العدل بين الأولاد
عن الرسول الأكرم(ص) "اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البرّ اللطف".
توطئة:
الإنسان مفطور على حبّ البقاء وبه يدفع عن نفسه الموت بأثمن ممتلكاته ومتعلقاته، وبما أن الموتَ أمرٌ حتمي وهو مخلوق كالحياة ولا يمكنه التخلّص منه فيسلك سبيلاً آخر للخلود من خلال ذريته المتعاقبة، ولأجل ذلك يطلب الوالدان الولد طلباً حثيثاً وينفقان الكثير الكثير في سبيل الإنجاب، وقد اصطُلح عليه في الروايات بميراث الله من عبده المؤمن ومن هنا يحكي لنا القرآن عن ألسنة بعض الأنبياء والصالحين طلبهم من الله سبحانه وتعالى أن يهب لهم الذرية وهنا يشترك عموم الناس بأصل الطلب إلا أنهم يفترقون عن الأنبياء بأن الأنبياء والصالحين يقرنون طلبهم بصفات الطيبة والصلاح، كما جاء في سورة آل عمران حيث قال«هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء»1، وكذلك في قوله تعالى: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ»2، وفي بيان التنزيل لابن شهر آشوب عن علي(ع) قال: "ما سألت ربي أولادا نُضر الوجه، ولا سألته ولداً حَسَن القامة ولكن سألت ربي أولاداً مطيعين لله وَجلين منه حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرّت عيني" 3 وكذلك قال رسول الله(ص): "ميراث الله عز وجل من عبده المؤمن ولدٌ يعبده من بعده ثم تلا آية ذكريا: «فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»4 "5
نعم مطلب جميع الآباء والأمهات أن يشكّل الولد قرة العين لهما كما جاء به التنزيل «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ»6.
التعامل مع الأولاد بعدل، ضمن المراحل التالية:
المرحلة الأولى: من حين استيبانه جنس الجنين أو الولد بل ربما قبل ذلك، فان كانا كارهين لمجيء الأنثى ومحبّين للذكر أدّى ذلك إلى رجحان كفة على أخرى على المستوى العاطفي والقلبي مما يؤدي إلى عدم التساوي في التعاطي العملي بعد الولادة، وبذلك يكونان قد فقدا العدل ولو بنسبة ضئيلة.
ومن الضروري أن نعالج هذه المشكلة منذ البداية، والطريقة الأفضل لتحقق العدالة بين الذكر والأنثى داخل الأسرة يتمّ بقلع التمايز على أساس الجنس من أعماق النفس، وهنا عندما يصحح الزوجان نظرتهما إلى المولود المرتقب وبدلاً من أن يكون التمايز على أساس الجنس إلى التمايز على أساس الطِيبة والصلاح وقرة العين فيصلان الى النتيجة المرضيّة وهي التعامل بعدالة، ولتصحيح الرؤية منذ البداية نعتمد على مدرسة أهل البيت(ع). كان رسول الله(ص) إذا بشّر بجارية قال: "ريحانة ورزقها على الله تعالى"7.. وكذلك روى الكليني "بأن الله تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلا فرحه الله تعالى يوم القيامة"8 وعن الإمام الصادق(ع): "البنات حسنات والبنون نِعَم، والحسنات يُثاب عليها والنعم مسؤول عنها"9.
ومن مصادر العامة عن النبي(ص): "من كانت له ابنة فأدّبها وأحسن أدبها وعلّمها فأحسن تعليمها فأوسع عليها من نِعَم الله التي أسبغ عليه، كانت له منعة وستراً من النار"10.
المرحلة الثانية: العدالة والمساواة بين الأولاد عملياً وفعلياً، إذ التفريق بين الأولاد داخل الأسرة ينطوي على مخاطر وتهديدات لا تُحمد عقباها، وربما يؤدي إلى أن يخرَّ سقف الأسرة لفقدان قواعدها التي تقوم عليها، فمن جهة سوف يتحول الأولاد الذين يفقدون العدالة إلى عاقين لوالديهم، ومن جهة أخرى سيحقدون على بقية إخوتهم، والذي يتحكم بمشاعرهم هو الحسد والبغض، وتعظم هذه الحالة إذا كان التمايز بين أفراد الجنس الواحد كما لو فضّل الأبوان إحدى البنات على أخواتها، أو أحد الأولاد على إخوته.
وهنا لابدّ ان يتحلّى الوالدان بالمزيد من الحكمة والوعي وعليهما أن يدركا جيداً فكما أنهما يحبان أن يعدل أبناؤهما معهما فعليهما أن يعدلا بينهم والى ذلك أشار النبي(ص) بقوله: "اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف"11. وفي كنز العمال زيادة، اعدلوا بين أولادكم في النِحل.
أ- وفي بعض الأحيان فانّ الأبوين لا يفرقان بين أبنائهم أبدا، ولكن بعض الأولاد أو أحدهم لديه شعور بالتمايز بينه وبين أخوته، فيجب على الوالدين المبادرة إلى معالجة هذه الحالة لأنها تحمل بذوراً ليست جيدة، وإهمالها من قبلهما ستؤدي إلى نتائج يصعب معالجتها، ولا يصح منهما آن يكتفيا بالقول بعدم التمايز لديهما بين الأولاد بل عليهما آن يحصدا من صدر ابنهما الشعور المذكور حتى ولو كان منشأه التوهم لديه.
تبصرة:
ربما يحصل تفاضل وتمايز بين الأولاد من قبل الوالدين ولكن نتيجة لفعل وليس ابتداءً، كتفضيل الولد الصالح على غيره أو البارّ بوالديه على العاقّ، هنا التفاضل منطقياً ولا يضادّ العدل بل ربما يقال عدم التفاضل ولو القلبي مخالف للعدل ولكن إذا أراد إصلاحه والحفاظ على المودّة بينهم عليه ان لا يظهر مفاضلته بينهم كما روى مسعدة بن صدقة قال: قال: جعفر بن محمد قال والديّ: "والله إني لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي، وأكثر له المحبة، وأكثر الشكر، وان الحق لغيره من ولدي ولكن محافظة عليه منه ومن عيره لئلا يصنعوا ما فعل بيوسف وأخوته..."12.
ب- أن يكون التعاطي والتعامل بعدل ومساواة بين الأولاد في كل شيء في النظرة والقبلة، فالطفل لا يقف عند حدود القبلة وإنما يثير في نفسه الوهم والشك بخلفية التمايز من قبل الوالد أو الوالدة واليه أشار الرسول الأعظم صلى الله عليه واله بقوله: "إن الله يحب أن تعدلوا بين أولادكم حتى القبل"13 وكذلك روى عنه(ص) (إنه أبصر رجلا له ولدان فقبل أحدهما وترك الآخر فقال(ص): "فهلّا واسيت بينهما؟!"14.
عن النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطية فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه واله فأتى النبي(ص) فقال إني أَعطيت ابني من عمرة عطية فأمرتني أن أشهدك، فقال: "أُعطيت كل ولدك مثل هذا"؟ قال: لا، قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، لا أشهد على جور"15.
ج- إذا كان لا بدّ من التفاضل فليقدّم الأنثى على الذكر كأن يبتدئها بالعطية قبل الذكر وليصافحها وليقبلها قبل الذكر وهنا التفاضل في التقدم والتأخر فقط، وأما أنه يقبل الأنثى دون الذكر أو يفضّلها بالعطية ويمنع الذكر فهذا يخالف العدالة.
المرحلة الثالثة: ما بعد وفاة أحد الوالدين كما يفعل بعض الآباء حيث يتفاجأ الأبناء بعد فتح الوصية بان أحد الأبوين فضلّ بعضهم على البعض الآخر وهذا لا يقلّ خطورة عن المفاضلة في مرحلة حياتهما، لأنه سيؤدي بالتالي إلى الحقد على الوالدين المتوفّين مضافاً إلى زرع الحسد والشقاق والتنازع الكبير على التركة، ولذلك اعتبر الشرع أن الحيف في الوصية من الكبائر ويدلّ عليه ما رُوي عن أمير المؤمنين(ع): "من أوصى ولم يحف ولم يضار كان كمن تصدق به في حياته"16. فالمفهوم من القول أن الحيف في الوصية ضارّ.
الهوامش:
1- آل عمران 38
2- الصافات 100
3- بحار الأنوار:ج104-ص98
4- مريم 5-6
5- بحار الأنوار: ج104-ص101
6- الفرقان 74
7- بحار: ج104 –ص98
8- فروع: ج6-ص6
9- بحار: ج78- ص 206
10- كنز العمال ج45-ص 391
11- بحار: ج104-ص93
12- تفسير العياشي: ج2-ص166
13- كنز العمال: ج35 -45
14- بحار: ج74-ص84-وتفسير نور الثقلين ص99
15- كنز العمال: خ45957
16- وسائل الشيعة: ج13-ص356.
المصدر: مجلة المحراب، العدد: 1062.
اترك تعليق