شخصية السيدة زينب عليها السلام في بعدها النفسي والاجتماعي (مرحلة النضج والتكامل)
مرحلة النضج والتكامل النفسي:
في هذه المرحلة برزت السيدة زينب عليها السلام كشخصية متكاملة تتصف بالتماسك والوضوح. نحن هنا بصدد شخصية راشدة قادرة على توظيف طاقاتها بكفاءة في البناء المنتج، بدلاً من الوقوع في الأسى واليأس أثر الأحداث المتكررة التي رافقت تجربتها الوجودية الحياتية على امتداد خمسة عقود، من ضياع الحقوق التي كان يتعرض لها والدها عليه السلام، إلى تجربة أخيها الحسن عليه السلام مع معاوية بن أبي سفيان، إلى تجربة أخيها الحسين عليه السلام مع بداية خلافة يزيد بن معاوية حتى استشهاده في واقعة كربلاء. هذه الأحداث أبرزت مدى الفاعلية والاقتدار، ومستوى المرونة المتمثلة بالقدرة على إيجاد البدائل والتكيف الإيجابي أمام الضغوطات أو تحمل الإحباط. فالمرونة، كما يشير حجازي، "ذات قيمة تكيفية كبرى، سواء في التعامل مع الحاجات النفسية وإشباعها أم في التفاعلات مع الآخرين. كما أنها تأتي في أساس القدرة على الإبداع والخروج على المألوف في أنماط التفكير، من خلال إقامة روابط جديدة بين المعطيات، أو القدرة على تغيير المنظور"(1).
هذه المرونة والفاعلية في التواصل الاجتماعي الايجابي، أو ما يعرف بالكفاءة الاجتماعية، هما نتاج النضج النفسي الذي ميّز شخصية السيدة زينب عليها السلام بمستوى عالٍ من الذكاء الانفعالي. وفي مقاربة مع ما قدّمه "دانيال جولمان" (1997) حول مفهوم الذكاء الانفعالي الذي حدّده في خمس مقومات:
1- "الوعي الذاتي المتمثل في التعرف على الانفعالات الذاتية، وحسن توجيهها لحظة بلحظة، والتعرف على المشاعر والميول الوجدانية الفعلية في القضايا الحياتية الكبرى.
2- إدارة الحياة الانفعالية في حالات الشدائد والضغوط والقلق.
3- تنشيط الدافعية الذاتية الذي يتمثل في توجيه الانفعالات نحو أهداف ذات أهمية للمرء، مع القدرة على الضبط الذاتي للانفعالات، بغية الوصول إلى درجة جيدة من الإنتاجية والأداء الابتكاري.
4- التعرف على انفعالات الآخرين الذي يتضمّن القدرة على التعاطف والفهم والحساسية لمؤشر مشاعر الآخرين وانفعالاتهم.
5- فاعلية توجيه العلاقات مع الآخرين من مثل حالات القيادة. والعشرة والتفاعل البنّاء"(2).
تلك المقومات بمجموعها برزت في شخصية السيدة زينب عليها السلام، خلال تجربتها الوجودية، وإن كانت أكثر بروزاً خلال وبعد وقعة كربلاء، حيث أثبتت مقدرة هائلة في إدارة حياتها الانفعالية في حالات الشدائد والضغوط والقلق مع القدرة على الضبط الذاتي لتلك الانفعالات من جهة، والتعاطف مع انفعالات الآخرين من جهة ثانية.
ويمكن القول إن تلك الخصائص برزت من لحظة اتخاذها قرار الخروج من المدينة برفقة أخيها الإمام الحسين عليه السلام. هذا القرار جاء نتيجة الوعي الذاتي المتمثّل في مقدرتها على حسن توجيه الانفعالات الذاتية لديها، وتحديد الميول الوجدانية الفعلية في القضايا الحياتية الكبرى. يذكر الرواة أنّه حينما تقدّم عبد الله بن جعفر لخطبة السيدة زينب عليها السلام، وافق والدها على تزويجها له ولكن بشرطين يتضمنها العقد: الأول أن يأذن عبد الله بن جعفر للسيدة زينب بزيارة أخيها الحسين كل يوم. والثاني أن لا يمانع من مرافقتها للحسين في سفره إذا طلب الحسين ذلك(3). كما أن هذا القرار هو ترجمة لمستوى الإيمان العميق بالقضية التي رفع شعارها الإمام الحسين عليه السلام، والتي حدّدها حين خروجه في المدينة "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله، [أريد أن] آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي صلى الله عليه وآله وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام"(4).
لقد أخذت السيدة زينب عليها السلام قرار الخروج مع أخيها الإمام الحسين عليه السلام، وهي تعلم، استناداً لما كانت تسمعه من جدّها النبي صلى الله عليه وآله ووالدتها فاطمة الزهراء عليها السلام ووالدها الإمام علي عليه السلام، الخطوط العامة للأحداث الآتية، وما سيتعرض له أخوها الإمام الحسين عليه السلام من المصائب والمحن(5). هذا البناء المعرفي أكسب السيدة زينب عليها السلام وعياً أصيلاً، ورؤية أوضح في تحديد خياراتها. أعطاها زخماً وإصراراً قوياً للوقوف مع أخيها الحسين عليه السلام. ولا شكّ في أنّ الخبرات التي مرت بها، عبر العقود السابقة على وقعة كربلاء، أنتجت تطوراً في وعيها ومواقفها، وفي طريقة نظرتها إلى الأمور المحيطة بها.
لقد أظهرت السيدة زينب عليها السلام خلال مسيرتها الحياتية، قدرة عالية على إقامة علاقات إيجابية ومستقرة مع الآخرين، من خلال بناء مشروع أسري تمثّل في الرعاية والحدب والعطاء، ومن خلال التواصل مع محيطها الاجتماعي. فقد ذكر ابن الأثير: "زينب بنت علي عاقلة لبيبة جزلة، وكلامها ليزيد بن معاوية، حين طلب الشامي أختها فاطمة، مشهور يدلّ على عقل وقوة جنان"(6). وذكر عباس علي في الطراز المذهب: "لمراتب السيدة زينب شؤونات باطنية ومقامات معنوية، هي شبيهة بآسية ومريم وسارة، عالمة غير معلمة، فهيمة غير مفهّمة،عارفة عالمة محدثة، ابنة العصمة، ربيبة البتول، كما قيل فيها: وإنّ فضائلها وفواضلها وخصالها وجلالها وعلمها وعملها وعصمتها وعفتها ونورها وضياءها وشرفها وبهاءها، تالية أمها صلوات الله عليها في مراتب الفصاحة والبلاغة..."(7).
ويشير الهاشمي إلى قول حسن قاسم: "السيدة الطاهرة الزكية بنت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ابن عم الرسول وشقيقة ريحانتيه، بها أشرف نسب وأجل حسب. وأكمل نفس وأطهر قلب، فكأنّها صيغت في قالب ضمّخ بعطر الفضائل. فالمستجلي آثارها يتمثّل أمام عينيه رمز الحق، رمز الفضيلة، رمز الشجاعة. ومن المروءة فصاحة اللسان وقوة الجنان. مثال الزهد والورع. مثال العفاف والشهامة. إنّ في ذلك لعبرة"(8). ويقول كامل البنا: "زينب بنت فاطمة الزهراء.. كانت فصيحة أريبة، عاقلة أديبة، ذربة اللسان، حاضرة البديهة، لها قوة جنان، ما فوجئت بأمر إلاّ ردّت عليه. ولقد كان أخوها الحسين يحبها حبّاً شديداً ولا يفارقها في سفر ولا في إقامة، وكان يستشيرها دائماً في جميع أموره، ويحترم رأيها ومشورتها"(9).
ويقول عبد الله الجنيزي: "قد لا يعدم الباحث في منعطفات التاريخ، المنقب بين الزوايا منه والسطور، أن يقف بين الفسح من الأجيال على قمم تختلف فيما بينها شموخاً ورفعةً وسمواً، بما حفلت به تلك القمة من مزايا وخصائص، وما قدمت في هذه الحياة من سخي البذل وجليل التضجية، تجمعت فيها كل من صفات الخير والحق والجمال، فلملمت أطراف المجد والعظمة بيديها، ولم تبخل في عطاء أو تكسل في بذل، ولم تأبه لنكران وجحود يقابل بهما ما تعطيه وتضحي به، في نكران ذات وذوبان لأجل الغير"(10).
ويروى أنّه عندما استقرّ المقام بالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكوفة، كانت [عليها السلام] تعلّم النساء، تفسّر لهنّ القرآن الكريم(11). وكان لها عليها السلام مجلس في بيتها، وقد دخل عليها أبوها عليه الصلاة والسلام ذات يوم وهي تفسّر بداية سورة الكهف وسورة مريم(12)، ويقول موسى محمد علي: "وسيدتنا الطاهرة الكريمة زينب بنت الإمام علي، هي ممّن اختصّهم الله بمحبته وجعلهم من أهل ولايته، ففتح لها الباب وكشف عنها الحجاب، فشهدت أسرار ذاته، ولم يحجبها عنه آثار قدرته، فعرجت روحها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، ومن عالم الملك إلى عالم الملكوت، حتى اتسعت عليها دائرة أرزاق العلوم، وفتحت لها مخازن الفهوم، فأنفقت من سعة غناها في جواهر العلم المكنون، ومن مخازن كنوزها يواقيت السر المصون، فاتسع لها ميدان المجال وركبت أجياد البلاغة وفصاحة المقال"(13).
وعن غزارة علمها وكثرة فقهها ورجاحة عقلها، ما نقله موسى محمد علي عن ابن حميد في مسنده، واليافعي في مرآته، قال: "جلس الحسن والحسين ابنا الإمام علي رضي الله عنهم، يتذاكرون يوماً ما سمعاه من جدّهما: ("الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب".
فقالت زينب: "الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات، فهناك ثلاث درجات في الدين: حلال وحرام ومشتبه. أمّا الحلال فهو ما أحلّه الله تعالى بأن جاء القرآن الكريم بحلّه، وبيّنه الرسول في بيانه الواضح، كحل الشراء والبيع، وإقامة الصلاة في أوقاتها، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وترك الكذب، والنفاق، والخيانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأمّا الحرام فهو ما حرّمه القرآن الكريم، وهو على النقيض من الحلال. وأمّا المشتبه فهو الشيء الذي ليس بالحلال ولا بالحرام. والمؤمن الذي يريد لنفسه السعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة، ما عليه إلا أن يؤدي ما أوجبه الله تعالى عليه، ويسير في طريق القرآن الكريم، ويقتدي بجدّي النبي، ويتأسّى به، ويبتعد عن طريق الشبهات ما استطاع. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، وأصبح دينه وعرضه نقياً صافياً [نقيين صافيين] يعبد ربّه عبادة خالصة «ألاَ للهِ الدِّينُ الخالصُ»(14). وأمّا من سار في طريق الشبهات، فلا يأمن أن تزلّ قدمه، فيقع في ما حرّمه الله. ثمّ إنّ الله تعالى أودع الإنسان مضغة وجوهرة لطيفة، إذا صلحت فإنّ الجسد كلّه يكون صالحاً نقياً من الأدران والعلل وعصيان الخالق رب العالمين، ذلك هو القلب. فإن كان القلب سليماً فأن صاحبه يكون يقظاً لأمور دينه ومبادئ شريعته، يرى السعادة كلّها في الاستقامة، على هدي القرآن والسنة، ومن سلك هذا السبيل القويم واتبع التعاليم السماوية فإنّه يكون يوم القيامة من الفائزين. وما إن انتهت السيدة العقيلة من كلامها حتى قال لها الإمام الحسين رضي الله عنه: "أنعم الله بك، إنّك من شجرة النبوة ومن معدن الرسالة")(15).
ونقل موسى محمد علي عن ابن حميد، وأبي عاصم، وابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: "فرأت زينب بنت علي قوله تعالى: «يا أيُّها المزَّملُ● قُمِ اللّيلَ إلاَّ قليلاً● نصفهُ أوِ انقُصْ منهُ قليلاً● أو زِدْ عليهِ ورتِّلِ القرآنَ ترتيلاً●»(16). إلى قوله تعالى: «وطائفةٌ من الذينَ معكَ»(17).. فقالت رضي الله عنها: نحن نشترك مع جدّنا (ص) في قوله تعالى: «وطائفةٌ من الذينَ معكَ»، فنحن بفضل الله من هذه الطائفة"(18).
1-2 الإيمان
الإيمان لدى السيدة زينب عليها السلام ليس مجرد سمة من سمات شخصيتها، بمقدار ما هو بعد بنيوي له فرادته وتمايزه. إنّ الانتماء إلى مرجعية ذات ارتباط مباشر بالنبي صلى الله عليه وآله، إلى جانب النهج التربوي النموذجي الذي تلقته من والديها عليهما السلام المرتكز على المنطق القرآني، الذي كما يبيّن علي زيعور: "قدير في مجال الصقل والتهذيب، وقدراته عميقة في تعميق الوعي الأخلاقي والحس بالمسؤولية والربط بالأمة والقيم"(19)، انعكسا عقيدة ثابتة وإيماناً راسخاً حققا لديها وحدة في التواصل الديني والإيماني، وهذا التواصل حقّق بدوره وظيفة هامة في التفاعل العلائقي ما بينهما وبين الآخرين. كما أنّ الشعور الديني –كما يشير عبد المنعم المليجي- "يساعد في التكيّف المتواصل والتوسع المستمر في الاستيعاب العاطفي للناس"(20).
لقد أظهرت التجربة المعاشة للسيدة زينب عليها السلام الأبعاد الإيجابية البناءة للمشاعر الدينية، من خلال سمو الحس الخلقي والمعايير السلوكية المتينة، على المستوى العبادي المتمثّل بالطاعة والخضوع والخشوع لله تعالى، والصبر على بلائه والرضا بحكمه. وعلى المستوى العلائقي الإنساني المتمثل بالقدرة على الحب والتعاطف مع الآخرين، وتحمل المسؤوليات والضغوطات والمآزم. وقد بينت الدراسات أن "الفلسفة الموجهة لحياة الأشخاص (الأسوياء) كثيراً ما تتأثر بالعقيدة الدينية، إن لم تكن مستندة إليها بالفعل. ويعتبر الدين خبرة شخصية تغني حياتهم وتشبع حاجاتهم(21). وقد بين حامد زهران فعل الإيمان وأثره على النمو النفسي والصحة النفسية "فالعقيدة حين تتغلغل في النفس تدفعها إلى سلوك إيجابي، والدين يساعد الفرد على الاستقرار، والإيمان يؤدي إلى الأمان وينير الطريق أمام الفرد، من طفولته عبر مراهقته إلى رشده ثم شيخوخته" (22) وقد بينت الروايات بروز المشاعر الدينية في مرحلة متقدمة من حياة السيدة زينب (ع)، فقد نقل النقدي "أنها قالت لوالدها: أتحبنا يا أبتاه؟ فقال: وكيف لا أحبكم وأنتم ثمرة فؤادي. فقالت: يا أبتاه إن الحب لله تعالى والشفقة لنا" (23). وفي رواية أخرى، أنها كانت في طفولتها جالسة في حجر أبيها وهو يلاطفها بالكلام، فقال لها: يا بنية، قولي: واحد، فقالت: واحد فقال لها: قولي اثنان: فسكتت. فقال لها: تكلمي يا قرة عيني. فقالت: يا أبتاه ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد، فضمها إلى صدره وقبلها بين عينيها" (24).
والحديث عن بروز المشاعر الدينية في مرحلة الطفولة أخذ موقعه في دراسات علم النفس، حيث أنه في مطلع القرن العشرين بدأ الاهتمام بدراسة الظواهر الدينية والبحث عن نشأتها وعن تطورها عند الأطفال والمقدرة على التعبير عنها، ففي الدراسة لـ "بيار بوفيه" Pierre Bovet استخلص منها المليجي "أن دين الطفل لا يختلف عن دين الراشد. فالتعدد والتنوع في خبرات الراشد نلقاهما كذلك لدى الطفل، على العكس ما كنا نعرف في علم النفس الذي لم يكلف [لم يعن] بالطفل إلا منذ عهد قريب" (25). كما بينت دراسة بوفيه Bovet "أننا نجد لدى الأطفال ما وجدناه لدى بعض الكبار، من خبرات نادرة، كالإحساس بالسامي أمام عظمة مشاهد الطبيعة، وكالحدس الصوفي بوجود غير مرئي، والاعتقاد بالخطيئة. وأن بعض تلك الخبرات هي وقائع أصيلة، لا يلعب فيها تقليد البيئة أي دور"(26). ويؤكد جمال ماضي أبو العزايم "أن الرشد الديني يمكن الوصول إليه مبكراً"(27). ويرى ألبورت Allport كما ذكر أنطوان رحمة "أن أول ما يميز الطفل من حيث تكيفه هو شدة فاعليته وتعبيره العاطفي، وهذان العاملان هما من نتاج الوراثة"(28). وفي المراحل العمرية اللاحقة، كان الإيمان يتجلى لدى السيدة زينب (ع) بمستوى أعلى في السمو والارتقاء. فكانت على المستوى العبادي تالية أمها السيدة فاطمة (ع) التي تشرفت بقول النبي (ص): "يا سليمان إن ابنتي فاطمة ملأ قلبها وجوارحها إيماناً إلى مشاشها تفرغت لطاعة الله"(29). لقد كانت السيدة زينب (ع) تمضي عامة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن، حتى أنها لم تترك ليلتي العاشر والحادي عشر من المحرم نافلة الليل.
ج- دينامية البناء النفسي الاجتماعي لشخصية السيدة زينب (ع) خلال وقعة كربلاء وبعدها:
أبرزت أحداث كربلاء التي عاشت السيدة زينب (ع) كافة تفاصيلها وأهوالها تلك الفاعلية والدينامية في التعامل مع مجريات الأحداث، فكانت عليها السلام في مواقفها، لا تقل صلابة وقوة وعزيمة عن مواقف أولئك الذين بذلوا أنفسهم ودمائهم في سبيل المبدأ الذي مضى من أجله الإمام الحسين (ع) وكلماته التي كانت تعيشها وتسمعها منه خلال مسيرته من المدينة إلى كرباتء. لقد وعت السيدة زينب (ع) معنى مقولة الحسين (ع): "خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين"(30). تلك المقولة التي على إيجازها حملت أبعاداً ومفاهيم دينية تحدد توجه الإنسان الذي يفترض أن يكون في سبيل مرضاة الله.
لقد تعلمت عليها السلام معنى الموازنة بين مفاهيم العزة والذل، وبين التخاذل والإقدام، وبين الانهزامية وبين والشجاعة، ومعنى وعي الإنسان بالدور الذي وجد لأجله، وهو إحقاق الحق، ومغالبة الظلم والطغيان. كما في قول الحسين (ع): "ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام"(31). وفي موقفه "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد"(32).
هذه الفاعلية والدينامية في التعامل مع الأحداث هما تجسيد للمستوى الإيماني لدى السيدة زينب (ع). فقد روي عن فاطمة بنت الحسين أنها قالت: "وأما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة- العاشر من محرم- في محرابها تستغيث إلى ربها فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنة"(33). وهذا كان دافعاً للإمام الحسين (ع) أن يوصي السيدة زينب (ع) حين وداعه الأخير لأهل بيته بقوله "يا أختاه لا تنسني في نافلة الليل"(34). وقد روي عن الإمام علي بن الحسين (ع) أنه قال: "فتحت عيني ليلة الحادي عشر من المحرم وإذا أرى عمتي زينب تصلي نافلة الليل، وهي جالسة فقلت لها: يا عمة أتصلين وأنت جالسة". قالت: نعم يا أبن أخي، والله إن رجلي لا تحملني"(35). وهن الإمام علي بن الحسين (ع) "أن العقيلة- السيدة زينب- ظلت تؤدي النوافل المستحبة طوال الطريق من كربلاء إلى الشام"(36).
ويعلق محمد جواد مغنية حول عبادتها: "وأي شىء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله لصلاة ليلة الحادي عشر من المحرم، ورجالها بلا رؤوس على وجه الأرض، تسفي عليهم الرياح، ومن حولها النساء والأطفال في صياح وبكاء- إن صلاة السيدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم كانت شكراً لله على ما أنعم، وأنها كانت تنظر إلى تلك الأحداث على أنها نعمة خص الله بها أهل بيت النبوة من دون الناس أجمعين"(37).
لقد ارتفعت السيدة زينب (ع)، بإيمانها، حتى وصلت إلى مرتبة اليقين الذي يعد، كما في تعبير النراقي، "أشرف الفضائل الخلقية وأهمها، وأفضل الكمالات النفسية وأعظمها، ومن وصل إليها فاز بالرتبة القصوى. وقد قال رسول الله (ص) "اليقين الإيمان كله" ففيه تحصيل السعادة الآخروية لتوقف الإيمان عليه؛ بل هو أصله وركنه، وغيره من المراتب فرعه وغصنه"(38). وقول السيدة زينب (ع) حين وقفت أمام جثمان الحسين (ع): "اللهم تقبل منا هذا القربان"(39) هو ترجمة لمستوى الوعي والثبات واليقين لديها. لقد أمد الإيمان السيدة زينب (ع) بزخم كبير من المقومات النفسية التي وظفتها بكفاءة في التعامل مع تحديات كربلاء في وقائعها ونتائجها. ومن تلك المقومات:
أ- القوة والإرادة:
كان مفتاح شخصية الإمام علي بن أبي طالب (ع)، كما يقول العقاد في كتاب عبقرية عليّ، "هو في فروسيته. فعلي رجل تملأ حياته كلها روح البطولة والفروسية، سواء في ميدان الحرب أو في محيط العائلة، في محراب الصلاة أو في مقام الحكم أو في أي مكان"(40). ونحن نرى أن مفتاح شخصية السيدة زينب (ع) هو في تلك القوة والإرادة، حتى استحقت بهما لقب "بطلة كربلاء". وقد تمثلا في المقدرة على تحمل الآلام والأهوال والإقدام على مواجهة المواقف، مهما بلغت ذروتها. ولعل مواقفها في كربلاء أعطت شخصيتها كاريزما Charisma متفردة في بنيتها وخصائصها. فالكاريزمي، كما يشير ريجيو Riggio، هو "فرد لا يتمتع بالحكمة والصقل الاجتماعي فحسب، وإنما بإمكانه أن يتكيف مع مجموعة عريضة من المواقف الاجتماعية"(41). ويرى ماكس فيبر weber أن مصطلح الكاريزمية "يطلق على صفة معينة في شخصية الفرد، تميزه وتفصله عن العاديين من الأشخاص، وتجعله يبدو كما لو كان لديه قوة خارقة فوق مستوى البشر"(42). ويؤكد ريجيو Riggio "إن هذه القوى والقدرات الخارقة، ما هي إلا مهارات اجتماعية على مستوى عالٍ من النمو"(43).
لقد أظهرت السيدة زينب (ع) مقدرة وإرادة كبيرتين في العبور بين مختلف الخطوط والوقائع، في أبعادها النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية، وذلك بتأثير عملية الخبرات النشطة التي حظيت بها، والتي بدورها تفاعلت مع خصائصها الفطرية، وبالتالي عززت قدرتها على الإتصال والتواصل وامتصاص القلق والتوتر والضغوطات، خاصة في وقعة كربلاء التي سطرت السيدة زينب (ع) فيها مواقف امتدت في التاريخ، وما زالت تسير وتترسخ في الأذهان جيلاً بعد جيل.
لقد وعت السيدة زينب (ع) حقيقة الوجه النوراني لثورة الإمام الحسين (ع)، فجاءت مواقفها قوية بقوة شعاع ذاك النور، عظيمة بمستوى عظمته. كما شكلت مواقفها تجسيداً عملياً لما تعلمته خلال مسيرة الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، حيث كان يوجه في كل مناسبة سلوكها نحو التماسك والإرادة والواقعية في التعامل مع الأحداث والتحديات الأليمة، وذلك من خلال الحوارات والوصايا التي كان يطرحها أمامها وأمام آل بيته وأصحابه. يذكر الرواة أنه حين ركب الأعداء في ليلة العاشر وساروا نحو معسكر الحسين، والحسين في وقتها كان جالساً وقد خفق رأسه على ركبتيه، وسمعت السيدة زينب الصيحة والضجة فدنت من الحسين وحركته وقالت: يا أخي ألا تسمع الأصوات قد اقتربت منا؟ فرفع الحسين رأسه وقال: يا أختاه إني رأيت جدي في المنام وأبي علياً وفاطمة أمي وأخي الحسن فقالوا: يا حسين إنك رائح إلينا عن قريب(44).
لقد أراد الإمام الحسين (ع) من السيدة زينب (ع) أن تتسلح بالقوة والثبات اللذين على أساسهما سوف تتشكل أدوارها اللاحقة. كما أن أي خلل أو ضعف في مواقفها سوف يحمل على مستوى الآني خطر التفسير الخاطئ من قبل الأعداء بأن الحسين (ع) وأصحابه في موقف من التفكك والانهيار، وبالتالي هذا التفسير سوف يوظف على مستوى الآني في ممارسة العدوان والتسلط لحساب رضوخ الحسين (ع) وآل بيته لأحكام ابن زياد ويزيد وشروطهما. وعلى المستوى البعيد في إذلال من سيبقى من آل الحسين وأصحابه. وإلى تزوير الوقائع والحقائق بما يتناسب وتطلعاتهم وأفكارهم. في حين أن الإمام الحسين (ع) يرى في شهادته رمزاً للانتصار.
وفي موقف مماثل، أعطى الإمام الحسين (ع) لأخته (ع) مثالاً معنوياً في أهميته سيطرة العقل على الحالات الانفعالية السلبية التي تؤدي إلى انعدام القدرة على مجابهة الأزمات، وإلى العجز عن تحمل المسؤوليات. يذكر الرواة أن الإمام الحسين (ع) أوصى السيدة زينب (ع) في ليلة العاشر من المحرم: ".. يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان، يا أخية اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون! وهو فرد وحده. أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة. وقال لها: يا أخية إني أقسم عليك فأبري قسمي، لا تشقي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت (45). لقد أمدّ الإمام الحسين (ع) السيدة زينب (ع) بقوة وإرادة معنوية في التحمل والتصبر، والتأسي بموت من هو خير من الحسين، وهو النبي محمد (ص) وأخوها الإمام الحسن (ع). والإمام الحسين (ع) حين يقول للسيدة زينب (ع) أن لا يذهب بحلمها الشيطان، وأن لا تشق عليه جيباً إن هلك، وأن لا تدعو بالويل والثبور يبرز أمامها الصورة المثالية لشخصية تتبنى منظومة دينية قادرة على توفير الطمأنينة التي تساعد بدورها على تقبل الواقع وإرغاماته، وبالتالي تقبل المصير من خلال الرضا والتسليم لأمر الله. إنه يوجهها إلى سلوكيات تعتمد القوة والتماسك والإرادة، يعدها اعداداً نفسياً للدور الذي ينتظرها، والمسؤوليات التي سوف تلقى عليها، والتي تتطلب جميعها قدراً كبيراً من القوة والإرادة.
وهكذا، وعلى ضوء مواقف ووصايا الإمام الحسين (ع)، نجد السيدة زينب (ع) بعد وقعة كربلاء أكثر صموداً وشموخاً. فالأحداث التي شهدتها جعلتها أكثر ثباتاً، لقد تحملت مشاهد أخوتها وبنيها دماؤهم تسفك تباعاً على أرض كربلاء، تحملت مشاهد الذعر والخوف تعم حرم وأطفال الحسين وأصحابه وهم يهرعون من الخيم وقد أضرمت فيها النار، توجهت رغم ذلك كله محتسبة صابرة تهدئ روع الأطفال الذين أجهدهم العطش، حيث أن جيش ابن زياد منع الحسين (ع) وذريته ماء الفرات، وتواسي الثكالى اللواتي فقدن رجالهن؛ وتداوي المرضى، فقد روى الإمام علي بن الحسين (ع)، "إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعمتي زينب عندي تمرضني"(46). حمت العيال حين تعرضوا للسلب والنهب من قبل جيش ابن زياد. وقد روي بأن الناس مالوا على نساء الحسين وثقله ومتاعه والورس والحلل والإبل فانتهبوها، وإن المرأة كانت تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها (47). وذكر ابن شهر آشوب أن شمراً قصد إلى الخيام فنهبوا ما وجدوا، حتى قطعت أذن أم كلثوم لحلقة (48). لقد قامت السيدة زينب (ع) بأدوارها بصلابة وإرادة، ويصور علي آل مكي حالة زينب (ع) أمام الأعداء فيقول: "كانت أمام جيش الأعداء تحامي عن حرم الحسين وعياله وعن الثكالى والأيتام، تحامي عن زين العابدين، تنفيذاً لوصية الحسين الذي عهد إليها في حفظ العيال والأطفال والقيام بشؤونهم بعد قتله" (49).
لقد استطاعت السيدة زينب (ع) أن تعيش انفعالاتها من دون السماح لها بأن تسيطر عليها، ساعدها في ذلك مستوى النضج الانفعالي الذي ميز شخصيتها. فالنضج الانفعالي، كما يشير "فرانز الكسندر"، "هو قهر للإحساس بعدم الأمان، واتزان في المشاعر والاستجابات الانفعالية" (50). والإنسان الذي يتمتع بنضج انفعالي، قادر، كما يرى فرانز الكسندر، "على مواجهة المواقف الصعبة على أساس من الوعي والتحمل وبذل الجهد" (51). كما أنها أبدت مع بداية رحلة السبي مستوى عالياً من النضج الانفعالي، فكانت أمام أهل الكوفة- مع كل المآسي والأهوال التي مرت عليها- إنسانة مفعمة بالثقة والإرادة، وقد ألقت خطاباً عرضت فيه القارعة التي ألمت بالإمام الحسين (ع) وآل بيته (ع)، كما ألمحت الأهوال التي سوف يلاقيها أهل العراق نتيجة الخيانة والغدر في مواقفهم مع الإمام الحسين (ع).
وموقفها أمام ابن زياد- حين قدوم الأسارى إلى قصر الإمارة- لم يكن أقل قوة، بل كانت مليئة بالعزم والجرأة إلى درجة أذهلت الحاضرين في ردها على شماتة واستهزاء ابن زياد بقتل الإمام الحسين (ع) وآل بيته، عندما قال: "الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت: إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا" (52) إلى قولها: "فانظر لمن يكون الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا بن مرجانة" (53). وقد سجل التاريخ للسيدة زينب (ع) موقفاً رسالياً هاماً أمام ابن زياد، وهو حمايتها لعلي بن الحسين (زين العابدين)، حين أمر ابن زياد بضرب عنقه، فتعلقت بابن أخيها وقالت: "يا ابن زياد حسبك منا! أما رويت من دمائنا؟ وهل أبقيت منا أحداً؟ وقالت: أسألك بالله، إن كنت مؤمناً إن قتلته فاقتلني معه! فنظر إليها ابن زياد ثم قال: عجباً للرحم! والله ودت لو أن قتلته أني أقتلها معه! دعوا الغلام" (54).
ومواقفها أمام يزيد بن معاوية في مقر الخلافة في دمشق كانت الأكثر جرأة وقوة وإرادة. فبعد رحلة شاقة من السبي، وما يمكن أن تتركه من مشاعر العجز والإحباط وقلة الحيلة، تظهر السيدة زينب (ع) إنسانة قوية متماسكة، لتدخل في مواجهة خطابية مباشرة مع الخليفة يزيد بن معاوية، مواجهة تتناسب في قوتها مع درجة الآلام والمحن التي شهدتها خلال وقعة كربلاء وبعدها. لقد جاءت المواجهة مذهلة في شدتها واجتياحها لكل القيود والحدود، مفاجئة لجميع الحاضرين، وأدت إلى خلق حالة من التوتر العام في مجلس يزيد، بعدما وجهت إليه كلمات عرضت فيها الحقائق والوقائع، كما أظهرت مواطن الخداع والخواء العقائدي والسلوك النزوي لديه؛ ومن كلماتها، كما نقل ابن طاووس: "أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، إلى قولها: "وكيف ترتجي مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأذكياء(55). إلى قولها: "فوالله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك"، إلى قولها: "ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، فإني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرى (56)" وتنتهي قائلة: "فكد، كيدك واسع سعيك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا ترخص عنك عارها"(57). هذه العبارات، جاءت كالزلزال، وقد أخمدت يزيد، وأعيته عن الجواب فكان رده: "يا صيحة تحمد من صوائح، ما أهون الموت على النوائح".
وكان قد سبق للسيدة زينت (ع) موقف أمام يزيد قبيل إلقائها الخطاب، حيث يذكر الرواة عن فاطمة بنت علي، قولها: "لما أجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية، قام رجل أحمر، من أهل الشام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه (وهو) يعنيني، فأرعدت وفرقت وظننت أن ذلك جائز لهم، وأخذت بثياب أختي زينب، وكانت أكبر مني وأعقل وتعلم أن ذلك لا يكون. فقالت له: كذبت والله ولؤمت! ما ذلك لك ولا له.. فغضب يزيد فقال: كذبت والله! إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت! قالت: كلا والله، ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا. فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. فقالت زينب: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك! قال: كذبت يا عدوة الله. قالت: أنت أمير متسلط تشتم ظالماً تقهر بسلطانك. فسكت. ثم عاد الشامي فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. قال: اغرب وهب الله لك حتفاً قاضياً."(58).
ب- الصبر على المكاره:
شكل الصبر إحدى السمات والخصائص النفسية البارزة لدى السيدة زينب (ع)، فكانت النموذج الأسمى في صبرها وتجلدها أمام الأحداث التي لازمت تجربتها الوجودية، منذ وفاة جدها النبي محمد (ص) ووفاة والدتها السيدة فاطمة (ع)، مروراً بالأحداث التي واكبت خلافة والدها الإمام علي (ع)، ومن ثم أخيها الإمام الحسن (ع) انتهاء بالحدث الهلعي المتمثل بفاجعة كربلاء. والمتتبع لمسيرة السيدة زينب الحياتية، تشغله كربلاء عما سواها من الأحداث في التقاط كل ما احتوته السيدة زينب (ع) من خصائص نفسية، والتي يكمن جمعها تحت عنوان واحد وهو: "الصبر على المكاره". لقد شهدت السيدة زينب (ع) كامل فصول كربلاء التي انتهت بمشهد تجرد من الأعراف الإنسانية والدينية والاجتماعية؛ وهو وطء جسد الإمام الحسين (ع) الملقى صريعاً على أرض كربلاء بسنابك الخيل، ومن ثم سلبه وتجريده مما عليه. وقد أجمعت الروايات على هذا الفعل، واخلتفت في أسماء من أقدم عليه، ففي رواية أبي مخنف أن بحر بن كعب أخذ سراويل الحسين، وأخذ قيس ابن الأشعث قطيفته وكانت من جزّ ولذلك سمي في ما بعد قيس قطيفة، وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال له الأسود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل ابن دارم فوقع بعد ذلك إلى أهل حبيب بن بديل.(59).
هذا المشهد، سبقته مشاهد تترى من قتل أبنائها عون (60) ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر، وقتل أخوتها وأبنائهم الذين كانوا يجزرون كالأضاحي. حتى الطفولة كان لها نصيبها من القتل، حيث قتل عبد الله الرضيع ابن أخيها الإمام الحسين (ع)، ومع ذلك تجرعت تلك المصائب صابرة محتسبة أمرها إلى الله، متمثلة قول الحسين (ع): "هوّن عليّ ما نزل أنه بعين الله" (61). فتقف أمام جثمان الحسين، وتقول: "اللهم تقبل منا هذا القربان"، لقد جسدت بموقفها أعلى درجات الوعي بالمفاهيم الرسالية، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى «ولنبلُوَنَّكُم بشيءٍ منَ الخوفِ والجُوعِ ونقصٍ منَ الأموالِ والأنفُسِ والثَّمراتِ، وبشِّرِ الصابرينَ● الَّذينَ إذا أصابتْهُم مصيبةٌ قالوا إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ● أولئِكَ عليهِمْ صلَواتٌ منْ ربِّهِمْ ورَحمةٌ وأُولئِكَ هُمُ المهتَدُونَ»(62).
كما ورد في الحديث: "الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر" (63). وقد روي عن أبي جعفر "إن الجنة محفوفة بالمكاره فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة" (64). لقد كانت السيدة زينب (ع) تواجه المأساة وقد بلغت حدها الأقصى، ففي رواية قرة بن قيس التميمي: لا أنسى ابنة فاطمة وهي تقول: "يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفى عليها ريح الصبا! فأبكت والله كل عدو وصديق" (65). لكنها استطاعت السيطرة على انفعالاتها واحتواء المأساة وظروفها، ومتابعة الدور الموكل إليها، وباتت تنظر بعين الله ورحمته، حتى ارتقت إلى منازل السالكين، ومقام الموحدين. وصار الصبر بالنسبة إليها ملكة راسخة، أورثتها مقام الرضا ؛ وليس فوق رضا الله رضا لقوله تعالى: «ورِضوَانٌ منَ اللهِ أكبرُ ذلكَ هوَ الفوزُ العظيمُ» (66).
ومن الدلالات المكثفة على مستوى الصبر على المكاره، الذي ساعد بدوره على امتصاص الخبرات المؤلمة وتجاوز التداعيات السلبية لعملية السبي الذي تعرضت له بعد وقعة كربلاء هي وآل بيت النبوة ومن بقي من نساء أصحاب الحسين وعيالهم، ما روي أنها كانت "تساق كما تساق الأسارى (67)، وفي روايات أخرى أن السبايا ربطوا بالحبال وحملوا على جمال بغير وطاء (68). وأخرى ذكرت أن ابن زياد أمر بعلي بن الحسين فغلّ بغل إلى عنقه، ثم بعث به وبنساء الحسين وصبيانه في إثر رأس الحسين إلى يزيد في الشام (69).
أمام هذه التحديات برزت السيدة زينب (ع) على مسرح الأحداث كشخصية ريادية، وفي الرعيل الأول من الخطباء، ناهضة بقوة جنان، وفصاحة لسان بأثقل واجب سياسي، ترجمت من خلاله أطروحة الإمام الحسين (ع) وأبعاد قضيته وثورته. وبينت أن الدكماء المسفوكة هي قربان مقدس، قدم بدافع إحقاق الحق والعدل، ومحاربة الظلم والطغيان والجور. لقد نهضت عليها السلام بقوة وإرادة تبين للملأ من أهل الكوفة، وفي دار الإمارة أمام ابن زياد، وفي مقر الخلافة أمام يزيد في الشام حقيقة النهضة الحسينية، كما طرحت مساوئ الأمويين، ومساوئ الخليفة يزيد نفسه، بعدما عرته كاشفة انتماءه التاريخي المثقل بالإجرام، كما بينت خواءه الداخلي وخواءه العقائدي.
لقد سجل ارتحال السبايا عن أرض كربلاء، والتنقل بهم من بلد إلى بلد، بداية جديدة، دخلت فيها السيدة زينب (ع) ميدان المعركة مقدمة نموذجاً فريداً في المبارزة والقتال، وهو المنطق وقوة الجنان وفصاحة اللسان، من خلال مواقف خطابية احتوت على أشكال التعاطي الاجتماعي النفسي والايديولوجي السياسي والفكري ما شكل وثائق تاريخية ومنبراً إعلامياً لأحداث وأهوال وقعة كربلاء، ولأبعاد الثورة الحسينية. لقد كانت السيدة زينب (ع) على انكسارها طافحة بكبرياء العقيدة وكبرياء المعنى. كان لها عليها السلام سيماء ناطقة بالصلابة والعزم، فقذفت في قلوب أهل الكوفة قلقاً لم يعرف الهدأة، وفي ردع ابن زياد ضربات كانت كافية بتحطيمه اجتماعياً ومعنوياً، وفي جبروت يزيد حمماً من حقائق بزغت على لسانها، فأخذت على الباطل سبيل امتداده. لقد جاءت مواقفها مصداقاً للآية الكريمة «الَّذينَ قالَ لهُمُ النَّاس إنّ النّاس قدْ جمَعُوا لكُمْ فاخشَوْهُم فزادَهم إيماناً وقالُوا حسبُنَا اللهُ ونعمَ الوكيلُ»(70).
1. حجازي، مصطفى، الصحة النفسية، (م.س)، ص37.
2. (م.ن.)، ص 134.
3. دستغيب، عبد الحسين، حياة زينب الكبرى، (م.س)، ص 73/النقدي، جعفر، زينب الكبرى، (م.س)، ص 95.
4. المقرم، عبد الرزاق، مقتل الحسين، دار الكتاب الإسلامي، ط5، بيروت، 1979، ص 139/ المجلسي، بحار الأنوار، (م.س)، ج 44، ص 329.
5. ويروي علي بن الحسين (زين العابدين) عن السيدة زينب عن علي بن أبي طالب. حديث أم أيمن ومضمونه: أن رسول الله (ص) زار منزل فاطمة (ع) في يوم من الأيام،فعملت له حريرة (دقيق يطبخ بلبن) وأتاه علي بطبق فيه تمر. ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعسٍ فيه لبن وزبد فأكل رسول الله (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين من تلك الحريرة وشرب رسول الله وشربوا من ذلك اللبن.. ثم غسل رسول الله يده وعلي يصب على يديه الماء. فلما فرغ من غسل يده ومسح وجهه نظر إلى فاطمة والحسن- والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً ثم إنه وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثمخر ساجداً وهو ينشج فأطال النشيج وعلا نحيبه وجرت دموعه. (وقال): قال لي جبرائيل يا محمد إن سبطك هذا، وأومأ بيده إلى الحسين، مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك بضفة الفرات بأرض يقال لها كربلاء. من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك في اليوم الذي لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته.." القزويني، محمد الكاظم، زينب الكبرى، (م.س)، ص 411/ سبهر، عباس قلي، الطراز المذهب، (م.س)، ص 180. وفي رواية ابن أبي الحديد عن الحسن بن كثير عن أبيه أن علياً أتى كربلاء فوقف بها فقيل له: يا أمير المؤمنين هذه كربلاء فقال: ذات كرب و بلاء. ثم أومأ بيده إلى مكان فقال: ها هنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم. ثم أومأ بيده إلى مكان آخر فقال: ها هنا تراق دماؤهم. ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، (م.س)، مجلد 3، ص 171.
6. العسقلاني، ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، (م.س)، مجلد 8، ص 166.
7. سبهر، عباس قلي، الطراز المذهب، طبعة حجرية، فارسي، 1315هـ.ق، ص 62.
8. ابن الحسين الهاشمي، علي، عقيلة بني هاشم زينب الكبرى، مجلة الموسم، هولندا، ع 25، 1996، ص 90.
9. البنا، كامل، زينب أخت الحسين، مجلة الموسم، بيروت، ع 4، 1989، ص 772.
10. الخنيزي، عبد الله في رحاب السيدة زينب (ع)، مجلة الموسم، هولندا، ع 25، 1996، ص 114
11. دستغيب، عبد الحسين، حياة زينب الكبرى، (م.س)، ص 76.
12. الصفار، حسن موسى، المرأة العظيمة، (م.س)، ص 105.
13. علي، موسى محمد، عقيلة الطهر والكرم السيدة زينب، عالم الكتب، ط 3، بيروت، 1985، ص 67.
14. سورة الزمر، الآية 3.
15. محمد علي، موسى ، عقيلة الطهر والكرم السيدة زينب، (م.س)، ص 72.
16. سورة المزمل، الآيات: 1- 2- 3- 4.
17. سورة المزمل، الآية: 20.
18. محمد علي، موسى ، عقيلة الطهر والكرم السيدة زينب، (م.س)، ص 76.
19. زيعور، علي، التربية وعلم نفس الولد في الذات العربية، دار الأندلس، ط 1، بيروت، 1985، ص 52.
20. المليجي، عبد المنعم، تطور الشعور الديني عند الطفل والمراهق، دار المعارف، مصر 1955، ص 318.
21. منصور، طلعت، الشخصية السوية، عالم الفكر، الكويت، 1982، ع 2، ص 90.
22. زهران، حامد عبد السلام، علم نفس النمو، عالم الكتب، القاهرة، ط 8، 1986، ص 394.
23. النقدي، جعفر، زينب الكبرى، (م.س)، ص 35.
24. (م.ن)، ص 35/ دستغيب، عبد الحسين، حياة زينب الكبرى، (م.س)، ص 74. مع اختلاف في الألفاظ.
25. المليجي، عبد المنعم، تطور الشعور الديني عند الطفل، (م.س)، ص 26.
26. (م.ن)، ص 26.
27. زهران، حامد عبد السلام، علم نفس النمو، (م.س)، ص 396.
28. رحمة، أنطوان، أثر معاملة الوالدين في تكوين الشخصية، (م.س)، ص 36.
29. المجلسي، بحار الأنوار، (م.س)، ج 43، ص 46.
30. ابن طاووس، اللهوف، (م.س)، ص 38.
31. (م.ن)، ص 59.
32. المجلسي، بحار الأنوار، (م.س)، ج 45، ص 7.
33. النقدي، جعفر، زينب الكبرى، (م.س)، ص 62.
34. الصفار، حسن موسى، المرأة العظيمة، (م.س)، ص228/ دستغيب، عبد الحسين، حياة زينب الكبرى، (م.س)، ص 84.
35. القزويني، محمد كاظم، زينب الكبرى، (م.س)، ص 194.
36. دستغيب، عبد الحسين، حياة زينب الكبرى، (م.س)، ص 84/ النقدي، جعفر، زينب الكبرى، (م.س)، ص 62.
37. مغنية، محمد جواد، مع بطلة كربلاء، (م.س)، ص 42.
38. النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 6، بيروت، 1998، ج 1، ص 154.
39. القرسي، باقر شريف، السيدة زينب، (م.س)، ص 257.
40. المطهري، مرتضى، الملحمة الحسينية، الدار الإسلامية، ط 3، بيروت، 2003، ص 113.
41. ريجيو، رونالد، الكاريزمية، عرض ممدوحة محمد سلامة، عالم الفكر، الكويت 1990، ع 4، ص 161.
42. (م.ن)، ص 163.
43. (م.ن)، ص 163.
44. ابن أعثم، مقتل الحسين، (م.ن)، ص 116/ ابن طاووس، اللهوف، (م.س)، ص 55.
45. أبو مخنف، وقعة الطف، (م.س)، ص 200/ ابن طاووس، اللهوف، (م.س)، ص 49 رواه مختصراً ذاكراً الوصية بين الحسين والسيدة زينب وآل بيته.
46. أبو مخنف، وقعة الطف، (م.س)، ص 200.
47. (م.ن)، ص 256.
48. ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، (م. س)، ج 4، ص 112.
49. آل مكي العاملي، علي، زينب الكبرى، مجلة الموسم، بيروت، ع 4، 1989، ص 777.
50. منصور، طلعت، الشخصية السوية، مجلة علم الفكر، الكويت، 1982، ع 2، ص 99.
51. (م.ن)، ص 100.
52. ابن طاووس، اللهوف، (م.س)، ص 93.
53. (م.ن)، ص 93.
54. أبو مخنف، وقعة الطف، (م.س)، ص 263/ ابن أعثم، مقتل الحسين، (م.ن)، ص 151.
55. ابن طاووس، اللهوف، (م.س)، ص 106.
56. (م.ن)، ص 107.
57. (م.ن)، ص 107.
58. أبو مخنف، وقعة الطف، (م.س)، ص 271. وفي مصادر أخرى فاطمة بنت الحسن: ابن طاووس، اللهوف، (م.س)، ص 108.
59. الطبري، تاريخ، (م. س)، ج 4، ص 346.
60. اختلفت الروايات في عون، منها ما أشارت إلى أن أمه السيدة زينب بنت علي: أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، (م.س)، ص 60/ مغنية، محمد جواد، مع بطلة كربلاء، (م.س)، ص 36.
وكنها ما أشارت إلى أن أمه جمانة ابنة المسيب الفزاري: أبو مخنف، وقعة الطف، (م.س)، هامش ص 246/ ابن الجوزي، سبط، تذكرة الخواص، (م.س)، ص 175. كما اختلف الرواة في والدة محمد فمنهم من أشار أنها الخوصا بني حفصة: أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، (م.س)، ص 60/ ومنهم من أشار إلى أن والدته السيدة زينب بنت علي: مغنية، محمد جواد، مع بطلة كربلاء، (م.س)، ص 36 ذكر أن عون ومحمد قتلا مع خالهما.
61. ابن طاووس، اللهوف، (م.س)، ص 69.
62. سورة البقرة، الآيات: 155- 156- 157.
63. الكبي، زهير سفيق، الصبر، سلسلة أحياء علوم الدين، دار الفكر العربي، بيروت، 1991، ص 10.
64. الكليني، الكافي، المكتبة الإسلامية، طهران، 1385 هـ ق، ج 8، ص 268.
65. أبو مخنف، وقعة الطف، (م.س)، ص 259.
66. سورة التوبة، الآية 72.
67. ابن أعثم، مقتل الحسين، (م.س)، ص 147.
68. القرشي، باقر شريف، السيدة زينب، (م.س)، ص 263.
69. المفيد، الإرشاد، (م.س)، ج 2، ص 119.
70. سورة آل عمران، الآية: 173.
المصدر:
الخطاب الرسالي للسيدة زينب (ع) بعد واقعة كربلاء (قراءة من منظور التاريخ زعلم النفس الديني والسياسي)، د. زينب محمد عيسى، جمعية السيدة زينب (ع) الخيرية، ط 1، 2013 م، بيروت- لبنان.
اترك تعليق