مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

عمل المرأة وتعزيز فرص بناء الأسرة وتربية الأولاد

عمل المرأة وتعزيز فرص بناء الأسرة وتربية الأولاد

  تكثر الدعوات للمرأة الأم والزوجة بأن تلتزم بيتها لتربية أولادها والاهتمام بزوجها، معللة تلك الدعوات بأن من شأنها لا الحفاظ على الأسرة فحسب، بل على المجتمع ككل. ويرى الكثيرون أن تفرّغ المرأة الكامل لبيتها وعائلتها له الدور الأول والأساس في صون الأسرة والحفاظ عليها وإبعادها عن مزالق الفساد والانحراف. ولكن قبل إطلاق الأحكام وتعميم مثل هذه الدعوات، ينبغي علينا أن نناقش ما إذا كان هناك إيجابيات لعمل المرأة خارج بيتها قد تعود عليها وعلى أسرتها والمجتمع.
 
أولاً:
نشرت قناة الـ BBC في العام 2008م نتيجة دراسة غربية أظهرت أن الأمهات الموظفات عندهن حرص كبير على تمضية أوقات فراغهنّ مع عائلاتهنّ بشكل منتج، هادف، يتّسم بالتفاعل بين الأم والولد أكثر من اللواتي لا تعملن، أي إنّ هذا الوقت الذي تقضيه الأم العاملة مع أولادها وإن كان أقلّ كمّاً، إلاّ أنه وقت نوعي تحرص فيه الأم على التواصل مع أبنائها ومعرفة ميولهم وتنمية مهاراتهم وتنظيم مشاريع هادفة معهم من مثل زيارة أماكن تثقيفية من مكتبات ومعارض ونشاطات. وأكدت الدراسة أن أبناء الأمهات العاملات أكثر حباً للقراءة والمطالعة والبرامج الثقافية، وأكثر تحصيلاً في الجانب الأكاديمي من أبناء الأمهات غير العاملات.

ثانيا:
أظهرت دراسة […] أُجريت في لبنان على أفراد الهيئة التعليمية أنّ ارتقاء المعلمات في سلّم التعليم يسمح لهنّ بتحقيق حركية اجتماعية أعلى، ويتيح لهنّ فرصة الارتباط بأزواج يساهمون في رفع السقف الاجتماعي لهنّ، وتستكمل هذه الحركية في قدرة العائلة –حسب الدراسة- على تأمين مستوى تعليمي متوسط أو عالٍ لأولادها، يسمح لهم بتجاوز مستوى الأهل الاجتماعي. وهذه الحركية الاجتماعية بطبيعة الحال لم تكن إلاّ نتيجة لعمل الأم، الذي ساهم بشكل مباشر في تعزيز الاهتمام بالعلم والتربية، الأمر الذي يترك أثره في سلوك الأولاد الأكاديمي، وكان السبب المباشر لارتباط الأم بأب من مستوى اجتماعي ساهم في تحقيق ما أشرنا إليه.

ثالثاً:
عمل المرأة عنصر هام في إحداث تغيير داخل العائلة، فعملها له ارتباط وثيق بالمستوى الثقافي والاجتماعي والدخل المادي للعائلة، وهي أمور لها انعكاساتها الإيجابية على الأسرة، لارتباطها بإيجاد الرأسمال الثقافي وتعزيز المواقف الإيجابية تجاه العلم والتربية في محيط الولد الأساسي، ألا وهو البيت. وهذا ما وصلت إليه دراسة أجرتها شرلي هيث في منطقة "كارولينا بيدمونت"، في الولايات المتحدة الأميركية حيث إنها –صاحبة الدراسة- وجدت خلال مراقبتها فترة تسع سنوات لأولاد في مناطق متباينة من عوائل ذات مستويات ثقافية، اجتماعية واقتصادية مختلفة، أنه كلما ارتفع مستوى العائلة الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، كان الرصيد اللغوي للأولاد أعلى، مما جعل فهمهم لما يقرؤون أدق وأكثر موضوعية، ولاحظت أن هؤلاء الأطفال أكثر قدرة على التمييز بين ماهو واقعي وما هو خيالي فيما يقرؤون من قصص.
هذا الرصيد اللغوي يحمله الأبناء معهم إلى المدرسة. وحسب الدراسة المشار إليها آنفاً، فإنّ هؤلاء الأولاد ذوو الرصيد اللغوي الاعلى كانوا أكثر قدرة على تلبية المتطلبات الدراسية والاندماج في البيئة المدرسية. وهذا من شأنه تأمين الدفع اللازم للتقدم الدراسي دون تعثّر. وأمر آخر لا يقلّ أهمية عما سبق هو أن المرأة العاملة تصبح أكثر إدراكاً لحاجات المجتمع الذي ستضطر الأم أن ترسل ولدها إليه منذ سنواته الأولى من حياته، مما يجعلها أكثر قدرة على التنبؤ بما سيعترض ولدها من مخاطر خارج بيئته الصغرى –البيت- فتحاول تسليحه بالقيم والأفكار والسلوكيات التي سيحتاجها لمواجهة مشكلات المجتمع.
ثمّ ماذا تعمل الأم التي سهرت ليال طويلة لتحصيل شهادة علمية معينة؟ هل تنقطع عن مجال اختصاصها لتنظّف وتطبخ وتستقبل وتودّع؟ أمور لا عيب فيها، بل هي مطلوبة ومحببة في حياة المرأة، لكن الاقتصار عليها قد يكون قاتلاً للمواهب، داعياً للكسل، مسبباً لتراجع فرص الأسرة بتلاشي ما حصّلته المرأة من علم ومهارات. وهنا يأتي عمل المرأة لا ليعزّز ما تعلمته المرأة في دراستها الأكاديمية فحسب، بل ليطوّره وينمّيه ويوظّفه، لأنّ الشهادة الأكاديمية مجرّد نقطة انطلاق لا أفق لها ما لم تتبع بالممارسة الحياتية، ولهذا كلّه المردود الإيجابي على شخصية المرأة عبر مساعدتها في فهم نفسها وبناء ذاتها وإشعارها بالانتاج والعطاء والتطوّر والنمو. أمور كلها لها انعكاساتها على عائلتها، فالأم ذات الاستقرار النفسي والمعنوي أكثر انسجاماً مع نفسها، ومحيطها وأكثر قدرة على التعامل معه.
والمرأة العاملة خارج بيتها تعطي نموذجاً إلى جانب نموذج الأب، عن الالتزام بالمواعيد وتنظيم الوقت وإدارة البيت، وتكون مضطرة لتعليم أولادها الالتزام بمسؤولياتهم وإعطاء كلّ منهم دوراً وواجبات داخل المنزل، مما يجعل كل فرد في الأسرة مسؤولا عن عمل ما: الأب والأم، الابن والبنت، لا الأم فقط، ومن شأن هذا خلق شعور قوي بمتعة التعاون والمشاركة، فالبيت مؤسسة تنجح وتزدهر بتعاون وتناغم أفرادها، وبهذا التعاون والتناغم يتحقق التوازن في مسيرة الأسرة وتتعزّز فرص تنمية شخصيات الأولاد وبناء قدراتهم ومعارفهم ومهاراتهم، ويجيب عن السؤال الذي طالما تمّ طرحه عن عمل المرأة وكيفية التوفيق بين مسؤولياتهم خارج البيت وداخله.

مأخذ: مجلة جنى عدد184

التعليقات (0)

اترك تعليق