مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

فاطمة بنت سليمان الأنصارية: عالمة، محدّثة، نالت إجازات علميّة

فاطمة بنت سليمان الأنصارية: عالمة، مسندة، محدّثة، نالت إجازات علميّة


فاطمة بنت سليمان الأنصارية

لئن كان علمُ الحديثِ من أشرفِ العلوم وأجلّها عند الرّجال، لقد أبدَعت فيه أعداد كثيرة من النساء منذ فجر الإسلام إلى عصور متأخرة، وكنّ فيه من المجلّيات، وبرزن فيه بروزاً ملفتاً للنّظر، وكان أكثرهنّ من المشرق العربي، فمنهنّ النساء المحدّثات الدمشقيات وكن كثيرات جداً لا يحصين، ومنهنّ المقدسيّات والمكّيّات والعراقيّات والمدنيّات، كما نجد منهنّ المصريّات(1).
ومن النساء العالمات  العاقلات المحدّثات امرأةُ من نساء القرن السابع وأوّل الثامن ،كانت من أبرز نساء دمشق والمشرق العربي في عصرها، هذه المرأة المحدّثة الكريمة هي فاطمة بنت سليمان بن عبد الكريم بن عبد الرحمن الأنصارية الدّمشقيّة أمٌّ عبد الله(2).
كان مولدُ هذه المحدّثة العالمة  بدمشق الشّام  في الرٌّبع الأوّل من القرن السَّابع الهجريّ، حوالي سنة (620 هـ).
ومن خلال استقراء أخبار فاطمة بنت سليمان الأنصاريّة يظهرُ لنا بأنَّ نشأتها كانت نشأة بناتِ العُلماء اللواتي يعتني بهنَّ آباؤهنَّ وولاةُ أمورهّن.
فقد وُلدت فاطمة في بيتٍ كريمٍ من البيوت العريقة التي أُسست على العلم والفقه والحديث والقراءة والإقراء، حيث إنّ أباها سليمان بن عبد الكريم الأنصاريّ الدمشقيّ المتوفى سنة (641)، كان واحداً من العلماء القرّاء البارزين في دمشق في عصره، وكان من المقرئين المجوّدين المتقنين، [...]، وناهيك بهذه الصفة التي تجعل صاحبها من فئة أحباب الله الذين يتلون كتابه آناء الليل وأطراف النهار، بل كان القرآن الكريم ربيع قلبه، ونعيم حياته، وحياة نعيمه، ولذلك سمّاه صلاح الدين الصفدي عندما ترجم لفاطمة بالمقرىء المحدّث فقال: "فاطمة ابنة الشيخ الإمام المقرىء المحدّث جمال الدين سليمان بن عبد الكريم بن عبد الرحمان بن سعد الله بن أبي القاسم الأنصاري الدمشقي"(3).
ومنذ أن فتحت فاطمة عينيها على الدنيا، أخذ أبوها يعتني بها، ويغذّيها على محبة القرآن العظيم، وحبّ الحديث الشريف، وحبّ العلم وأهله وذويه، وأخذ يحضرها مجالس التحديث في دمشق، وكانت تلكم المجالس زينة الدنيا وبهجتها في ذلك العصر.[...]
حرص والد فاطمة أن يسمعها الحديث وعلومه من كبار محدّثي ذلكم العصر في ذلكم المِصر المبارك الميمون الحافل بالعلماء والأعلياء.
*لذلك نالت هذه المحدّثة المرتبة العليا حيث جعلت علم الحديث والشريعة أمل دنياها ودنيا أملها، ولم تسع إلى الشهرة، وإنّما كان هدفها العلم والحديث، وإثراء المجالس بالعلم والتحديث، فالإنسان الذي يجعل العلم جانباً لن ينال شيئاً، ولو صعدت شهرته إلى الثريا، ولله در من قال في هذا المعنى:
ما نال من جعل الشريعة جانباً                شيئاً ولو بلغ السماء منارُه

إنّ فاطمة قد نشأت وترعرعت في أسرة علمية تحب العلم، وقد عُرفت أُسرتها بالاعتناء بالعلم، وتنشئة أبنائها عليه، ولهذا كانت فاطمة ممن أكرمها الله بهذه الحلية العظيمة التي جعلتها من عالمات عصرها، وشهيرات مصرها، بل كانت قدوة لكلّ النساء بعدها، وفي سيرتها -كما سنلاحظ- وقفاتٌ مباركاتٌ تستحق أن تُذكر، وأن تُشهر لتقتدي بها النساء في كلّ العصور والأوقات.[...]
تفرغها للعلم: 
لم تركن فاطمة إلى الدَّعة، وإنّما ظلّت تطلب الحديث مدّة طويلة حتى اشتدّ عودها، وكثرت مروياتها، ثم جلست للتحديث حيث قصدها شداةُ العلم للقراءة، أو السماع عليها، أو طلب الإجازة منها.
وقد صرفت فاطمة هذه جلّ عمرها في طلب الحديث وكثرة التحديث، ولعل الذي ساعد على ذلك أنّها ظلّت خليّاً أي أنّها لم تتزوج(4)، وعمّرت دهراً طويلاً حتى قاربت التسعين، وتفرّدت بالرواية عن بعض من أخذت عنهم، فكانت آخر من روى عن المسلم المازني بالسَّماع
(5).
ومن تلامذتها المشاهير: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي الأديب العالم المؤرّخ المشهور المتوفى بدمشق سنة (764هـ)، وكذلك الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي المتوفى سنة (739هـ)[...]
من فضائلها ومآثرها وبرِّها:
كانت فاطمة بنت سليمان الدمشقية من صوالح نساء عصرها، وكانت -إلى جانب كونها عالمة محدثة- امرأة صالحة، وقفت وبرّت أهلها وأقاربها في حياتها(6)، فقد كانت من بيت ثراء ومال وغنى، لذلك كانت ذات ثروة وافرة، وقد تمكنت من خلال ثرائها أن تقوم بأعمال خيرات ومبرّات، وشيّدت مدارس العلم، كما شيّدت المارستانات والتكايا لمساعدة الناس، وأوقفت لتلك الأبنية والمحلّات الخيرية أوقافاً كثيرة، ورتّبت لمستخدميها رواتب وأجوراً، حتى باهت بأفعالها الخيرية أعاظم رجال ونساء عصرنا(7).[...]
وقد امتدّ عمرها حتى تجاوزت القرن السابع ودخلت في القرن الثامن، وهي لا تكلّ ولا تملّ في عمل المبرّات والصدقات وإنفاق المال في وجوه الخيرات، كما بذلت جلّ عمرها في طلب الحديث الشريف دون وهن أو ضعف، على الرغم من أنّ الشيب قد علا رأسها، وكبرت واقتربت من التسعين(8)، بيد أنّ علو همتها وحبّها للتحديث جعلها ممن ثابر على العطاء حتى قبيل وفاتها، فلم تركن إلى الكسل.[...]
وكانت وفاة فاطمة ابنة سليمان الأنصاريّة في (12 ربيع الآخر) سنة (708هـ)، وذلك في دمشق الشام حيث دُفنت فيها.[...]




الهوامش:
1- اقرأ كتابنا: "نساء من مصر والمغرب العربي" حيث تجد فيه ما يسرك إن شاء الله تعالى.
2- الدرر الكامنة (3/ 222 و223)، وأعيان العصر وأعوان النصر (3/ 1393)، وذيل العبر (4/ 18)، وتذكرة الحفاظ (ص 1485)، ومرآة الجنان (4/ 244)، وشذرات الذهب (8/ 32)، والدر المنثور في طبقات ربّات الخدور (ص366)، وأعلام النساء (4/ 61- 65).
3- أعيان العصر (3/ 1393).
4- انظر: الدرر الكامنة (2/ 222).
5- قال ابنُ العماد: "وروت الكثير وتفرّدت ولم تتزوج". _شذرات الذهب 8/ 32).
6- الدرر الكامنة (2/ 223).
7- الدر المنثور (ص 366) بتصرف يسير.
8- شذرات الذهب (8/ 32).


المصدر: نساء من المشرق العربي: أحمد خليل جمعة. ط1، اليمامة، 1423هـ_ 2002م.

التعليقات (0)

اترك تعليق