مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مقاصد الشريعة عند فاطمة الزهراء (عليها السلام)2

مقاصد الشريعة عند فاطمة الزهراء (عليها السلام)2: في خطبتها تفصيل دقيق للمقاصد الكليّة لأحكام الشريعة

[أهم وثيقة وأقدمها في تحديد مقاصد الشريعة هي وثيقة خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وسيدة نساء العالمين، ففي هذه الخطبة تفصيل دقيق وشرح واسع للمقاصد الكليّة والأساسية التي من أجلها وضعت أحكام الشريعة، وخصوصاً أهم الأحكام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم من صلاة، وصيام وحج وجهاد].


والصبر معونة على الأجر

حياة الإنسان على ظهر هذا الكوكب مصحوبة بالتعب والنصب، والامتحان الإلهي الصعب.. (ليميّز الخبيث من الطيب).
وبدون تجرّع الصبر ذلك العلقم المر، تجاه المصائب والمصاعب، أو تجاه الأهواء والشهوات، أمام صعوبات الطاعة لله، أو في مواجهة ضغوط المعصية لابدّ من التسلّح بالصبر، لكي يستوجب العبد (مثوبة الأبدية).
ليست ثمة وصفة للسعادة إلا ومن أهم أجزائها دواء الصبر المر، وبدونه لا دواء ولا شفاء، "فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد".
ولابد للمجتمع الإسلامي أن يتحمل مرارة الصبر، ألواناً من العذاب والأذى حتى يستقيم عود الإسلام مع الأيام، وحتى تستوجب كل نفس مؤمنة أجرها يوم الحساب، وكما يقول تعالى:«إنّه من يتّقِ ويصبر فإنّ الله لا يُضيع أجر المحسنين».( يوسف آية 90)
وعن حال الأمم المؤمنة السالفة يتحدث الإمام علي (عليه السلام) قائلاً: "حتى إذا رأى الله سبحانه حدَّ الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً فأبدلهم العزّ مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً، وأئمة أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من الله لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم"(1).


والأمر بالمعروف مصلحة للعامة

صلاح المجتمع أمر سريع العطب والزوال، لذلك لابدّ من المحافظة عليه وعبر (الموعظة الحسنة) والاستمرار في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وإلا فإن الأشرار ممن لا يقيم وزناً للآداب والمعروف سوف يشيعون الفساد في الناس ليتسع العذر لهم، و(الأمر بالمعروف) واجب للجميع على الجميع، فهو نوع من الرقابة الاجتماعية المتبادلة، من الجميع على الجميع.
ولكن ما هو المعروف، وما هو المنكر؟
المعروف، كل ما عرفه العقل وعرّفه الشرع وحثّت عليه الفطرة السليمة، وعكسه المنكر.
أما طريق الأمر به، فهو بالتشجيع له، والمكافأة عليه، والتنويه بأهله، وتيسير العمل به ـ وبكلمة مختصرةـ فتح الأبواب له.
وطريق النهي عن المنكر، بسدّ الأبواب في وجهه، وفي وجه من يعمل به.
أما كيف يكون الأمر بالمعروف مصلحة للعامة؟ فذلك لأن عامة المجتمع ـ الجماهيرـ بحاجة إلى حارس قوي يحافظ على مسيرتها الصالحة، وكما يقول الإمام (عليه السلام)؛ "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بهما تقام الفرائض وتؤمن المذاهب وتحل المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر"(2).


وبرّ الوالدين وقاية من السخط

يمتاز كل دين حق بأنه يوحي لأتباعه بالرحمة والعطف وأداء الحقوق، والإسلام أكثر الأديان توصية بها.
وعلى الأخص بالنسبة (للوالدين)، ويكفي في عظمة قدرهما أو أهمية حقّهما في الإسلام قوله تعالى:«وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً». ( الإسراء آية 23).
وقوله تعالى:« أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» (لقمان آية 14).  َفالعبادة لله وحده، أما الشكر والإحسان، فللوالدين وهذا الإحسان ليس من نمط الإحسان للفقراء والمستضعفين، بل هو من نمط خاص فيه الشكر على ما قدّموه للأولاد من عطف ومحبّة ومتاعب حياة، ومزيج من الهيبة والاحترام والتقدير، تأمّل في دعاء الإمام السجاد (عليه السلام):"اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرُّهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لهما وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أوثر على هواي هواهما وأقدم على رضاي رضاهما، واستكثر برّهما لي وإن قلّ وأستقلّ بري لهما وإن كثر".
ويكفي الإسلام عظمة أنه يوحي للأولاد بتقدير واحترام الأبوين إلى حد التقديس، فيحرّم عليهم أن يقولوا لهم "أفّ"، ويوجب عليهم نفقتهما ورعايتهما حتى آخر العمر.
وأمّا في الأمم التي حرّمت من نعمة الإسلام فإنّ حالة (العجزة)، وهم يعانون الوحدة والإهمال في زوايا دور الرعاية المنسيّة تبعث الرعب في النفوس.
ويكفي هذا الامتياز بين مجتمع الإسلام والكفر فاصلاً بين السعادة والشقاء، وكفى بهذه التوصية نعمة وفضيلة لهذا الدين الإلهي العظيم.


وصلة الأرحام منسأة للعمر ومنماة للعدد

أن تعيش في مجتمع لا يعني أنك تعيش مع الآخرين، بل قد يكون العكس كلّما كان المجتمع أكبر كانت الوحدة أعظم. المقياس هو: أن تعيش مع أرحامك وأرحام أرحامك، وأن تندمج بهم ويندمجوا بك فتشكل كل عائلة فيما بينها صلاة قربى وتوادد وتراحم وتعاطف، فبهذا التعاطف وحده يمتاز مجتمع الإنسان عن مجتمع الحيوان، وإلا فإن قطيع أغنام تعيش بعضها مع بعض، ولكن فرادى وكأن كل واحد منهم في صحراء.
وفي هذا النص تؤكد الزهراء فاطمة (عليها السلام) على أن صلة الرحم ينسيء الأجل ـ أي يؤخر في الموت وينمي العددـ ولكن كيف؟ هل هو أمر غيبي إلهي؟ أم أن التواصل بين الأرحام له أثر على الروح الإنسانية وشحنها بالمعنوية والحيوية أم هما معاً؟
يبدو أن الأمر يتعلق بقدر إلهي ـ وحكم غيبيـ ويكفي في أهمية ذلك قوله تعالى:«وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحامَ» (النساء آية 1).  وتعقيباً على هذا يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "إن لله أمر بصلتها ـ الأرحام ـ وعظّمها، ألا ترى أنه جعلها معه"؟!


والقصاص حقناً للدماء

ليس ثمة حكم ينفي القتل المنظم في المجتمع مثل (القصاص) ولقد جربت البشرية أشكالاً مختلفة عن العقوبة، فلم يكن ثمة أفضل من عقوبة الإعدام للقضاء على الإعدام. وكما يقول الله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ». (البقرة آية 179).
وعبثاً يحاول المشرعون أن يخترعوا عقوبة أخف وأسهل وأكثر حضارية من القصاص! وإلا فإن مزيداً من القتل سيستمر في المجتمع ولا رادع ولا مانع، والتجربة أكبر برهان.
إن كل الاعتراضات المتوهمة على شرعة القصاص من أنه تكرار لذات الجريمة! أو أنّه تكرار للجهل أو أنّه من آثار العهود الحيوانية السبعية للإنسان، أو أنّ القتل لن يتحقق إلا بسبب اختلال التوازن النفسي للقاتل، ولا يجوز قتل المريض بل علاجه!! كل هذه الأوهام تتبخر بكلمة! انظروا إلى مجتمع بلا إعدام وقيّموا فيه جرائم القتل مع مجتمع يعدم القتلة. أيهما أفضل؟ أمّا الاعتراضات فهي مجرد مغالطات دفاعاً عن (الجريمة) وليس دفاعاً عن الإنسان (البريء) الذي يتعرض للإجرام.


والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة

كم هي كثيرة زلات بني آدم؟ بعدد ساعات حياته، وغفلته عن ربّه.
ترى كيف يمكن أن يتعرض للمغفرة المستمرة؟ عبر الوفاء بالنذر ـ أي بمعاهداته مع ربهـ فالذي ينسى ويستهين بعهوده مع ربّه، ينساه الله أيضاً وكما يقول تعالى:«بما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ» (السجدة آية14).
ومن علامات المؤمن الوفاء بالنذر «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» (البقرة آية 177).
ويقول تعالى عن أهل البيت (عليهم السلام) ووفاءهم بالنذر: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» (الإنسان آية 7).


وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس

أحد مصاديق (العدل) في الإسلام، العدل في المعاملات المالية، أي الوفاء بالمكاييل والموازين، وإعطاء القيمة الحقيقية للأشياء، وعدم ممارسة السرقة الخفية عبر تنقيص المال المعطى وزيارة المال المأخوذ في المعاملة، لقول الله تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ• الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ• وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ• أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ• لِيَوْمٍ عَظِيمٍ». (المطففين آية 1-5). إن محور الأحكام الأخيرة هو الوفاء، الوفاء مع الله في النذور والعهود، والوفاء مع الناس في المعاملات المالية، فإن من وفى يوفى له، ومن خان تعرّض للخيانة، وخسر كل ما جمعه من الحيلة ولذلك كانت "الحيلة في ترك الحيلة" كما يقول الإمام علي (عليه السلام).


والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس

رأس مفاسد المجتمع الغافل عن الله، شرب الخمر، فهو سبب جميع الابتلاءات الأخرى، وهو الرجس المعنوي والمادي معاً، فكم من عائلة مدمرة بسبب الخمرة؟ وكم جريمة مروعة بسبب الخمرة؟ وكم من فساد وعهر وقتل من وراء هذا الشراب المسكر؟ يكفي قوله تعالى:« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ •إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (المائدة آية 90-91). وفي حرمة الخمر يكفي أن يعبر عنه القرآن الكريم بأنه رجس من عمل الشيطان.


واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة

يحرم قذف المحصنات بالزنا، وإلا فإن من يهتك حرمة الآخرين يتعرّض لعقوبة اللعنة الأبدية من الله، بالإضافة إلى أنه يعرض نفسه لعقوبة (التهمة المحرمة) ثمانين جلدة في ظل حكم الإسلام، ولكن لعنة الله أشدّ وأعظم.
يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (النور آية 23).


وترك السرقة إيجاباً للعفة
أي مجتمع تنتشر فيه السرقة يرحل عنه الأمن والعفاف، وينتشر في الناس (سوء الظن) وينعدم الإحسان، وترحل البركة إلى غير رجعة، ومن هنا قضى الإسلام في السارق قطع يده (طبعاً ضمن شروط معينة). وأهم ما في المجتمع العفيف الذي يجتنب السرقة ويضع أشدّ العقوبات للسارق أنه ينعم بنعمة الثقة والاطمئنان وتنعدم الخيانة فيه. ويكفي في هذه النعمة سعادة وراحة للمجتمعات البشرية. 


الهوامش:
1- نهج البلاغة، عبده، ص369.
2- وسائل أمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 
 
 المصدر: موقع 14 معصوم 
www.14masom.com
السيد عباس المدرسي 


التعليقات (0)

اترك تعليق