الحياء بين الجرأة الممدوحة والمذمومة
يعاني مجتمعنا الإسلاميّ اليوم من آفاتٍ فتّاكة في السلوكيات تتنافى مع التعاليم الدينية وتتضارب في كثير من الأحيان مع العادات والتقاليد الاجتماعيّة. ومن هذه الآفات قلّة الحياء لدى عدد كبير من الفتيات، اللواتي يعكسن مفهوم المعاصرة والتحضّر باللباس الضيق، والاختلاط مع الرجال ورفعه الصوت، واضطراب السلوك، والضحك والمزاح...، إلى غير ذلك من التصرّفات التي تخدش الحياء عند المرأة خصوصًا.
في هذا التحقيق نحن بصدد إلقاء الضوء على موضوع الحياء، وذلك من خلال الإجابة عن بعض التساؤلات التي تدور حول معنى الحياء، وطبيعته، وهل يمكن لمن لا حياء عنده أن يرتدع عن المعاصي، إضافة إلى كشف بعض الأسباب التي تؤدي إلى قلة الحياء، وعرض بعض الأساليب التربوية الفاعلة في هذا المجال.
*بين الجرأة المحمودة والمذمومة، مؤيدون ومعارضون:
تضاربت آراء المجتمع في موضوع الحياء؛ فمنهم من وجد في الجرأة المحدودة ضرورة في وقتنا الراهن، ومنهم من اعترض وأكّد على ضرورة الحياء تحت أي ظرف؛ إذ إنّه تاج المرأة الذي يرفع من مكانتها، وهذا التاج لا تفنيه أو تصدئه الأيام.
تعتبر الأستاذة منال (مدرّسة) أن حياء المرأة يتجلّى في اتّزانها وأخلاقها داخل المنزل وخارجه، فتقول: "أنا لست معقّدة وبعيدة عن المجتمع والتطور الذي يطاله، ولكن أنا مع اتّزان المرأة في كل شيء؛ في لباسها، ومشيتها، وفي حوارها وتصرفاتها مع الأهل أو أبناء المجتمع... وهذا لا يعني -أبدًا- أن تكون مسلوبة الحريّة والمبادرة العلمية والعملية، بل على العكس يمكن لأيّة واحدة منّا أن تتألّق في دراستها وعملها في المجتمع، إن كانت تمتلك حرّيّة مجبولة بالحياء الذي أكّد عليه ديننا، وعنده سيكون لها مكانة مميّزة وسمعة حسنة، كما ستحظى بالاحترام أينما حلّت". وتؤكّد الأستاذة منال أنها تعمل على توعية طالباتها، وتحذرهنّ من الوقوع في شَرَك "الجرأة الوقحة".
أما السيدة سامية (ربة منزل)، فهي وإن كانت تتقاطع مع الأستاذة منال في بعض الأفكار، ولكن التقاليد الجائرة التي قيّدتها في صباها جعلتها تنظر نظرة مغايرة إلى تربية الفتاة خصوصًا في موضوع الجرأة، فتعبّر عن ذلك قائلة: "عشت في جوٍّ يصعب فيه إبداء الرأي في أي شيء، لدرجة أنّ دخول الجامعة كان ممنوعًا نظرًا للاختلاط، ومع الأيام تطوّر المجتمع وأصبح للمرأة مكانتا ورأيها، وشيئًا فشيئًا أضحت جرأة المرأة مقبولة رغم تخطّيها الحدود. وفي هذه الظروف أصبح حياء الفتاة وخجلها يعدّ ضعفًا يعيقها ويسلبها أبسط حقوقها، وهكذا يقطعها قطار الحياة".
وتكمل السيدة سامية "ألقّن اليوم بناتي تربية مغايرة للتربية التي تلقيتها، فأنا أربّيهنّ على الجرأة المقبولة التي تجعل منهنّ نساءً قادرات على تحقيق ذاتهن في المجتمع، لكن مع حفظ الحياء، حتى لا تفوتهن الفرص الثمينة في الحياة".
بينما يرفض رضا (مهندس كمبيوتر - ٢٦ عامًا)، الارتباط بفتاة تخلط الجرأة والحرية بقلّة الحياء، ويطمح بالاقتران بفتاة "راكزة وواعية وتتّصف بشيء من الخجل"، ويشرح رأيه قائلا ً: "لست مكبّلاً بالتقاليد، ولكن أنا أنظر إلى الدين أولاً، وأتخوّف من ممارسات الفتيات الجريئات ثانيًا، فكثيرًا ما يشعرني بعض الفتيات بالخجل، فتجد أنهن لا يتوانين عن رفع أصواتهن بالضحك والمزاح في الأماكن العامة أو على الطرقات، ولا يراعين أحًدا، وهذا بالطبع لا يناسب أي شاب عاقل، فبالنسبة إليّ المرأة شفّافة بحيائها وأخلاقها، وهذا ما يجعل لها خصوصية في بيتها وفي مجتمعها". كما لمّح إلى أن الشاب سواء كان ملتزمًا أو غير مبالٍ بالتعاليم الدينية، فإنه في النهاية يفتش عن الفتاة المهذّبة، وبالتالي التي تمتلك من الحياء ما يردعها عن ارتكاب الأخطاء الجسيمة.
أما السيدة آمال س. (والدة لأربع فتيات)، فتجد أنّ تربية الفتاة هذه الأيام أمر مرهق؛ إذ لا يمكن أن "تغفل العين" عنها لحظة واحدة، لأنه لم يعد للحياء مكان؛ تقول: "أخاف على بناتي، وأحرص على تربيتهنّ تربية صالحة قدر الإمكان، لكن كثيرًا ما أقلق من الصحبة والرفاق. ففي هذا الوقت لا يمكن أن نطمئن لأية فتاة، لذا في معظم الأحيان أتدخل في اختيار رفيقاتهن، فكما تعلمون "بنت بتنزع بنت"، ونحن في زمان أصبحت الفتاة تبالغ في جرأتها نظرًا لفشل الأهل في تربيتها، فإعطاء الفتاة هامشًا كبيرًا من الحرية والثقة يجعلها تطمع، ولا تحترم أهلها، وبالتالي تتجرأ على توجيه الكلام لهم دون حياء، كما يجعلها تتكلّم مع الشباب بكل جرأة أمام أهلها وإخواتها دون أن تحسب لهم أيّ حساب". تشرح السيدة آمال وجهة نظرها وهي مستاءة من قلة الحياء المستشري في أوساط مجتمعنا.
*قلّة الحياء: بين الغزو الفكري والانحلال الأخلاقي والديني:
حقّقت المرأة نجاحات كبيرة في شتّى المجالات، وحازت على مراكز مهمة في المجتمع، ولكن بعض الممارسات غير المسؤولة والجريئة، جعل المجتمع يتوجّس خيفة من النساء. وإذا أردنا أن نقف وراء الأسباب المؤدية إلى هذه الممارسات نجد أنها تتنوّع بين التربية غير السليمة، والاختلاط وكثرة احتكاك الفتيات بالشباب إن كان في مجال الدراسة أو في مجال العمل، إضافة إلى خروج الفتاة من بيتها والصحبة الفاسدة وضعف الإيمان لديها، وبالتالي غياب الرادع الديني، الذي كان في من المفترض أن يجنّبها هذه التصرفات. فخروج المرأة إلى ساحات العمل جعل اختلاطها بالرجال أمرًا عاديًا وبالتالي كان سببًا في قوّة شخصيتها وفي زيادة جرأتها، وفي تقلّص عنصر الخجل رويدًا رويدًا لديها، وذلك بعد أن أصبحت مجالسة الرجال ومحادثتهم ومناقشتهم بل مشاجرتهم وممازحتهم أمرًا اعتياديًا.
ومن الأمور التي تقف أيضًا وراء تغيير سلوك بعض الفتيات الحرب الإعلامية والغزو الفكري؛ فالأفكار التي تُعرض في التلفاز وعلى الانترنت غيّرت المفاهيم شيئًا فشيئًا. ولا شك أنّ الإنسان إذا اعتاد على رؤية سلوك معيّن، فإنّه مع الوقت يألفه ويسهل عليه بعد ذلك تقليده. وهذا ما يُلاحظ في سلوك العديد من الأشخاص الذين يتابعون المسلسلات والأفلام الغربية؛ حيث إنّهم يقلّدون ما يشاهدونه، ربما بشكل ربما لا إرادي، وهذا هو الخطأ بعينه؛ لأنّه أدّى إلى تغيير الكثير من مفاهيمنا الدينيّة والأخلاقية بطريقة منمّقة وسلسة، سحبت بساط العفّة والحشمة من مجتمعنا دون أن يلتفت أحد أو يعير الموضوع أهمية كبيرة.
*انتبهي....فقلّة الحياء تؤثّر فيكِ:
ما من شيء يمر هكذا دون أن يكون له تأثير، فكيف بالتصرفات التي تفتقد للحياء؟! في الواقع إنّ لهذه التصرفات تأثيرًا كبيرًا في سلوكيات الفتاة وفي مصيرها ومكانتها في المجتمع. فتَعرّجُ مشية الفتاة وصوتها وضحكتها العالية وصحبتها للشباب وثيابها الضيقة وغير ذلك. لن يزيد في ميزان أخلاقياتها، بل على العكس سيرجح كفّة مساوئها، وبالتالي سيقلّل من احترامها بين الناس وسيشوّه صورتها وسمعتها، وهذا طبعًا سيؤثر فيها بالدرجة الأولى وفي شخصيتها؛ إذ إنها ستصبح مبتذلة رخيصة، وقد تواجه مشكلة في ارتباطها، فالشباب مهما كان وضعهم الأخلاقيّ عندما يقرّرون الارتباط سيرفضون بشكل قاطع الارتباط بتلك الفتاة الجريئة التي لا حدود لتصرّفاتها، وسيسعون وراء الفتاة المهذبة والمحترمة، وهنا تكون الفتاة الجريئة قد وقفت في طريق زواجها بسبب تصرّفاتها غير المسؤولة.
إلى ذلك، فإنّ الفتاة التي لا تعير للحياء أهمية ستكون موضوع حديث الناس، ويُشار إليها بالبنان أينما حلّت، كما ستفقد احترامها في محيطها، وهذه الفتاة، وإن حظيت بالمجاملة والممازحة والإعجاب فمن المؤكد أن ذلك سيكون في حضورها، أما في غيابها فلتكن متأكدة أن ألسنة الناس لن ترحمها وستكشف عن عَوَجِ تصرّفاتها. ولله درّ الشاعر القائل:
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العُودُ ما بقي اللِّحَاءُ
*للمختص: كلمة الفصل...
إن للتقاليد والأعراف دورًا كبيرًا في تحديد مفهوم جرأة الفتاة؛ فمقاييس هذا المفهوم تتغير في ضوء المعايير الاجتماعية والشرعية للمجتمع، الذي يصعب فيه أحيانًا الفصل بين الجرأة المحمودة والمذمومة. وللاطلاع أكثر على هذا الموضوع كان لنا حديث مع د.حسن سلهب المختص في التربية، اعتبر فيه أنّ الجرأة هي: "القدرة على الفعل أو القول حيث يضعف أو يمتنع الآخرون". وأشار إلى أن المعايير تتبدّل تبعًا لتبدّل بعض القيم والقناعات السائدة. ويمكن القول إن الجرأة هي نوع من الخروج عن المألوف في سلوك الفتاة، قد يكون محمودًا أو مذمومًا. ويكمن الفرق في القواعد والمعايير؛ فالجرأة المحمودة تتمثّل في قول الحقّ بغية كشف الباطل، وتتمثّل في مقاومة الظلم بالوسائل والأساليب المشروعة، ويمكن أن نرى الجرأة المحمودة في إبداء الرأي المتوازن أو عرض السؤال الهادف أو السعي لتأمين الرزق. أما الجرأة المذمومة فتتمثل في قول كل ما يحقق المتعة العابرة أو المنفعة الخاصة من دون التقيّد بمبدأ أو قاعدة، وتتجلى في الصوت المرتفع والحركة اللافتة المتحررة من الضوابط، من دون ضرورة أو مبرر عقلي.
ويتابع د.سلهب حديثه في هذا السياق قائلاً: "إن المجتمع بدأ يتقبّل ما يسمى ﺑ ‹‹جرأة الفتاة المحمودة›› عندما وعى الشروط والمعايير المناسبة لسلوك الفتاة، إذ أصبحت الجرأة الملتزمة ليست مقبولة فحسب، بل مطلوبة ومنتظرة أيضًا. وقد غدت الجرأة الواعية غنية بالحق، ومتينة بالعدل، وزاخرة بالموضوعية، وراقية بأنقى المظاهر الإنسانية، إنها صورة أخرى ومختلفة للفتاة كما أرادها الله، لم نتعوَّد عليها كثيرًا في التاريخ الإنساني".
أما بالنسبة إلى الأمور التي تؤدي إلى الإخلال بالحياء عند الفتيات، فيردّها د.سلهب إلى عدة أسباب منها: كثرة الاختلاط من دون ضرورة، القيام بأعمال لا تتناسب مع طبيعة الفتاة وحيائها، كأداء أدوار تنطوي على مغامرات أو منافسات أو بطولات تقوم على الجهد البدني وخشونة الحركة، أو تقليد نماذج غربية أو شرقية لنساء ليس لديهن أية اعتبارات للصورة الخارجية للفتاة، حيث يتم التخلي عن الرصانة والجدّية لمصلحة العبثية وانعدام التوازن. هذا وقد يشكّل ضغطُ الحياة أو الاضطراب النفسيّ سببًا للخروج عن الوقار لدى بعض الفتيات، وهذا أمر يمكن معالجته ضمن الضوابط المقررة للحياء.
ويشير د.سلهب إلى مدى تأثير قلّة الحياء في الفتاة والمجتمع عمومّا، فهو يؤدي إلى انهيار العديد من الضوابط الشخصية والاجتماعية، وتداخل الحدود، وصعوبة الالتزام بشرع الله، وتدهور العلاقات الاجتماعية، ويؤكّد أنّ تأثير قلّة الحياة كتأثير أي سلوك مخالف للطبيعة الإنسانية والفطرة الربّانية، حيث لا يمكن التنبؤ بكل نتائجه التي قد تصل في كثير من الأحيان إلى الخيبة والعزلة والانطواء، وقد تتّجه الأمور إلى الوقاحة وانهيار الضوابط الشخصية.
لذا وتحسبًا من تفاقم الأمور والذهاب نحو الانهيار الاجتماعي، يؤكد د.سلهب على ضرورة بثّ الوعي في صفوف فتياتنا، لنغرس فيهنّ الحياء، ونقيهنّ شَرَك قلّته؛ وذلك عبر عرض تجارب واقعية لنهايات الجرأة المذمومة، وبالتالي مقارنتها بتجارب أخرى لنهايات الجرأة المحمودة. فثمة سِيَر عديدة في التاريخ الإنسانيّ والإسلاميّ يمكن استعراضها في هذا المجال، ولا شك بأن هذا النوع من المقاربات لموضوع الحياء سوف يقدم نماذج تطبيقية للحياء المذموم والمحمود.
*آخر المطاف:
أكدّ الإسلام على الاهتمام بتربية الفتيات؛ نظرًا لطبيعة تركيبتهن الخاصة التي تتطلب رعاية فائقة، وحثّ على غرس الحياء في نفوسهن؛ لأنّه الضابط الذي يضع حدًّا لتصرّفات الفتيات ويردعهن عن كل فعل قبيح، ويجعل منهن زوجات صالحات وأمهات ناجحات.
أخيرًا، أختم بعبارة استوقفتني وأنا أتصفح إحدى الصفحات الداعية إلى احتشام المرأة وحيائها على الفايس بوك، وهي "أنا ابنة لامرأة لم تراقبني يومًا بل علّمتني كيف أستشعر مراقبة الله تعالى لي". هذه العبارة إن دلّت على شيء فإنما تدلّ على أهمية التربية الأخلاقية والدينية في ردع الأولاد، إناثًا وذكورًا، عن ارتكاب المحارم، والالتفات إلى رضا الله - تعالى- عند الإقدام على أيّ عمل.
المصدر: مجلة نجاة، متخصصة في شؤون المرأة والمجتمع، العدد ٣٥، لبنان، بيروت.
تحقيق: زهراء عودة شكر
في هذا التحقيق نحن بصدد إلقاء الضوء على موضوع الحياء، وذلك من خلال الإجابة عن بعض التساؤلات التي تدور حول معنى الحياء، وطبيعته، وهل يمكن لمن لا حياء عنده أن يرتدع عن المعاصي، إضافة إلى كشف بعض الأسباب التي تؤدي إلى قلة الحياء، وعرض بعض الأساليب التربوية الفاعلة في هذا المجال.
*بين الجرأة المحمودة والمذمومة، مؤيدون ومعارضون:
تضاربت آراء المجتمع في موضوع الحياء؛ فمنهم من وجد في الجرأة المحدودة ضرورة في وقتنا الراهن، ومنهم من اعترض وأكّد على ضرورة الحياء تحت أي ظرف؛ إذ إنّه تاج المرأة الذي يرفع من مكانتها، وهذا التاج لا تفنيه أو تصدئه الأيام.
تعتبر الأستاذة منال (مدرّسة) أن حياء المرأة يتجلّى في اتّزانها وأخلاقها داخل المنزل وخارجه، فتقول: "أنا لست معقّدة وبعيدة عن المجتمع والتطور الذي يطاله، ولكن أنا مع اتّزان المرأة في كل شيء؛ في لباسها، ومشيتها، وفي حوارها وتصرفاتها مع الأهل أو أبناء المجتمع... وهذا لا يعني -أبدًا- أن تكون مسلوبة الحريّة والمبادرة العلمية والعملية، بل على العكس يمكن لأيّة واحدة منّا أن تتألّق في دراستها وعملها في المجتمع، إن كانت تمتلك حرّيّة مجبولة بالحياء الذي أكّد عليه ديننا، وعنده سيكون لها مكانة مميّزة وسمعة حسنة، كما ستحظى بالاحترام أينما حلّت". وتؤكّد الأستاذة منال أنها تعمل على توعية طالباتها، وتحذرهنّ من الوقوع في شَرَك "الجرأة الوقحة".
أما السيدة سامية (ربة منزل)، فهي وإن كانت تتقاطع مع الأستاذة منال في بعض الأفكار، ولكن التقاليد الجائرة التي قيّدتها في صباها جعلتها تنظر نظرة مغايرة إلى تربية الفتاة خصوصًا في موضوع الجرأة، فتعبّر عن ذلك قائلة: "عشت في جوٍّ يصعب فيه إبداء الرأي في أي شيء، لدرجة أنّ دخول الجامعة كان ممنوعًا نظرًا للاختلاط، ومع الأيام تطوّر المجتمع وأصبح للمرأة مكانتا ورأيها، وشيئًا فشيئًا أضحت جرأة المرأة مقبولة رغم تخطّيها الحدود. وفي هذه الظروف أصبح حياء الفتاة وخجلها يعدّ ضعفًا يعيقها ويسلبها أبسط حقوقها، وهكذا يقطعها قطار الحياة".
وتكمل السيدة سامية "ألقّن اليوم بناتي تربية مغايرة للتربية التي تلقيتها، فأنا أربّيهنّ على الجرأة المقبولة التي تجعل منهنّ نساءً قادرات على تحقيق ذاتهن في المجتمع، لكن مع حفظ الحياء، حتى لا تفوتهن الفرص الثمينة في الحياة".
بينما يرفض رضا (مهندس كمبيوتر - ٢٦ عامًا)، الارتباط بفتاة تخلط الجرأة والحرية بقلّة الحياء، ويطمح بالاقتران بفتاة "راكزة وواعية وتتّصف بشيء من الخجل"، ويشرح رأيه قائلا ً: "لست مكبّلاً بالتقاليد، ولكن أنا أنظر إلى الدين أولاً، وأتخوّف من ممارسات الفتيات الجريئات ثانيًا، فكثيرًا ما يشعرني بعض الفتيات بالخجل، فتجد أنهن لا يتوانين عن رفع أصواتهن بالضحك والمزاح في الأماكن العامة أو على الطرقات، ولا يراعين أحًدا، وهذا بالطبع لا يناسب أي شاب عاقل، فبالنسبة إليّ المرأة شفّافة بحيائها وأخلاقها، وهذا ما يجعل لها خصوصية في بيتها وفي مجتمعها". كما لمّح إلى أن الشاب سواء كان ملتزمًا أو غير مبالٍ بالتعاليم الدينية، فإنه في النهاية يفتش عن الفتاة المهذّبة، وبالتالي التي تمتلك من الحياء ما يردعها عن ارتكاب الأخطاء الجسيمة.
أما السيدة آمال س. (والدة لأربع فتيات)، فتجد أنّ تربية الفتاة هذه الأيام أمر مرهق؛ إذ لا يمكن أن "تغفل العين" عنها لحظة واحدة، لأنه لم يعد للحياء مكان؛ تقول: "أخاف على بناتي، وأحرص على تربيتهنّ تربية صالحة قدر الإمكان، لكن كثيرًا ما أقلق من الصحبة والرفاق. ففي هذا الوقت لا يمكن أن نطمئن لأية فتاة، لذا في معظم الأحيان أتدخل في اختيار رفيقاتهن، فكما تعلمون "بنت بتنزع بنت"، ونحن في زمان أصبحت الفتاة تبالغ في جرأتها نظرًا لفشل الأهل في تربيتها، فإعطاء الفتاة هامشًا كبيرًا من الحرية والثقة يجعلها تطمع، ولا تحترم أهلها، وبالتالي تتجرأ على توجيه الكلام لهم دون حياء، كما يجعلها تتكلّم مع الشباب بكل جرأة أمام أهلها وإخواتها دون أن تحسب لهم أيّ حساب". تشرح السيدة آمال وجهة نظرها وهي مستاءة من قلة الحياء المستشري في أوساط مجتمعنا.
*قلّة الحياء: بين الغزو الفكري والانحلال الأخلاقي والديني:
حقّقت المرأة نجاحات كبيرة في شتّى المجالات، وحازت على مراكز مهمة في المجتمع، ولكن بعض الممارسات غير المسؤولة والجريئة، جعل المجتمع يتوجّس خيفة من النساء. وإذا أردنا أن نقف وراء الأسباب المؤدية إلى هذه الممارسات نجد أنها تتنوّع بين التربية غير السليمة، والاختلاط وكثرة احتكاك الفتيات بالشباب إن كان في مجال الدراسة أو في مجال العمل، إضافة إلى خروج الفتاة من بيتها والصحبة الفاسدة وضعف الإيمان لديها، وبالتالي غياب الرادع الديني، الذي كان في من المفترض أن يجنّبها هذه التصرفات. فخروج المرأة إلى ساحات العمل جعل اختلاطها بالرجال أمرًا عاديًا وبالتالي كان سببًا في قوّة شخصيتها وفي زيادة جرأتها، وفي تقلّص عنصر الخجل رويدًا رويدًا لديها، وذلك بعد أن أصبحت مجالسة الرجال ومحادثتهم ومناقشتهم بل مشاجرتهم وممازحتهم أمرًا اعتياديًا.
ومن الأمور التي تقف أيضًا وراء تغيير سلوك بعض الفتيات الحرب الإعلامية والغزو الفكري؛ فالأفكار التي تُعرض في التلفاز وعلى الانترنت غيّرت المفاهيم شيئًا فشيئًا. ولا شك أنّ الإنسان إذا اعتاد على رؤية سلوك معيّن، فإنّه مع الوقت يألفه ويسهل عليه بعد ذلك تقليده. وهذا ما يُلاحظ في سلوك العديد من الأشخاص الذين يتابعون المسلسلات والأفلام الغربية؛ حيث إنّهم يقلّدون ما يشاهدونه، ربما بشكل ربما لا إرادي، وهذا هو الخطأ بعينه؛ لأنّه أدّى إلى تغيير الكثير من مفاهيمنا الدينيّة والأخلاقية بطريقة منمّقة وسلسة، سحبت بساط العفّة والحشمة من مجتمعنا دون أن يلتفت أحد أو يعير الموضوع أهمية كبيرة.
*انتبهي....فقلّة الحياء تؤثّر فيكِ:
ما من شيء يمر هكذا دون أن يكون له تأثير، فكيف بالتصرفات التي تفتقد للحياء؟! في الواقع إنّ لهذه التصرفات تأثيرًا كبيرًا في سلوكيات الفتاة وفي مصيرها ومكانتها في المجتمع. فتَعرّجُ مشية الفتاة وصوتها وضحكتها العالية وصحبتها للشباب وثيابها الضيقة وغير ذلك. لن يزيد في ميزان أخلاقياتها، بل على العكس سيرجح كفّة مساوئها، وبالتالي سيقلّل من احترامها بين الناس وسيشوّه صورتها وسمعتها، وهذا طبعًا سيؤثر فيها بالدرجة الأولى وفي شخصيتها؛ إذ إنها ستصبح مبتذلة رخيصة، وقد تواجه مشكلة في ارتباطها، فالشباب مهما كان وضعهم الأخلاقيّ عندما يقرّرون الارتباط سيرفضون بشكل قاطع الارتباط بتلك الفتاة الجريئة التي لا حدود لتصرّفاتها، وسيسعون وراء الفتاة المهذبة والمحترمة، وهنا تكون الفتاة الجريئة قد وقفت في طريق زواجها بسبب تصرّفاتها غير المسؤولة.
إلى ذلك، فإنّ الفتاة التي لا تعير للحياء أهمية ستكون موضوع حديث الناس، ويُشار إليها بالبنان أينما حلّت، كما ستفقد احترامها في محيطها، وهذه الفتاة، وإن حظيت بالمجاملة والممازحة والإعجاب فمن المؤكد أن ذلك سيكون في حضورها، أما في غيابها فلتكن متأكدة أن ألسنة الناس لن ترحمها وستكشف عن عَوَجِ تصرّفاتها. ولله درّ الشاعر القائل:
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العُودُ ما بقي اللِّحَاءُ
*للمختص: كلمة الفصل...
إن للتقاليد والأعراف دورًا كبيرًا في تحديد مفهوم جرأة الفتاة؛ فمقاييس هذا المفهوم تتغير في ضوء المعايير الاجتماعية والشرعية للمجتمع، الذي يصعب فيه أحيانًا الفصل بين الجرأة المحمودة والمذمومة. وللاطلاع أكثر على هذا الموضوع كان لنا حديث مع د.حسن سلهب المختص في التربية، اعتبر فيه أنّ الجرأة هي: "القدرة على الفعل أو القول حيث يضعف أو يمتنع الآخرون". وأشار إلى أن المعايير تتبدّل تبعًا لتبدّل بعض القيم والقناعات السائدة. ويمكن القول إن الجرأة هي نوع من الخروج عن المألوف في سلوك الفتاة، قد يكون محمودًا أو مذمومًا. ويكمن الفرق في القواعد والمعايير؛ فالجرأة المحمودة تتمثّل في قول الحقّ بغية كشف الباطل، وتتمثّل في مقاومة الظلم بالوسائل والأساليب المشروعة، ويمكن أن نرى الجرأة المحمودة في إبداء الرأي المتوازن أو عرض السؤال الهادف أو السعي لتأمين الرزق. أما الجرأة المذمومة فتتمثل في قول كل ما يحقق المتعة العابرة أو المنفعة الخاصة من دون التقيّد بمبدأ أو قاعدة، وتتجلى في الصوت المرتفع والحركة اللافتة المتحررة من الضوابط، من دون ضرورة أو مبرر عقلي.
ويتابع د.سلهب حديثه في هذا السياق قائلاً: "إن المجتمع بدأ يتقبّل ما يسمى ﺑ ‹‹جرأة الفتاة المحمودة›› عندما وعى الشروط والمعايير المناسبة لسلوك الفتاة، إذ أصبحت الجرأة الملتزمة ليست مقبولة فحسب، بل مطلوبة ومنتظرة أيضًا. وقد غدت الجرأة الواعية غنية بالحق، ومتينة بالعدل، وزاخرة بالموضوعية، وراقية بأنقى المظاهر الإنسانية، إنها صورة أخرى ومختلفة للفتاة كما أرادها الله، لم نتعوَّد عليها كثيرًا في التاريخ الإنساني".
أما بالنسبة إلى الأمور التي تؤدي إلى الإخلال بالحياء عند الفتيات، فيردّها د.سلهب إلى عدة أسباب منها: كثرة الاختلاط من دون ضرورة، القيام بأعمال لا تتناسب مع طبيعة الفتاة وحيائها، كأداء أدوار تنطوي على مغامرات أو منافسات أو بطولات تقوم على الجهد البدني وخشونة الحركة، أو تقليد نماذج غربية أو شرقية لنساء ليس لديهن أية اعتبارات للصورة الخارجية للفتاة، حيث يتم التخلي عن الرصانة والجدّية لمصلحة العبثية وانعدام التوازن. هذا وقد يشكّل ضغطُ الحياة أو الاضطراب النفسيّ سببًا للخروج عن الوقار لدى بعض الفتيات، وهذا أمر يمكن معالجته ضمن الضوابط المقررة للحياء.
ويشير د.سلهب إلى مدى تأثير قلّة الحياء في الفتاة والمجتمع عمومّا، فهو يؤدي إلى انهيار العديد من الضوابط الشخصية والاجتماعية، وتداخل الحدود، وصعوبة الالتزام بشرع الله، وتدهور العلاقات الاجتماعية، ويؤكّد أنّ تأثير قلّة الحياة كتأثير أي سلوك مخالف للطبيعة الإنسانية والفطرة الربّانية، حيث لا يمكن التنبؤ بكل نتائجه التي قد تصل في كثير من الأحيان إلى الخيبة والعزلة والانطواء، وقد تتّجه الأمور إلى الوقاحة وانهيار الضوابط الشخصية.
لذا وتحسبًا من تفاقم الأمور والذهاب نحو الانهيار الاجتماعي، يؤكد د.سلهب على ضرورة بثّ الوعي في صفوف فتياتنا، لنغرس فيهنّ الحياء، ونقيهنّ شَرَك قلّته؛ وذلك عبر عرض تجارب واقعية لنهايات الجرأة المذمومة، وبالتالي مقارنتها بتجارب أخرى لنهايات الجرأة المحمودة. فثمة سِيَر عديدة في التاريخ الإنسانيّ والإسلاميّ يمكن استعراضها في هذا المجال، ولا شك بأن هذا النوع من المقاربات لموضوع الحياء سوف يقدم نماذج تطبيقية للحياء المذموم والمحمود.
*آخر المطاف:
أكدّ الإسلام على الاهتمام بتربية الفتيات؛ نظرًا لطبيعة تركيبتهن الخاصة التي تتطلب رعاية فائقة، وحثّ على غرس الحياء في نفوسهن؛ لأنّه الضابط الذي يضع حدًّا لتصرّفات الفتيات ويردعهن عن كل فعل قبيح، ويجعل منهن زوجات صالحات وأمهات ناجحات.
أخيرًا، أختم بعبارة استوقفتني وأنا أتصفح إحدى الصفحات الداعية إلى احتشام المرأة وحيائها على الفايس بوك، وهي "أنا ابنة لامرأة لم تراقبني يومًا بل علّمتني كيف أستشعر مراقبة الله تعالى لي". هذه العبارة إن دلّت على شيء فإنما تدلّ على أهمية التربية الأخلاقية والدينية في ردع الأولاد، إناثًا وذكورًا، عن ارتكاب المحارم، والالتفات إلى رضا الله - تعالى- عند الإقدام على أيّ عمل.
المصدر: مجلة نجاة، متخصصة في شؤون المرأة والمجتمع، العدد ٣٥، لبنان، بيروت.
تحقيق: زهراء عودة شكر
اترك تعليق