مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

والدتي... والقراءة

والدتي... والقراءة

كل من يقرأ تاريخ الجزائر الحديث في حقبة الاستعمار الفرنسي التي استمرت من 5 يوليو 1830 إلى 5 يوليو 1962، أي نحو قرن وثلث القرن (132 سنة)، سيقف على حقيقة مفادها أنّ إدارة الاحتلال انتهجت تجاه الشعب الجزائري سياسة التجهيل وطمس الشخصية الوطنية العربية الإسلامية للإنسان الجزائري، على أمل إذابته وسلخه عن مقوماته وهويته الحضارية الشرقية.
واتبّعت في سبيل تحقيق هذا الهدف العديد من الوسائل والأساليب، منها سياسة الفرنسة والتغريب ومنع التعليم ومحاربة اللغة العربية واعتبارها لغة أجنبية في عقر دارها! والتضييق على الحريات الفردية الأساسية بمنع إصدار الصحف ومراقبتها ومنع إنشاء النوادي والجمعيات، وغيرها من الأساليب البشعة.
أثمرت كل هذه الجهود التي بذلها الاستعمار أن استقلت الجزائر سنة 1962، وهي تعاني نسبة أمية تفوق 80 في المائة، وكان من ضحايا هذه السياسة آباؤنا وأجدادنا الذين حملوا السلاح في ثورة الجزائر المباركة –ثورة المليون ونصف المليون شهيد- لطرد المستعمر الغاشم.
هؤلاء الآباء –وبالرغم من أميّة القراءة والكتابة- عملوا قدر المستطاع حتى نتعلم نحن الأبناء، ونتفتّح على كل العلوم والفنون، ونبحر في مجالاتها المختلفة، وقدّسوا العلم والعلماء، وضحّوا في سبيل أن ننال قسطاً أوفر من العلم.
وفي هذا المقام أتذكر والدتي –رحمة الله عليها- التي كانت تحفّزنا –نحن أبناءها- على الاستزادة في أخذ العلوم ومواصلة مشوارنا الدراسي، وتتحسّر، ويتقطّع قلبها لعدم استفادتها مثلنا من فرصة حقيقية للتعلم، وكانت دائماً تقول إنه لو أتيحت لها فرصة العودة بالزمان إلى الوراء لعادت واختارت أن يكون العلم سبيلها الأوحد.
هي والدتي العاجزة عن القراءة والكتابة، الشغوفة بالعلم، المحترمة لأصحابه، وفي تحد لها غير معلن، أصبحت تفتح المصحف الشريف، وتجتهد اجتهاداً كبيراً لفك رموز الحروف، وتطلب مساعدتنا في ذلك، وتقرأ ما تيسّر لها من الذكر الحكيم بمشقة كبيرة جداً، ومع مرور الزمن وتكرارها للمحاولة تلو المحاولة، تمكنت والدتي -وبعون الله- من حفظ عدد من السور، كانت أطولها سورة الملك التي اختارتها للحفظ عمداً، لما لهذه السورة من مكانة ومنزلة في قبر المسلم، كما حفظت أجزاء من سورة الكهف التي داومت على قراءتها كل يوم جمعة، وبقيت تداوم على قراءة القرآن يومياً، حتى أنني عندما أستحضر صورتها اليوم أتذكرها مجالسة لكتاب الله، بتلك النظارة التي تساعدها على رؤية الحروف جيداً، وهي تجهد نفسها في القراءة دون ملل.
وقد منّ الله عليها أن كان آخر عمل قامت به قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة هو قراءة بعض آيات الذكر الحكيم ولله الحمد.
وأتذكر جيداً أنّ والدتي -رحمها الله- كانت كلما قامت بتنظيف المنزل وترتيبه، تحتفظ بكل ورقة مكتوبة تجدها في جنبات المنزل، ولا تغامر مطلقاً برميها من تلقاء نفسها، وتعرضها علينا فور عودتنا إلى المنزل لنتفحصّها، فنحتفظ بما نحتفظ به، ونرمي ما نرمي، وهذا الحرص المبالغ فيه من والدتي سببه حبها العميق للعلم، وخوفها من أن يضيع شيء منه هو بالغ الأهمية بالنسبة لنا نحن الأبناء.
كما أنّ والدتي اكتسبت بمرور الزمن ثقافة مقبولة بسبب متابعتها للعديد من الحصص الإذاعية والتلفزيونية، فهي مستمع ومتابع وفيّ للحصص الدينية ونشرات الأخبار وبعض الأشرطة، وهو ما أكسبها احترام من هن من جيلها اللواتي عايشن مرحلة الاستعمار الفرنسي، وأصبحت بينهن وكأنها الحكيمة العالمة.
هي خواطر تذكرتها وسجلتها باعتزاز في حق أمي، هذه الكلمة التي افتقدتها في قاموسي اليومي، لكنني أجسّد الكثير مما تعلمته منها في حياتي اليومية مع أبنائي، وفي منزلي، ومع شخصي بالذات، فرحم الله والدتي وأسكنها فسيح جناته.


المصدر: مجلة البيت العربي، العدد(15)، ملحق مجلة العربي، العدد 651، فبراير 2013م.

التعليقات (0)

اترك تعليق