مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الجوانب البلاغية في خطب السيّدة زينب العلوية (ع)

الجوانب البلاغية في خطب السيّدة زينب العلوية (عليها السلام)

يوجد في تاريخ البشر عدد كبير من الرجال والنساء الذين نبغوا نبوغا في شتى الفنون والعلوم والمعارف، فطار صيتهم في العالم وكان نصيبهم من المجتمعات البشرية كل الإعجاب والتقدير والجلال لأنهم امتازوا عن غيرهم بشتى المزايا. والبيت النبوي الشريف يضم السادة والسيدات؛ هؤلاء كانوا العناوين البارزة في صحيفة الإيجاد والتكوين، وفي طليعة العظماء الذين من المستحيل أن يجود الدهر بأمثالهم.
هي السيّدة زينب الكبرى بنت علي بن أبى طالب؛ كانت سيدة نساء عصرها وأوفرهنّ ذكاء وعقلا وعفة. كانت فرع شجرة عميقة الجذور، وقد عرفت بين قومها بسمو الروح وعلو الهمة وقوة الشخصية وثبات الفكرة وصَوْبِ الرأي، قد كانت مع هذه الثروات المعنوية والأدبية فصيحة وبليغة ولقد أظهرت أنها من أكثر أهل البيت(ع) جرأة وفصاحة وبلاغةً.
نريد أن نتحدث في هذا المقال عن بلاغة خطبها الشهيرة التي ألقتها بعد يوم كربلاء في ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: حين دخلت السبايا الكوفة واستقبلهنَّ الكوفيون والكوفيات بالبكاء والعويل فارتجلت خطبة.
الموقف الثاني: حين دخلت مجلس ابن زياد في الكوفة.
الموقف الثالث: حين دخلت مجلس يزيد  في دمشق (الحسين وبطلة كربلاء: 256).
تعتبر خطب السيّدة زينب ذروةً في الفصاحة وقمة البلاغة وآية في قوة البيان وعدم الوهن والانكسار، لأنها عاصرتْ أباها خَمْساً وثلاثين سنة، من خلالها كانت قريبة إلى قلبه، وعزيزةً عليه، كان هو الأقرب إلى نفسها والأشد تأثيرا عليها... لذلك تقمصت السيّدة زينب شخصية أبيها في شجاعته ومثابرته وفي فصاحته وبيانه وانقطاعه إلى الله تعالى وعبادته، وتتلمذت على يديه، فجمعت في خطبها بين فنون البلاغة وأساليب الفصاحة، وبراعة البيان وبين معاني الحماسة وقوة الاحتجاج وحجة المعارضة والدفاع في سبيل الحرية والحق والعقيدة، ثم إنّ خطبها الشهيرة القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة. وقد احتوت النفس القوية الحساسية الشاعرة بالأخلاقية المثالية الرفيعة السامية، وسيبقي هذا الأدب الحي صارخا في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال، وفي كل ذكرى لواقعة الطف الدامية المفجعة(حياة الإمام حسين بن علي: 389).
قال أحمد خليل جمعة، في تأليفه "نساء أهل البيت في ضوء القرآن": كانت زينب بنت علي من طراز فريد من بين النساء اللواتي عشن في عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة، وصدر الدولة الأموية، فقد كانت عاقلة لبيبة، ذات رأي صائب، لا تخاف من الكلام في أصعب المواقف أمام الأمراء والخلفاء"(نساء أهل البيت: 641).
بعد أن يتحدث العلامة الشيخ جعفر النقدي عن بلاغة علي عليه السلام وبيانه، يقول عن بلاغة السيّدة زينب: "فاعلم أن هذه الفصاحة العلوية والبلاغة المرتضوية، قد ورثتها هذه المخدرة الكريمة بشهادة العرب أهل البلاغة والفصاحة أنفسهم، قد تواترت الروايات عن العلماء وأرباب الحديث بأسانيدهم.
عن حزيم ابن كثير: قال قدمت الكوفة في المحرم إحدى وستين -وكان حزيم بن كثير من فصحاء العرب- قال: نظرت إلى زينب بنت علي يومئذ فلم أرَ خفرة –والله- أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أخذته الدهشة عن براءتها وشجاعتها الأدبية حتى انه لم يتمكن أن يشبهها إلا بأبيها سيد البلغاء والفصحاء" (زينب الكبرى من المهد إلى اللحد: 48).
ومن الرواة الذين رَوَوْا خطبها كانوا ممن رأوا أمير المؤمنين وسمعوا كلامه وبعد أنِ استمعوا إلى كلام السيّدة زينب، وبالمقارنة بين الكلامين تبيّنَ لهم أن خطب السيّدة صورة طبق الأصل لكلام أبيها من ناحية الأسلوب والبيان، والمستوى وغير ذلك، لقد روى الشيخ الطبرسي في كتابه "الاحتجاج" خطبة السيّدة زينب الكبرى ورواها أيضا السيد ابن طاووس في كتابه "الملهوف"، روى صاحب "الاحتجاج" تحت عنوان: احتجاج زينب بنت علي: حين رأت يزيد يضرب ثنايا الحسين بقضيب قامت على قدميها، وأشرفت على المجلس، وشرعت في الخطبة إظهارا لكمالات محمد صلى الله عليه إعلانا بأنّا نصبر لرضي الله، لا لخوف ولا لدهشة، فقامت إليه زينب بنت علي وأمها فاطمة بنت رسول الله وقالت: الحمد لله رب العالمين والصلاة على جدي سيد المرسلين صدق الله و سبحانه (ثم كان عاقبة الذين......من عند الله) (الاحتجاج: 2|14).
وذكر الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين"، عن أبي إسحاق عن خزيمة الأسدي قال: "دخلنا الكوفة سنة إحدى وستين فصادفت منصرف علي بن الحسين بالذرية من كربلاء إلى ابن زياد بالكوفة، ورأيت نساء الكوفة يومئذ قياما يندبن متهتكات الجيوب ورأيت زينب بنت علي فلم أر والله خفرة أنطق منها...." (البيان والتبيين: 184).
وقال ابن كثير: "فقد كان للعقيلة زينب موقف سجله التاريخ بأحرف من نور عندما استقبل يزيد (الفسق والفجور) وفد الرؤوس واصفا بين يديه وممثلا بقول شاعر المشركين بعد معركة أحد ليت أشياخي ببدر شهدوا.." (البداية والنهاية: 4419).
أكثر انطباعات الإنسان تكون من أثر التربية كما أن أعماله وأفعاله حتى حركاته وسكناته وتصرفاته وأخلاقه وصفاته تابعة لنوعية التربية التى أثرت فى نفسه كل الأثر، فالسيّدة تلقت دروس التربية العليا في حضن النبوة ودرجت في بيت الرسالة وتغذت بغذاء الكرامة من كف ابن عم الرسول، نشأت نشأة قدسية وتَربّت التربية الروحانية متجلبةً جلابيبَ الجلال والعظمة مرتديةً رداءَ العفافِ فالخمسة أصحاب العباء هم الذين قاموا بتربيتها وكفاك بتربيتها وكفاك بهم مؤدبين ومعلمين، والروابط القلبية بين والدها وأخويها ثابتة، وَهُمْ فصحاء العرب وأعمدَتُها.
قيل لعلي بن أبي طالب عليه السلام: كم بين الشرق والغرب؟ فقال مسيرة يوم للشمس. قيل له كم بين السماء والأرض؟ فقال مسيرة ساعة لدعوة مستجابة (العقد الفريد: 1288).
وقيل أعطى الإمام الحسن بن علي سائلاً مالاً كثيرا، فقال أحد جلسائه: لا خير في الإسراف "فأجاب: لا إسراف في الخير".
لقيت السيّدة زينب من جدها وأبيها وأخويها كل عطف ومحبة وحكمةٍ، وتلقب عقيلة بني هاشم كما تلقب بالعالمة غير المعلمة. فهي بحق من فضليات النساء وفضلها أكثر من أن يذكر وأبين من أن يُكتب ويُسطّر. وخطبها تدل على جلالة شأنها وعلو مكانها وقوة حجّتها وفصاحة لسانها وبلاغة مقالها، كما تفيض بأسرار البلاغةِ أعلاها وأحسَنَها وأتمَّها، وَتتبلورُ فيها صور البيانِ المُبدعِ في الأدب الرائع.

شرح خطبها وتبيان بلاغتها:

تعريف البلاغة: معرفة الوصول من الفصل، وقيل إيجاز الكلام وحذف الفصول وتقريب البعيد، البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدلالة وكل منهما له حظ من البلاغة و البيان وموضع لا يجوز فيه غيره (العقد الفريد: 1284).

نجد الجوانب البلاغية في خطبها فيما يلي:
1- التشبيه:
التشبيه بيان أن شيئاً أو أشياء شاركت غيرها في صفة أو أ كثر بأداة هي الكاف أو نحوها ملفوظة أو ملحوظةً (مختصر العاني: 136). قالت في خطبتها تخاطب أهل الكوفة: إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أَيْمانَكُمْ دخلا بينكم. هذا التشبيه المستقى من القرآن الكريم ويا له من مستوى رفيع في البلاغة والأدب الراقي كما قال الله تعالى في القرآن الكريم «وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (النحل: 92).
2- الاستعارة:
الاستعارة من المجاز اللغوي، وهي تشبيه حُذف أحد طرفيه فعلاقتها المشابهة دائما (مختصر المعاني:  180). قالت السيدة في الخطبة التي ألقتها بالكوفة: (ملاذ حريمكم، ومقر سلمكم، وآسى كلمكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم..)(1)
كانت للسيدة زينب تاريخ وذكريات فقد كانت سيدة الكوفة أيام خلافة أبيها، فلا بد أن تستعيد في نفسها صورة تلك الأيام وأن تتصور في قلبها ومخيّلتها الذكريات، ثم زادت السيّدة من درجة توبيخ الناس محاولةً منها لإيقاظ تلك الضمائر ولتعلن لهم أنهم سوف لا يصلون إلى أي هدف تحركوا من أجله بالرغم ممّا قاموا بِهِ من الجريمةِ النكراء بقتل الإمام الحسين(ع) لقد جعله الله مصباحَ هُدىً وملاذاً ومفزعاً ومداراً ومدرةً لهم، ولكن الناس تجمعوا عليه و كسروا ذلك المصباح ففي الظلام تقع حوادث السرقة وجرائم القتل والاغتصاب والسقوط في الحفائر وغير ذلك.
3- الكناية:
الكناية لفظ أطلق وأريد به لازم معناها مع جواز إرادة ذلك المعنى (مختصر المعاني: 182). قالت السيدة: (لقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة)(2).
4- الإيجاز:
جمع المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل مع الإبانة والإفصاح (مختصر المعاني: 118)، وهو نوعان:
- إيجاز قصر: يكون بتضمين العبارات القصيرة معاني كثيرةً من غير حذف، قالت السيدة: (فتعسا ونكسا)، أي تعستم تعسا ونكستم نكسا. في المعنى هلاكا، أي ألزمه الله إهلاكا وفرقاً أو تعساً أي وقع عليه بلاء وأهلكه وأفناه وخرَّبه.
- إيجاز حذف: يكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تعيِّن المحذوف. قالت: (فمهلا مهلا)، أي مهلتم مهلا، يقال للمتفرد برأيه وللمسرع في مشيه مهلا أي أمهل ولا تسرع ليس الأمر كما ترى وتعتقد أو كما تظن وليس الإسراع في العمل صحيحا منك فلا تعجل حتى تتبيّنَ لك الحقيقةُ.

5- السجع:
توافق الفاصلتين في الحرف الأخير أفضله ما تساوت فقره (مختصر المعاني: 202).
للسجع ثلاثة أقسام:
- السجع المتوازي: قالت: ألا إنه نتيجة الكفر وغضب يجرّ جرّاً في الصدر لقتلى يوم بدر.
جرجر البعير: إذا ردَّد صوته في حنجرته، أي وحقد يتأجج في الصدر.
كان يزيد يطالب للأخذ بثارات المقتولىن في غزوة بدر، وهم أقطاب المشركين الذين كانوا قد خرجوا من مكة لمحاربة رسول الله وقتال المسلمين، وهم المشركون الذين تَمنّى يزيد حضورهم بقوله:
ليت أشياخي ببدر شهدوا .... جزع الخزرج من وقع الأسَل
لأهلوا واستهلوا فرحا ... ولقالوا: يا يزيد:لا تُشَلْ (مقتل الحسين لابن مخنف: 226).
وهم عتبة بن ربيعة وشيبة والوليد بن شيبة. إن جميع ما قام به يزيد مِنْ قتله الإمام الحسين نتيجة طبيعية للكفر المكشوف والحقد الدفين في قلبه، فلم يكن يوجد في قلبه مقدار ذرة من الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة، بل إنه اتخذ منصب خلافة رسول الله الكريم وسيلة لسلطته على الناس وانهماكه في الشهوات ومحاربته للدين وعظماء الدين.
- السجع المتوازن: قالت السيدة ليزيد: «وقد هتكتَ ستورهنَّ وأبديتَ وجوهَهُنَّ».
خاطبت السيّدة زينب بقولها أن جعلت جواريك والنساء الحرائر والساكنات في قصرك وراء الخدر، وتسوق بنات الرسالة وعقائل النبوة سبايا فَبَعدَ أَنْ كُنَّ محجّباتٍ وإذا الأعداء قد سلبوهنَّ ما كنَّ يسترن بهن وجوههنَّ.. من البراقع والمقانع.
6- حسن المطلع وحسن الختام:
بدأت كل خطبتها بحمد لله رب العالمين وانتهت على حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنّهُ رحيم  ودود، وإنَّ ربَّكُم لَبِالمِرصادِ.
7- الدعاء:
الدعاء علاقة التضرع والخشوع. دعت السيدة: اللهم خذ بحقنا وانتقم ممّن ظالمنا.... وهتك عنا سدولنا، لم يكن للمؤمن مفزع إلاّ التضرع إلى الله والدعاء له في كشف الضر عنه، والاستغاثة لطلب المعونة والانتصار، معتقدا أنه لم يكن النصر إلا من قبل الله.
8- تجاهل العارف:
قالت السيدة لأهل الكوفة: (هل فيكم إلاّ الصلف والعجب والشنف والكذب)؟، وخاطبت يزيد: (أمن العدل يا بن الطلقاء... وسوقك بنات رسول الله سبايا؟ أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي كريمة له أبرزتم)؟.
أمن العدل يا بن الطلقاء؟ هذه كلمة إشارة إلى ما حدث يوم فتح مكة، فإنَّ الرسول لما فتح مكة وصارت تحت سلطته كان بإمكانه أن يقتلهم وقد صدرت منهم مواقف عدائيّة وحروب طاحنة ضد النبي الكريم وضد المسلمين، لكنه رغم ذلك التفت إليهم وقال لهم: يا معاشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟
قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، وكان فيهم معاوية وأبو سفيان. ويزيد هو ابن معاوية حفيد أبو سفيان ويطلق عليه ابن الطلقاء، وقد يستعمل ضمير الجمع في مورد التثنية، أما معنى كلمة "يا بن الطلقاء" قال طلقاء جمع طليق هو الأسير الذي أطلق من إساره وخلي سبيله، والظاهر أنَّ السيّدة زينب تقصد من كلمة يا بن الطلقاء أن تذكر يزيد بأنه ابن الطلقاء، ابن الطليقين الذين أطلقهما رسول الله مع أهل مكة كأنهم عبيد، فتكون الجملة تذكيرا له بسوء المخزية وملف أجداده، والاحتمال أن تقصد تذكير يزيد بالإحسان الذي بذله رسول الله لأسلاف يزيد حيث أطلقهم فقالت: "أمن العدل"؟ أي هل هذا جزاء إحسان رسول الله مع أسلافك؟ من الواضح أنها لا تقصد من كلامها هذا الاستفهام والسؤال بل تقصد توبيخ يزيد على معاملته وسلوكه القبيح وتنكر عليه تعامله السيء و تعلن له أنه بعيد عن أوليات الفطرة البشرية، وهي جزاء الإحسان بالإحسان.
9- الإنتباه والتأكيد:
النتيجة تدل على تحقيق ما بعدها وتدخل على جملتين (مختصر المعاني: 201)، كقوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ» (البقرة: 13)، وتستخدم للتوبيخ والإنكار (شرح شواهد المغني: 1212، مغني الأديب في شرح مغني اللبيب: 134). قالت السيّدة: ألا إنَّها نتيجة إحلال الكفر، (ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان).
10- الإقتباس:
تضمين الشعر أو النثر أو شيءٍ من القرآنِ الكريم أو الحديث الشريف من غير دلالة على أنه منهما(العقد الفريد: 221). قالت السيّدة في خطبتها مخاطبةً أهلَ الكوفة: (أيْ والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا)، مقتبس منَ القرآن الكريم: (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) سورة التوبة- سورة 9/82
وقالت في نفس الخطبة: "لقد خاب السعي وتبت الأيدي"، و"إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم".
11- التلميح:
فهو أن يشار في الكلام إلى قصة أو شعر أو مثل (مختصر المعاني: 222). لقد بدأتِ السيّدة خُطبتها في الشام: الحمد لله رب العالمين والصلاة على جدِّي سيد المرسلين. صدق الله وسبحانه كذلك يقول «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون» (سورة الروم: 10)، وقالت لا يستفزنك القرح بقتلهم «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون» (سورة آل عمران: 169- 170). وقالت: (وبؤتم بغضب من الله)، كما قال الله تعالى: «وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ» (سورة البقرة: 61).
قالت في خطبتها في الشام: (لعمري لقد نكأتَ القرحة واستأصلت الشافة بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة، وابن يعسوب الدين وشمس آل عبد المطلب)(3).
12- الطباق:
المقصود منه هو المعاني والألفاظ توابع وقوالب، كقوله تعالى: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ» (سورة الكهف: 18)، أو في فعلين (يحيي ويميت) (مختصر المعاني: 187).
قالت السيّدة ليزيد: "لعمري لقد ناديتهم لو شهدوك، ووشيكا تشهدهم ولن يشهدوك"(4).  
13- التضاد:
هو جمع معنيين متضادَّين، كقوله تعالى: «فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ» (سورة المائدة: 44)، قالت السيّدة: (يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والشّريف والوضيع والدّني والرفيع).(5) 
14- الإنشاء الطلبي:
طلب الفعل على وجه الاستعلاء. هو انزياحُ صيغ الأمر عن معناها الأصلي إلى معان أخرى تستفاد من سياق الكلام كالتسوية والتعجيز والتهديد والإباحة. والأمر والاستفهام والنداء (مختصر المعاني: 90-91).
خاطبت السيّدة يزيد: (كيف يرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء)؟ أي: كيف ومتى يتوقع الخوف من الله تعالى ابنُ مَن رمت من فمها أكباد الشهداء والأبرياء، إشارةً إلى مقتل سيّدنا حمزة سيد الشهداء وعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة أحد، حينما جاءت "هند" جدة يزيد وشقّت بطن سيدنا حمزة وأخرجت كبده ووضعته في فمها وعضّته بأسنانها وحاولت أن تأكله بسبب الحقد المتأجّج في صدرها فلفظته ورمته من فمه، فاكتسبت بذلك لقب "آكلة الأكباد".
15- الأمر:
وقالت: (فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحُ ذكرنا ولا تُمتْ وحينا ولا تدرك أمدَنا ولا تُدحض عنك عارها). الكيد: إرادة مضرة الغير خفية، والحيلة السيئة والخدعة والمكر (المعجم الوسيط)، وهذا الكلام يطغى عليه طابع التهديد الشديد من السيدة ولكنها واثقة أن جميع نشاطات يزيد والفصول اللاحقة من مخططاته سوف تفشل وقدرته تذهب، فالسيّدة تريد أن تقول ليزيد افعل ما شئت واصنع ما بدا لك من تخطيط وتفكير، مهما بذلت من الجهود فسوف تفشل في ذلك، ثم أنّ العار والخزي وسبة التاريخ تكون لازمة ليزيد إلى الأبد لا يتمكن من غسلها لا هو ولا من سيأتي بعده.
16- الاستفهام:
قالت: (وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد؟!).(6)
17- النفي:
صورة لإنكار الفعل قد يكون للتوبيخ أو التكذيب أو التهكم (مختصر المعاني: 91). قالت السيدة: (لم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت)، أي اكتسبت هذه السيئة الكبيرة فدفعت بك أسفل السافلين حيث يستقرُّ أفراد معينون من الجناة الذين جروا الويلات للبشرية جمعاء في كل الأجيال والبلاد والشعوب، وأسّسوا الأسس ومهدوا الطرق لمن يأتي بعدهم من الطغاة والخونة ليقوموا بكل جريمة بجرأة دون حياء.
18- النداء:
قالت لأهل الكوفة: (يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر). الختل: الغدر، الخدعة من غفلة (المعجم الوسيط)، وفي نسخة "الختر" وهو شبه الغدر (كتاب العين)، ولكنه أقبح أنواع الغدر (القاموس، فيروز آبادي)، إذ نادت السيّدة لأهل الكوفة يا "أهل الختر" أو "الختل.. لقد كانت هذه الكلمات أشدّ الأثر في نفوس أهل الكوفة فإنها قد أوجدت فيهم اليقظة والوعي بصورة عجيبة، وكانت من نتائج محنها أنْ شعور التأنيب بدأ يأخذ بضمائرهم وأن وجدانهم صار يُوبخهم على جرائمهم العظيمة، حيث ذكَّرتهم كلمات السيّدة بتاريخهم الأسود حيث صدر منهم الغدر مرات عديدة،  منها:
1- في يوم صفين عند تحكيم الحكمين، غدر أهل الكوفة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع).
2- حينما قتل الأمام علي(ع)، حيث تهافت أهل الكوفة على مبايعة ابنه الإمام الحسن(ع)، وعندما خرج معاوية لحرب الإمام الحسن(ع) خذله أهل الكوفة.
3- بعد وفاة معاوية أرسل أهل الكوفة اثنى عشر ألف رسالة إلى الإمام الحسين(ع) يطلبون منه التوجُّه إلى العراق، فبعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل الذي قبض عليه ثَمّ قُتل حيث شدوا حبلا برِجلِ مسلم وجعلوا يسحبون جثمانه في أسواق الكوفة.
4- حينما لبّى الإمام الحسين(ع) وخرج أهل الكوفة مع عائلته، فقتلوا من كان مع الإمام، وأخيرا قتلوه عطشانا، وأسروا عائلته ورفعوا الرؤوس على الرماح وجاؤوا بها من كربلاء إلى الكوفة، هذا هو الملف الأسود المليء بالغدر والخيانة (زينب الكبرى من المهد إلى اللحد: 223).
19- حسن الابتداء والتخلص:
ينبغي للمتكلم أن يتألق قي ثلاثة مواضع من كلامه حتى يكون كلامه بليغا وأعذب لفظا، وأحسن سبكا وأوضح معنى، بأن يسلم من التناقض والابتذال ومن مخالفة العرف ونحو ذلك (مختصر المعاني: 224). إنها النقاط البلاغية البديعية التي لم يسبقها مهرة البلغاء إليها لأن السيدة زينب ارتضعت درّ "الصديقة الكبرى" التي أخرست الفصحاء بخطابها المرتجل، وكسرت شوكة الأمراء بلهجةٍ أشد وأقوى، كانت تتكلم بصوت شجيٍّ، وكل كلمة منها تلهب أحاسيس الحزن والأسى والندم في الناس، وصار كل احتمال للتمرد والانتفاضة واردا فكيف يتصرفون؟ وماذا يصنعون؟ حتى يقطعوا على السيّدة خطابها ويصرفوا أذهان الناس إلى شيء آخر (زينب الكبرى من المهد إلى اللحد: 250)، وهنا ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة، وهي أن الأدلة العقلية والاستدلالات المنطقية في مجال دعوة الناس إلى الالتزام بالدين – تقوم بدور الامتناع فقط لكن لا بد لذلك من عامل يجذب الناس نحو الاستماع إلى هذه الأدلة، وأقوى عوامل الجذب هو: العامل العاطفي وهو متوفر ويعد بندا من بنود هذه الفاجعة، إن الخطب تحمل في طياتها كلام صدق واستدلالاً منطقياً وعقلياً مقنعاً وتهديداً مرعباً، جعلت يزيد ينهار رغم ما كان يشعر به جبروت وكبرياء.
20- المقابلة:
من المحسنات المعنوية، وهي أن يؤتى بمعنيين متوافقين ثم يؤتى بما يقابلهما على الترتيب كقوله تعالى «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» (سورة الفتح:29) (مختصر المعاني 188)، قالت السيّدة في خطبتها [...] بدمشق مستشهدة بالقرآن الكريم: «فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ» (سورة التوبة: 82)، فقد أتى سبحانه بالضحك والقلة المتوافقين ثم بالبكاء والكثرة المقابلين لهما.. والمعنى فليضحك هؤلاء المنافقين قليلا لأن الضحك لو استمر فإنه ينتهي بفناء الدنيا، وهو قليل لدى المقايسة مع بكائهم الدائم في يوم القيامة، لأن ذلك: «في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (سورة المعارج: 4) وهم يبكون فيه كثيرا.. وهذا تهديد وإنذار من السيّدة زينب لأهل الكوفة وليس أمرا لهم بالضحك، بل التقليل من الضحك، -تهديد ضمني- أن لا مبرر لضحك وفرح يتعقبه بكاء طويل وعذاب مستمر.
21- تأكيد الذم بما يشبه المدح:
أن يثبت لشيء صفة ذم ثم يؤتى بعدها بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى (مختصر المعاني: 202). قالت ليزيد: (الحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة وختم لأصفيائه بالشهادة ببلوغ الإرادة ونقلهم إلى الرحمة والرأفة والرضوان والمغفرة ولم يشق بهم غيرك ولا ابتلى بهم سواك)، وحكم لأوليائه: قضى لهم، قدر لهم ( المعجم الوسيط). وأصفياؤه: الصفي من كل شيء صفوه، و جمعه أصفياء، بقلب مليء بالإيمان بالله تعالى، والرضا بما اختاره الله لعباده، وتقصد السيّدة من الأولياء هنا -الإمام الحسين- الذي هو سيد الأولياء وأصحابه الذين قتلوا معه و-نالوا- بذلك شرف الشهادة، فالذي يلتزم بالدين يفيضُ الله عليه الألطاف الخاصة التي لا تشمل غيره من الناس ومن أبرز تلك الألطاف الخاصة: السعادة الأبدية، كقوله تعالى «وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (سورة البقرة: 105).
إنَّ أولياءَه كانوا يفكرون في جلب رضا الله، وعلى هذا الأساس يقضي الله لهم بالفوز والتفوق والسعادة الأبدية، وأحيانا يقدر الله تعالى لهم بعض المكاره والصعوبات، وتلك الأسرار والحكم يعلمها الله سبحانه، فترى الأولياء يحملون في أنفسهم كلَّ استعداد لتحمُّل وتقبُّل تلك المكاره، فيستقبلونها بقلب واسع وصبر جميل، وختم الله لأصفيائه بالشهادة، فقد كانت حياتهم كلها خيرا وبركة منذ البداية إلى النهاية، فمن المؤسف حقا أن يموت الولي ميتة طبيعية على الفراش، بل المتوقع له أن يوفقه الله تعالى للشهادة والقتل في سبيله، فاستشهادهم يوقظ الغافلين غير الملتزمين بالدين يفكرون ويبحثون عن هوية القاتل وهدفه من قتل هذا الرجل. قالت نقلهم إلى الرحمة والرأفة والرضوان والمغفرة، والمعنى نقلهم إلى عالم يرفرف على رؤوسهم رحمة الله الواسعة المخصصة للشهداء في سبيل الله تعالى. وقالت لم يشق بهم غيرك، إن الذي صار شقيا وتعيسا ومطرودا من رحمة الله هو أنت يا يزيد بسبب قتلك إياهم وطعنتك في قلب الإسلام النابض وهو الإمام الحسين. إن الذي امتحن بالقدرة والسلطة وبمشاهدة كرسي الملك الذي مهد لك فأراد القضاء على كل من لا يركع له، وبذلك سقط في الامتحان سقوطا ذريعا، هو أنت أيها الخامل الحاقد فسوف يكون مصيرك في أسفل درك من الجحيم (زينب الكبرى من المهد إلى اللحد: 348).

خاتمة:
تعتبر خطبة حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أروع الخطب أثرا في الإسلام، وهي من متممات النهضة الحسينية الخالدة، فقد دمرت في يزيد بن معاوية جبروت الطاغية وألحقت به الهزيمة والعار، وعرّفته أن دعاة الحق لا تنحني جباههم أمام الطغاة والظالمين. روي عن باقر شريف القرشي نقلا عن السياسة الحسينية، حيث يقول كاشف الغطاء" أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثل أن  يمثل حال يزيد وشموخه بأنفه وزهوه بعطفه وسروره وجذله باتساق الأمور، وانتظام الملك ولذة الفتح والظفر والتشفي والانتقام بأحسن من ذلك التمثيل والتصوير، وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجة والبيان والتقريع والتأنيب ويبلغ ما بلغته -سلام الله عليها- بتلك الحال الذي عرفت؟ ثم لم تقتنع منه بذلك حتى أرادت أن تمثل وللحاضرين عنده ذلّة الباطل وعزة الحق وعدم الاكتراث والمبالاة بالقوة والسلطة والهيبة والرهبة، وأرادت أن تعرّفه خسّة قدره، ودناءة مقداره وشناعة فعله، ولؤم فرعه وأصله (الإمام الحسين: 389).
كان خطاب العقيلة كالصاعقة على رأس يزيد، أفقده غرورهُ وحطّم كبرياءَهُ، وأحدث موجة عاصفة في مجلسه، وأشاعت في نفوس الجالسين مشاعر الحزن والأسى والتذمّر وحار يزيد في الجواب، فلم يستطع أن يقول شيئاً إلاّ أنه تمثل بقول شاعر:
يا صيحة تحمد من صوائح... ما أهون النوح على النوائح
ولم تكن أية مناسبة بين ذلك الخطاب العظيم الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد وجردته من جميع القيم الإنسانية، وبين ما تمثل به من الشعر الذي أعلن فيه أن الصيحة  تحمد من الصوائح، وأن النوح يهون على النائحات فأي ربط موضوعي بين الأمرين (الإمام الحسين: 390). لقد أنزلت السيدة الطاغية من عرشه إلى قبره وراح يقول ابن مرجانة، أمير الكوفة: هذه سجّاعة، لعمري كان أبوها شاعرا سجّاعا (وقع في تاريخ الطبري: هذه شجاعة ...شجاعا) ( تاريخ الطبري: 6293)،  فردت عليه السيدة: إن لي عن السجاعة لشغلا، ما للمرأة والسجاعة؟! (خاتون دوسرا:160 تظلم الزهراء 252، الإرشاد 243، الملهوف 201، بحار الأنوار 45118).
 شبيهة فاطمة الملتاني
باحثة دكتوراه في جامعة بهاء الدين زكريا في ملتان بباكستان


الهوامش:

(1) الملاذ: الملجأ، الحصن الأمن. الذي يلجأ إليه في المحن والشدائد والبلاء. حريمكم: حريم: ذوو الحرمة ما لا يحل انتهاكه. مفزع نازلتكم: المفزع: من يفزع إليه ويلتجأ إليه. النازلة: المصيبة الشديدة. الشديدة من شدائد الدهر. منار حجتكم: المنار محل إشعاع النور. الحجة: الدليل. المنار: المقام المخصوصُ لإيقاد النار فيه ليلا، كان الرجل الكريم يشعل النار على سطح الدار ليعلن للناس أن ههنا محلا للضيافة فيهدى بنور تلك النار التّائهون أو الضالون الطريق أو المسافرون يبحثون عن المأوى، يلجأون إليه حتى يحين الصباح. مدرة سنتكم: مدرة الحاكم الرئيس. سنة: عام القحط. أي الحاكم الذي يطعم الناس في أيام القحط.
(2) خاب السعي: لم ينل ما طلب أو انقطع رجاؤه. أي أنكم آثرتم سلطة يزيد على بيعة الإمام الحسين وذهبتم إلى حربه لتحافظوا على كرسي يزيد ولكن سعيكم هذا خاب وخسر وهو دمار وخُسرانٌ. وتبّت الأيدي: التب: الخسران والهلاك، قيل القطع والبتر، وهنا أدمجت السيّدة كلامها بالقرآن الكريم واستلهمت منه «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» (سورة المسد: 1). والمعنى أنّ لا كرامة ولا  أمان ولا مستقبل زاهراً لأهل الكوفة. وخسرت الصفقة: الصفقة معاملة البيع خاصة أو أي معاملة أخرى، و المعنى أنكم يا أهل الكوفة بعتم معاملة الدين والآخرة في قبال الدنيا فمن الفشل والجنون أن يبيع أحد في قبال الإهانة والتحقير وعذاب مستمر بثمنٍ هو قتلُ ابنِ رسولِ الله، وفي صورة واقع  هو يدَّعي فيه أنه مسلم من المسلمين.
(3) نكأ القرحة: قشرها بعد ما كادت تبرأ، واستأصلت الشافة: أي أزالها من أصلها (النهاية: 2/437)، بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة وابن يعسوب الدين، وشمس آل عبد المطلب، فلم يكن الإمام الحسين رجلا مجهولا خامل الذكر وغير معروف عند الناس بل كان مشهورا عند جميع المسلمين بكل ما للعظمة والجلالة والقداسة من معان، وأحاديث رسول الله في مدحه والثناءِ عليه وفي مكانته ومنزلته كانت أشهر من الشمس في رابعة النهار، كقوله صلى الله عليه و آله وسلم "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".
وابن يعسوب الدين: يعسوب: النحلة التي يعبر عنها بـ "الملكة: في مملكة النحل، وقد لقب رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بلقب يعسوب الدين وشبه أتباعه بالنحل الذي يعيش في ظل تلك المملكة ويتبع ذلك اليعسوب، فقد استمرت السيّدة زينب تذكر سلسلة من جوانب العظمة في أخيها لِتُبيِّنَ للناس مكانته وقالت كان ابن يعسوب الدين، ثم عبرت عن الإمام الحسين بـ "شمس آل عبد المطلب"، ويا لهذا التعبير من بلاغة راقية، وتشبيه جميل، فإن الإمام الحسين كان هو الوجه المشرق الوضاء، الواجهة المتلألئة لآل عبد المطلب بن هاشم، وسبب الفخر والاعتزاز بهم، وكانوا المجموعة أو العشيرة الطيبة لقبيلة قريش، وقريش كانوا أشرف قبائل العرب (زينب الكبرى من المهد إلى اللحد: 321).
(4) قالت: لو شهدوك -لو- قال ابن مالك ما معناه – لو: حرف يقتضى في الماضي امتناع ما يليه ويتلزمه لتاليه (مغنى اللبي:  342). وشيكا: أي سريعا أو قريبا، بناء على هذا يكون كلام السيّدة لقد تمنيت يا يزيد: لو كان أسلافك حاضرين كي يشهدوك ويشهدوا أنّكَ أخذت لثارهم، ولكن هذه الأمنيات لا تتحقق لك فأسلافك موتى، ومن المستحيل أن يعودوا الآن ويشهدوا ما قمت به من الجرائم، وليقولوا لك "سلمت يداك" سوف تموت قريبا عاجلا، لأن ملكك يزول سريعا ولا تطول أيام حياتك وتنتقل إلى عالم الآخرة إلى جهنّم، لكنّهم لا يرونك، أي لا تجتمع معهم في مكان واحد، لأنّك ستكون في درجة أسفل في طبقات نار جهنم لأنّ جرائمك الموبقة تستوجب العذاب الأشدّ.
(5) يتصفّح أي يتأمل وجوههنّ لينظر إلى ملامحهنّ الشريف والوضيع والدنيّ والرفيع، والحال ليس معهن من رجالهن وليٌّ ولا من حماتهنَّ حميٌّ، عائلة محترمة وليس معهن من رجالهن أحد يشرف على شؤونهن ويحرسهنَّ من الأشرار والأخطار، كل هذه الجرائم التي صدرت منك وبأمرك كانت "عتوّاً منك على الله".
(6) فالفند: هو الكذب (تاج العروس للزبيدي و كتاب العين، للخليل بن أحمد)، والعدد هو الكمية المتألفة من الوحدات فيختصّ بالمتعدد في ذاته، وعدد: للتقليل، أي معدود، وهو نقيض الكثرة (تاج العروس)، وبدد: يقال: بدّه بدّ أي فرّقه والتبدّد: التفرّق (المعجم الوسيط). والمعنى في محاولتك للتخلص من مضاعفات جريمتك خطأ، والأيام الباقية من عمرك قليلة، أنت قريب من الموت والهلاك، وسوف يتفرق جمعك وتتغبر نظرة حاشيتك بالنسبة إليك وستظهر الأسباب التي تجعل كل يوم من الأيام يحمل لك همّا وحزناً جديداً.



المصدر: دائرة المعارف الحسينية- المركز الحسيني للدراسات.

التعليقات (0)

اترك تعليق