مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

خرافات إدارة عقول أطفالنا: كيف نربي طفلاً ذكيّاً وسعيداً؟

خرافات إدارة عقول أطفالنا: كيف نربي طفلاً ذكيّاً وسعيداً؟

هل يدرك الآباء في سعيهم الدائب لتربية أبناء ناجحين أنّ علم الأعصاب neuroscience یحمل لهم الإجابات الشافیة على أسئلة طالما شغلتهم، مثل.. کیف أجعل ابني یلتحق بواحدة من أعرق الجامعات فی العالم مثل جامعة "هارفارد"؟ وما مدى تمتع طفلي وهو جنين في رحم أمه بقدرات عقلية نشطة؟ وكيف تؤثر تربية الأطفال على مستقبل زواج آبائهم؟ وكيف أربي طفلاً سعيداً يتمتع بالمُثل العليا؟
لذا حاول العالم جون مادينا John Medina فی علم الأحياء الجزيئيّة molecular biologist تقديم حلول عملية للوالدين في مؤلفه "قواعد عقلية للأطفال الرضع: كيف تربي طفلاً سعيداً وذكيّاً منذ مولده حتى خمس سنوات انطلاقاً من منهج فريد وهو تفنيد الخرافات التي تسيطر على الأب والأم في تنشئة الطفل، ومتسلحاً بحقيقة مهمة أن لا أضرار ناجمة عن العلم إذا تسلح به الآباء في فتح آفاق واسعة لتنشئة أطفالهم.
الخرافة الأولى:
كثيراً ما تعتقد المرأة في حملها أنّ سماع الجنين موسيقى كلاسيكيّة مثل سيمفونيات "موتسارت" يؤدي إلى تحسين أدائه في الرياضيات والحساب مستقبلاً.
ويدحض العالم مادينا تلك هو تعليم الطفل كيف يتحكم في انفعالاته وحاجاته.
وقد أثبتت أبحاث عالم النفس الأمريكي الشهير والتر ميشيل أنّ الأطفال الذين يؤجّلون الإشباع لحاجاتهم الأولية لمدة 15 دقيقة أحرزوا معدلات في امتحانات الدبلومة الأمريكيّة أعلى ممن حصلوا على الإشباع بعد دقيقة فقط.
الخرافة الثانية:
لتحفيز القدرات العقلية للطفل يجب أن يتلقى دروساً في لغة ثانية بدءاً من عمر ثلاث سنوات، وتوفير حجرة مكتظة باللعب التي تنمي العقل ومكتبة مليئة ببرامج تعليميّة.
يطالب جون مادينا الوالدين بالكف عن شراء ألعاب وأجهزة إلكترونية لأطفالهم، لحاجتهم الماسة للمزيد من اللعب في الهواء الطلق وأدوات الرسم وألعاب الذكاء، مثل الشطرنج.
وينصح مادينا الآباء لتحسين النمو المعرفي لأبنائهم أن يتحدثوا ويتفاعلوا معهم، والأهم هو فهم ما أطلق عليه "مفاتيح" سلوكهم، مستشهداً بأبحاث عالم نفس الأطفال "إيد ترونيك" Ed Tronick وهو من العلماء الذين اهتموا لعقود بدراسة الحياة العاطفية للأطفال والطرق التي يتفاعل بها الآباء معهم، والذي صاغ مصطلح "التفاعل المزمن" Interaction Synchrony ليشير إلى معرفة مفاتيح سلوك الطفل عندما يتعرض لعوامل تحفيز عقلية وعندما نحتاج إلى أن نكون معه.
وتطبيقاً لذلك المفهوم يرى العالم مادينا أنّ أسوأ شيء لنمو الطفل العقلي هو شاشة التلفزيون، مقترحاً أن يوفر الآباء "مصنع شوكولاتة" في منزلهم لأبنائهم وهي غرفة يتم تصميمها لنمو مخ الطفل، مشتقة من الرواية الشهيرة للكاتب Willy Wonka تضم مكاناً للرسم وآخر للتلوين وآلات موسيقية، وخزانة مكتظة بملابس التنكر، مكعبات، قصص مصورة وتروس، ما يتيح الفرصة لانطلاق خيال الطفل.
الخرافة الثالثة:
أنّ استمرار الآباء في ترديد القول للأطفال أنهم أذكياء سوف يدعم ثقتهم بأنفسهم.
ويستعير جون مادينا تعبير العالمة كارول دويك Carol Dweck المتخصصة في علم الاجتماع بجامعة ستانفورد الأمريكية "مدح العقلية المتحجرة" fixed mindset praise؛ حيث يشبّه تأثير استمرار ثناء الآباء على المستويات العقلية لأطفالهم منذ مرحلة الحضانة بتأثير المادة السامة التي تدمر الشخصية ومن الأساليب الخاطئة في التربية؛ لأنها تجعل عقل الطفل من العقول المتحجرة المتمركزة حول المدح والثناء وهو ما يئد قدراته الفكرية والعقلية في مهدها.
فعندما تقول لطفلك "أنا فخورة بك لأنك حصلت على الدرجة النهائية في الامتحان" أو "فخورة بك لأنك ذكي وشاطر" تجعل عقله متحجراً ويصبح إنجازه العلمي أشبه بالمادة المخدرة التي ترتبط لديه شرطياً بسلطة والديه وثنائهما عليه ويترسخ في عقل الصغير إذا حصل على درجات ضعيفة أنه محدود الذكاء وسينال غضب والديه جراء ذلك، ويدور الطفل في فلك دوائر متضاعفة من الإحساس بالفشل الذاتي الذي يتجذّر داخل عقله ويحد من قدراته العقلية حتى ولو كان من الأذكياء، وإذا التحق بجامعة شهيرة، مثل "هارفارد" يصاب بالإحباط والفشل تحت نير البيئة الذكية المحيطة به.
مدح العقليّة الناميّة growth mindset praise:
وينصح العالم الآباء الراغبين في التحاق أبنائهم بواحدة من جامعات القمة باتبّاع أسلوب المدح الذي يركز على نمو العقل بالقول: "أنا فخور بك... لأنك استذكرت دروسك باجتهاد".
ويفسر الكاتب أنّ ذلك الأسلوب يلعب على وتر المجهود وليس على قدرات الطفل؛ فالآباء الذين يثنون دوماً على مجهود الأطفال وليس إنجازاتهم أو درجة ذكائهم وما يتمتعون به من مواهب، ينشئون أطفالاً يستمتعون بما أطلق عليه "مادينا" السباق داخل المشكلات ويسعدون بمواجهة التحديات.
والثمرة المباشرة لذلك الأسلوب في التربية العقلية، ألا ينهار الطفل إذا حصل على درجات منخفضة في عامه الدراسي، إنما يتمتع بالسيطرة على الأمر، والأهم أنه لا يعتبر ذلك فشلاً شخصيّاً، بل لأنه لم يستذكر دروسه جيداً، ويتمتع أيضاً هؤلاء الأطفال بالتركيز العالي والدأب في البيئات الدراسيّة الصارمة.
وفي مقابل الخرافات التي تسيطر على عقولنا ونحن نربي أطفالنا، يقدم "جون مادينا" ثلاثة مبادئ مهمة يسترشد بها الآباء في عملية التربية.
البذور والتربة:
وقام بمناقشة دور كل من الوراثة عبر الجينات والعوامل الاجتماعيّة في تشكيل عقل الطفل والتأثير على عملية تربية الآباء لأبنائهم.
وقد أثبتت الأبحاث أنّ وظيفة المخ الأوليّة هي بقاء الإنسان وليس التعلم وأنّ الذكاء أكثر من مجرد "مخ بشري"، ويعتقد "مادينا" أنّ الطبيعة والتنشئة يمتزجان معاً في عملية نمو مخ الرضيع وهو ما يطلق عليه البذور الجينية وتأثير "التربة" الاجتماعية؛ فالبذرة الجيدة وهي الطبيعة البشرية التي خلقنا بها لا بدّ لها لتزدهر من توافر بيئة صالحة في العائلة والمجتمع. والنصيحة العمليّة التي يقدمها للوالدين هي: امدح جهد الطفل وليس مقياس ذكائه "IQ" وامنحه عواطفك التي تشبع حواسه، وأخيراً النظام+ قلب دافئ= طفل مثالي. ويوضح أنّ "البذور" هي الحمض النووي والكروموسومات التي نخلق بها جميعاً وهي تحتاج إلى بيئة صالحة لنمو طفل ناجح وسعيد.
وأهم عوامل البيئة الصالحة هي الأسرة؛ ويطالب الكاتب الآباء بمحاولة عدم الشجار أمام أطفالهم منذ نعومة أظفارهم، مؤكداً أنّ الشجار الدائم بين الأبوين يؤثر على الجهاز العصبي للصغار وحياتهم الاجتماعية على حد سواء، كما أنّ عدم التوصل لحلول للمشكلات الأسرية يصيب الأطفال بأمراض واضطرابات نفسية.
إلا أنّ هناك ضوءاً في آخر النفق، وهو أنه على الآباء أن يتوصلوا لحلول لمشكلاتهم أمام الأطفال، ويشير "مادينا" إلى أنّ ما يلحق الضرر بمخ الطفل من الناحية العضوية ليس الشجار بين الآباء، إنما عدم تسوية خلافاتهم وإيجاد حلول لها.
قوة التعاطف والصداقة:
ويقدّم "مادينا" نصيحة ثمينة للأسرة للاهتمام بالنواحي العاطفية في تربية أطفالهم ووضعهما في المرتبة الأولى دوماً، محدّداً بعض التوجيهات التي نحقق بها الإشباع العاطفي لصغارنا، أبرزها وجوب أن نصف حالاتنا والعواطف التي نمر بها في مواقف الحياة المختلفة ونفسرها للطفل ومن ثم يتدرب على التعاطف مع الآخرين سواء في المدرسة أو الجيران.
ويوضح "مادينا" أنّ الأطفال الذين يخرجون من قوقعة ذواتهم لفهم مشاعر الآخرين، يصبحون أكثر قدرة على التحكم في البيئة المحيطة بهم وتكوين صداقات متينة، ويحصلون على درجات أعلى في مراحل التعليم المختلفة، مشيراً إلى نتائج دراسة أجريت في جامعة "هارفارد" الأمريكية عن النمو تؤكّد أنّ الصداقة هي المؤشر الوحيد والأفضل لسعادة الطفل عندما يصبح بالغاً.
ولا يقتصر سحر الإشباع العاطفي فقط على استقرار الطفل في صداقاته وزواجه في المستقبل، إنما يمتد أثره إلى تشكيل ذكاء وقدراته العقلية.
الطفل كائن بشري مثلنا:
في نهاية المطاف، يقول العالم "جون مادينا" إنّ المغزى الرئيسي من كتابه أن يدرك الأبوان حقيقة مهمة، وهي أنّ الطفل ما هو إلّا إنسان حقيقي منذ لحظة مولده وليس انعكاساً لخبرات والديه ونجاحاتهما وإخفاقاتهما في الحياة.

المصدر: البيت العربي، العدد 19.


التعليقات (0)

اترك تعليق