الإهانات المتبادلة بين الوالدين تنسف "النموذج العاطفي" للأبناء
هناك رأي تربوي يقول إن الطفل الذي ينشأ في كنف والدين غاية في الانسجام والاتفاق في مشاعرهما -تكون تربيته ناقصة لا تؤهله لمواجهة الحياة-؛ ذلك أن الطفل سيعرف كغيره من الأطفال والكبار أن هناك غضباً يبحث لنفسه عن تعبير. بينما هناك غضب أو انفعال هادئ يحتاج إلى تعبير هادئ أيضاً، وهناك غضب ثائر يبحث لنفسه عن تعبير انفعالي ثائر.
صحيح أنه من الأفضل أن يتعلم الطفل حقيقة الغضب من أناس آخرين غير والديه، لأن اطمئنان الطفل الشخصي والأساسي يحتاج دائماً إلى تماسك العلاقة بين الوالدين، ويحتاج إلى انسجام الاثنين في مواجهة مسؤوليات الحياة، وصحيح أن عدداً كبيراً من هؤلاء الذين نشأوا في بيوت قادرة على التمييز الدقيق بين الصواب والخطأ هم الذين تقدموا في الحياة لأن آباءهم كانوا يكتمون الغضب فلا يظهر بشكل حاد، لأن هؤلاء الآباء حاولوا أن يبتعدوا بأبنائهم عن آثار الغضب العنيف، حتى لا تنعكس آثاره على الأبناء، لكن من الصحيح أيضاً أنّ كتمان الغضب بشكل صارم لا يمنع الأطفال أبداً من الإحساس بوجود شيء ما غير طبيعي في سماء العلاقة بين الوالدين.
طريقة التعبير:
إذن كيف يختار الزوجان طريقة التعبير المتحضرة لأي خلاف بينهما؟
يقول الدكتور بنيامين سبوك: “إن طريقة التعبير المتحضرة لأي خلاف أمر في غاية الأهمية للتنشئة الاجتماعية للأبناء، فالاعتراف بطبيعة الخلافات الزوجية لا يعني أننا ندعو إلى أن تقذف الزوجة زوجها بطبق عندما تغضب منه، ولا نتصور أن يصفع الزوج زوجته إذا شعر بضيق منها، إن هناك أنواع من الإهانات البالغة التي تدمر الروابط الوثيقة بين الزوجين، وتصيب الحالة العاطفية بنوع من الشروخ التي يصعب إصلاحها. إن ذلك لو حدث أمام الطفل فإن آثاره تستمر في تدمير اطمئنان الطفل إلى زمن بعيد. إنها تدمر الإحساس بالأمان في أعماق الابن وتجعله يشعر أن”النموذج العاطفي” يهتز ويجعله يتشكك في معظم العلاقات التي هي من هذا النوع، ويستمر إحساس الابن بالعار والخجل والذنب”.
ويكمل سبوك: “من المهم أن يُظهر الوالدان للطفل أن هذا الخلاف مسألة عرضية، وأن نشرح للطفل بواقعية وهدوء أن الخلاق أمر طبيعي يأتي إلى حياة كل إنسان ويذوب بسرعة. إن نشوء الخلاف ليس كارثة، بل إنه ضروري، لكن لا بد أن نجعله غير مزعج للطفل، ولابد أن نذكر الطفل أننا أناس منطقيون نرغب في بناء حياتنا. فليس المهم إذن هو طريقة الخلاف، أو على ماذا يكون الخلاف بين الأب والأم أو حتى عدد مرات الخلاف، إنما أهم ما يجب أن ننتبه له هو، وما تأثير الخلاف على العلاقة الأساسية بين الزوجين؟ وهل نختار طريقة التعبير المتحضرة ذات الأسلوب الراقي في أي خلاف؟ فمن المهم أن يؤكد الوالدان للأبناء أن الحب بينهما قوي، وأن الاحترام بينهما قائم -وأنهما لا يختلفان حول أهداف الحياة الأساسية، وهي تربية الأبناء ومساعدتهم في بناء المستقبل- وأن الخلاف كان حول مسائل ليست خطيرة. إنه خلاف مثلاً حول توجيه دخل الأسرة إلى مزيد من أوجه الاتفاق المفيدة أو أن الأقارب يجب أن يعاملوا بطريقة لا تسمح لهم بالتدخل في الحياة الشخصية للأسرة، وأنهما يحاولان دائماً أن ضعا نهاية لهذا الخلاف”.
ويضيف سبوك ”من الأفضل للوالدين أن يوضحا للطفل حقيقة الخلاف وأنهما ما زالا يحب أحدهما الآخر حتى لا ينزعج وحتى لا يسبب له هذا الانزعاج سلسلة من الاضطرابات لا نهاية لها. ويجب أن يوضح الوالدان للطفل أن الكبار أيضاً يغضبون ويختلفون “ويتضايق” بعضهم من بعض ولكن كل ذلك ينتهي لتبدأ رحلة الحياة صافية بعد ذلك. ولست أعني أن على الآباء والأمهات أن يستمرا دائماً في توضيح مسائل الخلافات كلها للأطفال. فليس من المعقول أن نظل نحن الكبار نختلف ونتشاجر، ثم نحول الصغار إلى قضاة دائمين. إننا نعرف أن الخلاف بين الأزواج شيء يحدث، وطبيعي أن يحدث. المهم دائماً أن نعرف عدد مرات الخلاف وزن نقللها وأن نتحكم نحن في مشاعرنا أثناء الخلاف ولا نحاول أن نعكس ذلك على الطفل. إن بعض الزوجات ينظرن إلى الأبناء على أنهم السبب الوحيد الذي يربطهن بهؤلاء الآباء. إن بعض الأزواج ينظرون إلى الأبناء والنظرة تحمل معناً واحداً: “لو لم كن عندي أبناء لكنت تخلصت من الحياة مع هذه الكارثة التي تزوجتها ويا لي من مغفل حين تزوجتها، إن ذلك ما يسمى “حالات الطلاق العاطفي” أي أن ينفصل كل من الزوجين نفسياً عن الآخر وهذه الحالات تسبب الانزعاج الكامل للطفل. تجعله ينظر إلى الحياة بقلق. تجعله يقع في سلسلة لا متناهية من العقبات النفسية تجعله يكره الحياة نفسها لأنه يعاني من الإحساس بأنه عبء على الأبوين”.
المصدر : مجلة العلوم الاجتماعية.
اترك تعليق