مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مغبونات بعقول لامعة

مغبونات بعقول لامعة:ندرة النّساء بين مشاهير العلم وعلاقته بطبيعة الأداء العقلي والهيمنة الذكورية

هل لندرة النّساء بين مشاهير العلم علاقة بطبيعة الأداء العقلي للمرأة، أم أنّ العقول النسائيّة اللامعة والمؤهلة للبريق في مجال العلم يتمّ إطفاؤها بهيمنة ذكورية تتغلغل في كل المجتمعات وتبدأ من التربية والبيوت؟ موضوع جدير بالمناقشة، لعلّه يمنع وأد عقل لامع بين بناتنا وأخواتنا.
الأمر مثير للدّهشة حقّاً! إذ قلّما يرد إسم امرأة في واحد من حقول العلم المختلفة. واللاّتي اشتهرن من النّساء في سائر حقول التّخصص العلمي لا يتجاوز عددهنّ عدد أصابع اليدين، بينما تجد عدداً لا يحصى من مشاهير الرّجال في المقابل!
لماذا لا تُقبِل المرأة على التّخصص في العلوم؟ أم أنّ فطرة المرأة وتكوينها الطبيعي لا يؤهّلانها لذلك؟! وإذا كانت المرأة في العصر الحاضر تزاحم الرّجل في كلّ نشاط وعلى كلّ صعيد، بما في ذلك ألعاب القوى وكرة القدم والتّزلّج على الجليد، وكذلك الصّعود إلى الفضاء، فلماذا تحجم المرأة عن مزاحمة الرجل في حقل العلوم؟!
الحقّ أنّ غياب المرأة، أو، في القليل، عدم بزوغ نجمها، على مسرح البحث والتّخصص العلمي، ظاهرة إجتماعيّة تعمّ المجتمعات البشريّة كافّة، متقدّمة كانت أو متخلّفة. وعلى الرّغم من تزايد أعداد النّساء التي تزاحم الرّجال في مختلف المجالات، فلا يزال النبوغ والشّهرة وذيوع الصّيت وقفاً على الرّجال دون النّساء!
وقد تصدّت بعض الجامعات وأكاديميّات البحث العلمي لبحث هذه الظّاهرة الإجتماعيّة، ومعرفة الأسباب ورائها. والسّطور التاّلية تتضمّن إستعراضاً لبعض هذه المحاولات، وبياناً لبعض الأسباب.
الطفولة المبكّرة
الظاهر من دراسات علم النّفس أنّ سلوك الأطفال يختلف باختلاف جنسهم ذكورة أو أنوثة. فالذكور من الأطفال أكثر ميلاً إلى الحركة والنّشاط العضوي، بينما تكون الإناث بشكلٍ عام أكثر هدوءاً وأقل صخباً. ويظهر "الإستقلال" عند الذّكور في وقت مبكر قبل الإناث، كما يتّضح من عناد الطفل وإصراره على رأيه.
كذلك تختلف ميول الأطفال بإختلاف جنسهم. فالذكور يميلون في سنّ مبكّرة إلى ألعاب عضليّة، سرعان ما تتجه إلى طبيعة عقليّة، بمعنى أنّ ألعابهم تتدرج بحيث تتطلّب درجة زائدة من التفكير وإعمال العقل. بينما تميل البنات إلى الألعاب الهادئة ذات الطابع الفنّي، مثل هدهدة دمية على أنغام الموسيقى، أو غناء أناشيد خفيفة في حلقات راقصة.
ومن غير المعروف ما إذا كانت هذه الميول فطريّة يولد بها الطفل، أم أنها مكتسبة من البيئة. ذلك أنّ إختلاف السلوك والميول ليس مطرداً بصورة مطلقة، ولكن له إستثناءات كثيرة. فأحياناً تكون البنت أكثر حركة ونشاطاً من شقيقها الذكر، وقد تكون أكثر إقبالاً منه على الألعاب العقليّة منها على ألعاب الإناث الهادئة. إلا أن المؤكد أن البيئة تلعب دوراً مهماً في توجيه سلوك وميول الأطفال، خصوصاً في محيط الأسرة قبل أن يخرج الأطفال إلى المجتمع. فالملاحظ أنّ الآباء بصورة عامّة، أكثر إهتماماً وإقبالاً على أطفالهم الذّكور منهم على أطفالهم الإناث. وقد يكون هذا هو السبب في نشوء الإستقلال في وقت مبكّر عند الذّكور.
أمّا الأمّهات، فمعظمهنّ يمنحن وداً أكبر لأبنائهنّ الذّكور. وإذا نشأت حاجة منزليّة تتطلّب معونة أو مساعدة، فالغالب أن تستدعى البنت لتقوم بهذا الدور، الأمر الذي يتيح للطفل الذكر حريّة أكبر للعب والنّشاط، إذ يتحرر من الواجبات والتّكاليف.
من جهة أخرى، فإنّ معظم الأعمال المنزليّة التي تستلزم مهارة عضليّة ودرجة من التّفكير، غالباً ما يستدعى الطفل الذكر لمشاهدتها ومتابعة خطوات عملها. وكثيراً ما يصطحب الآباء أبنائهم الذكور لمعاونتهم وهم يصلحون سيّارة مثلاً، أو وهم يغرسون بعض الأشجار في حديقة المنزل، أو يصطحبونهم في رحلة للصيد أو للتزحلق على الماء.
والمؤكّد أنّ هذه الأنشطة المختلفة تفتح مدارك الطفل الصغير على عالم مملوء بالأدوات والآلات، وتهيئ لعقله الصغير أن يستوعب هذه الأمور في سن مبكرة، مما ينمي عنده شعوراً بالألفة. وخلاف ذلك هو ما يحدث مع الطفلة الأنثى التي تقضي معظم وقتها إلى جوار أمّها, منخرطة في أعباء وتكاليف منزليّة لا تكاد تنتهي.
دور التّعليم
الذّهاب إلى المدرسة منحنى تحوّل كبير في حياة الطّفل، يودّع فيه حياة "العزلة المنزليّة" والإعتماد على الأبوين، إلى حيث تبدأ أولى صور المنافسة الإجتماعيّة وإثبات الذّات.
وعادة تتفوّق البنات في سنوات الدّراسة الأولى على الذّكور. فكما أسلفنا أنّ الذّكور أكثر ميلاً إلى الحركة والنّشاط منهم إلى الهدوء اللاّزم للإستيعاب وإكتساب المعرفة. إلاّ أنّ هذا الوضع سرعان ما يتغيّر مع تقدّم سنوات الدّراسة، ودخول "العلوم العقليّة" (كالرّياضيّات) إلى منهج الدّراسة. فعندها يبدأ الذّكور في إحتلال الصّفوف الأولى، في الوقت الذي تتراجع فيه معظم الفتيات إلى المؤخرة. وقد تستمر بعض البنات في التفوق، خصوصاً في الآداب واللّغات والتّاريخ (العلوم النّظريّة).
وتزداد الفوارق حدّة، حين تبدأ "الفصول العمليّة" في علوم مثل علوم الكيمياء والفيزياء والتاريخ الطبيعي. إذ تثبت الملاحظة المتكرّرة أنّ الذّكور أكثر إقبالاً على إجراء التّجارب العمليّة، وأكثر صبراً على إستقراء النتائج وعمل الحسابات!
والطريف – بصدد دور التعليم في توجيه التخصّص– أنّ معظم مدرّسي العلوم من الذّكور. ومن النادر أن تدرس الكيمياء أو الفيزياء أو التاريخ الطبيعي سيّدة! وهنا لا تتوافر "القدوة" أو "النموذج" للطالبة الأنثى، على العكس تماماً من الطالب الذّكر.
وحتّى الكتب التي يدرس منها الطلبة تلك العلوم، تمتلئ بأسماء الرجال المشاهير في الحقل. وقد يخلو الكتاب تماماً من ذكر إسم سيّدة نبغت في هذا الحقل أو ذاك من حقول العلم، الأمر الذي يعني إنعدام القدوة من جديد.
ومما يزيد من عزوف الطالبات عن المواد العلميّة، ويقلّل من رغبتهنّ في التخصص العلمي، أن مدرّسي العلوم– وكلهم أو معظمهم رجال – يولون إهتماماً أكبر بالطلبة الذّكور، فيوجهون إليهم الأسئلة، ويختصّونهم بالشرح والتّوضيح. وهذا الإتجاه سائد في معظم المداس الثانويّة المختلطة، كما ظهر من دراسة ميدانيّة قامت بها باحثة إجتماعيّة تدعى "كارول ديك"، من جامعة "إلينوى" في الولايات المتّحدة.
وفي دراسة مشابهة أجراها "معهد التكنولوجيا" في "مانشستر" (المملكة المتّحدة) بهدف معرفة سبب إحجام الفتيات عن إقتحام المجال العلمي، اتّضح أنّ طالبات المدارس الثّانويّة تدور معظم أحاديثهنّ عن العاطفة وأحلام الزّواج الورديّة. ومن النّادر أن توجد فتاة تولى إهتمامها  كلّه للدّراسة في هذه السنّ، الأمر الذي يعني ضمناً أن التفكير في "نوع المستقبل" غير وارد في الحسبان إلاّ في إطار عاطفي.
وعلى نقيض ذلك يكون موقف الذكور من الطلبة؛ إذ تتبلور أحلامهم في هذه السن (المرحلة الثانوية) وتبدأ تتّضح معالم طريق المستقبل أمامهم. وتنصبّ إهتمامات الطلبة الذكور على تحصيل درجات عالية من التخصص العلمي تتيح لهم الحصول على وظائف مرموقة إجتماعيّاً، وذات دخل مالي فوق المتوسّط.
ظلم الرّجال
يشيع بين العامة والخاصة على السواء أنّ النساء أقل ذكاء من الرجال! وقد أظهرت دراسة من جامعة كاليفورنيا مدى "التلفيق" الذي تقوم به أحياناً بعض الأوساط العلميّة لترسيخ فكرة أنّ المرأة أقل ذكاء من الرجل.
ووفقاً لهذه الدراسة، فإنّ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، والذي شهد بداية تأسيس "علم التشريح البشري" على أسس عمليّة، أشاع بين الناس أن الفص الأمامي في مخ المرأة أصغر حجماً من الفص الأمامي في مخ الرجل. وكان المعتقد في ذلك الوقت أن الفص الأمامي من المخ، هو المسؤول عن "الوظائف العقليّة العليا" وتعرف إختصاراً بالحروف (HMA) مثل الإبداع والتخيّل والإبتكار!
وحينما تقدّم علم التشريح خطوة أخرى إلى الأمام، واتّضح أنّ "الفص الجانبي", وليس الفص الأمامي من المخ، هو المسؤؤل عن الوظائف العقليّة العليا، عاد المشتغلون بعلم التشريح فقرروا أنّ الفص الجانبي في مخ المرأة أصغر منه في مخ الرجل!
والمقصود من صغر أجزاء معيّنة من المخّ هو صغر، أو قلّة الوظائف التي يمكن أن تؤديها تلك المناطق بعينها من المخّ، والتلفيق في موقف علماء التشريح واضح من السياق المذكور. وما يجعله أكثر وضوحاً هو الحقيقة التي تقررت أخيراً عن عدم وجود رابطة بين حجم المخ وبين الوظائف العقليّة التي يمكن أن يقوم بها!
ولا بد أن نذكر هنا أنّ علماء التشريح الذين اتهموا مخّ المرأة بالقصور، كانوا كلهم رجالاً! فهل الرجال ظالمون؟ لن نجيب عن هذا السؤال مباشرة، وإنّما سندع شواهد التاريخ تتكلّم.
عالمات مغبونات
في عام 1912، نشر عالم الفيزياء البريطاني وليام رامسى أطروحة عن  "الوزن الذري" لعنصر الراديوم، وزعم فيها أنّه غير مسبوق إلى المعلومات الجديدة التي تضمّنتها أطروحته. (الراديوم عنصر مشعّ إكتُشِف عام 1898، و"الوزن الذري" هو وزن ذرة واحدة من العنصر).
والحقيقة التي يحفظها التاريخ هي أنّ عالمة الفيزياء الشهيرة "ماري كوري" (أشهر النساء قاطبةً في حقل العلوم) هي أوّل من توصّل إلى "الوزن الذري" لعنصر الراديوم، ونشرت بحثاً حول ذلك قبل صدور أطروحة "وليام رامسي" بعامين على الأقل! وقد أرسلت العالمة المذكورة رسالة إلى "لورد راذرفورد" (عميد المجمع العلمي البريطاني في ذلك الوقت) إحتجّت فيها على كلام "وليام رامسي" في أطروحته.
 وفي عام 1934، تكلّمت الكيميائيّة الألمانيّة "ادا نوداك" عن إمكان "شطر" الذرات إلى وحدات أصغر، وهي الفكرة التي تضمنتها نظرية "الإنشطار النووي" التي وضعها الكيميائي الألماني "أوتو هان"، والغريب بحق أنّ "هان" هاجم في البداية فكرة "نوداك" ووصفها بأنّها "خيال جامح". والغريب كذلك أنّ "هان" منح جائزة نوبل في الكيمياء في عام 1944، عن نظريّته حول الإنشطار النووي، دون أن يَرِدَ أي ذكر لـ "المظلومة نوداك"!
ولن نذهب نستقصي شواهد التاريخ كلها على غبن الرجل للمرأة في حقل العلوم، وسرقة أعمالها في بعض الأحيان. لكن يكفي أن نذكر الواقعة التالية كدليل على ذلك: فقد منح الأمريكي "جيمس واتسون" جائزة نوبل في الكيمياء في عام 1962، لإكتشافه التركيب الكيميائي للحامض النووي في نواة الخليّة الحيّة. والحامض النووي هو المسؤول عن نقل الصفات الوراثيّة، وله شكل مميّز أُطلق عليه "واتسون" إسم الحلزون المزدوج. والحقيقة أن عالمة البللوريات "روزاليند فرانكلين" –  والتي عملت كمساعدة لـ "جيمس واتسون" في أبحاثه على الحامض النووي– هي أوّل من أدخل تعبير "الحلزون المزدوج". وعلى الرغم من إعتراف "واتسون" بذلك, فإن التسمية لا تزال ملتصقة بإسمه في جميع المصادر العلميّة التي تشير إلى الحامض النووي، دون أدنى ذكر لـ "المغبونة روزاليند".
حتّى لا نظلمهن
خلاصة كل ما سلف أن عوامل عدة تؤثر في حياة المرأة، وتحكم توجهاتها العمليّة والعلميّة. وتتراوح تلك العوامل بين التكوين الفطري، وطبيعة النشأة الأسريّة، وتأثير البيئة والمجتمع. والأهم من ذلك كله ظلم الرجل للمرأة وإحتكاره ثمرة نجاحها.
فهل يجوز لنا بعد ذلك أن نسأل: لماذا تحجم المرأة عن إقتحام حقل العلوم؟ وهل نبيح لضمائرنا أن نغمط حق واحدة من بناتنا إن أبدت بريقاً عقليّاً واعداً في مجال العلوم؟


المصدر: مجلّة العربي، العدد 594

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات (0)

اترك تعليق