل احتمالاً لتقديم المساعدة تلقائيّاً من المجموعة التي لم تحصل على مكافأة. ربما تشير هذه النتيجة المدهشة إلى أنّ تقديم الأطفال للمساعدة هو دافع غريزي أكثر من كونه مدفوعاً بتوقع الحصول على مكافأة مادية. وبشكل واضح، إذا عرضت مثل هذه المكافآت، من الممكن أن تتغير دوافع الأطفال الأصلية، لتجعلهم يقدمون المساعدة فقط لأنهم يتوقعون الحصول على شيء ما في المقابل.
تظهر هذه الدراسات أنه بعد أول عام في عمر الطفل بوقت قليل، يبدأ الأطفال في التصرف بدافع الإيثار من خلال القيام بأفعال نطلق عليها اسم "المساعدة الآلية"، حيث يستنتج الأطفال نية شخص آخر للقيام بفعل لا يتحقق فيساعدونه على تحقيقه. تتفق هذه النتائج مع الدراسات التي توضح أنّ الأطفال، في نفس العمر تقريباً، يبدأون في التصرف بالنيابة عن الآخرين بطرق أخرى متعددة. على سبيل المثال، يقوم أطفال في عمر عام وعامين بتسلية شخص يقع في محنة، مما يوضح القدرة على التناغم مع الحالات العاطفية للآخرين. علاوة على ذلك، عندما يبدأ الأطفال في الإشارة بأصابعهم، تقريباً عند عمر عام، يستخدمون هذه الوسيلة غير المنطوقة المكتسبة حديثاً ليس فقط لكي يطلبوا أشياء من الآخرين (والتي تسمى بالإشارة الأمرية، أو "أعطني هذا!") ولكن أيضاً لمساعدة شخص يبحث عن شيء ما ("ها هو!").
أحياناً ما يشارك الأطفال في عمر عامين الأشياء مع آخرين، على الرغم من أن ذلك في الغالب بعد أن يعرب الشخص عن رغبته بوضوح. وليس غريباً أنهم يترددون في مشاركة ممتلكاتهم الخاصة أكثر من ترددهم في مشاركة أشياء أخرى أقل قيمة.[...]
ويتضح أنّ الإيثار ليس نتيجة فقط للأعراف الثقافية والمجتمعية. لا شك في أنّ الممارسات المجتمعية تؤثر بصورة كبيرة على نمو الأطفال، وأنّ الأعراف الثقافية تستطيع أن تيسر وتدعم ما تنتمي جذوره إلى الوراثة البيولوجية. وعلى الرغم من الظهور المبكر للإيثار، فإنّ الأطفال يظل أمامهم الكثير ليتعلموه بشأن كيفية ومن يقدمون له المساعدة. على سبيل المثال، يجب ألا نساعد أي شخص بتهور (مثل هؤلاء أصحاب النوايا الخبيثة)؛ ولكن من الضروري أن نعلم متى نقدم المساعدة ومتى نمتنع عن تقديمها. علاوة على ذلك، تعد ميولنا الإيثارية ميزة مهمة، إذ يحسن الميل إلى المساعدة من سمعة المرء بينما يسيء إليها الامتناع عن مساعدة الآخرين. نحتاج إلى قدرات معقدة لمعرفة كيف يؤثر سلوكنا على نظرة الآخرين لنا، وهي مهارة استرتيجية يفتقدها الأطفال ولكنها تصبح مهمة مع تقدمهم في العمر. ولكن الأبحاث لم تتطرق إلى معرفة المرحلة التي يمر بها نمو الأطفال حيث يبدأون في إدراك التداخلات المعقدة والأعراف التي تميز حياتنا الاجتماعية، والإيثار البشري على وجه التحديد. وعلى أي حال، لا يبدو أنّ الالتزام بالأعراف الثقافية مصدر أصلي في سلوكياتنا الإيثارية. بل يبدو أنّ العوامل الثقافية يمكن أن تعتمد على نزعة بيولوجية [...] حيث تربي الثقافة هذه النزعة الفطرية إلى ممارسة الإيثار بدلاً من أن تغرسها في النفس البشرية.

المصدر: البيت العربي، العدد: 12.
 طارق راشد عليان.

التعليقات (0)

اترك تعليق