الخالصة في المودة.. السيدة زينب(ع) في محنة أخيها الحسن(ع)
بادر الناس إلى مبايعة الإمام الحسن بعد شهادة أبيه علي(ع) لما تواتر في أوساطهم من أحاديث وروايات عن جده رسول الله(ص) في فضله ومكانته كقوله(ص):
«من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن»(1).
وما رواه البراء قال: رأيت رسول الله(ص) والحسن على عاتقه يقول: «اللهم إني أحبه فأحبه»(2).
وفي رواية عن أبي هريرة عن رسول الله(ص) أنه قال للحسن: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحبب من يحبه»(3).
وعنه(ص): «الحسن والحسين ريحانتاي من الدينا»(4).
وقد بادر بعض الصحابة للإدلاء بشهاداتهم وما سمعوه عن رسول الله(ص) في حق الإمام الحسن عندما خطب الإمام الحسن مؤبّناً أباه علياً ومستقبلاً البيعة من الناس كما روى زهير بن الأقمر قال:
بينما الحسن بن علي يخطب بعدما قتل علي إذ قام اليه رجل من الأزد آدم طوال، فقال: لقد رأيت رسول الله(ص) واضعه في حبوته يقول «من أحبني فليحبه فليبلغ الشاهد الغائب» ولولا عزمه من رسول الله(ص) ما حدثتكم(5).
ومما دفع الناس الى مبايعة الإمام الحسن ما عرفوه من صفاته وكفاءاته التي لا يدانيه فيها أحد، فهو أفضل الأمة بعد أبيه علي.
فهذا أنس بن مالك يقول: لم يكن أشبه برسول الله من الحسن(6).
وتذاكر قوم من الصحابة يوماً حول من أشبه النبي من أهله، فقال عبدالله بن الزبير، أنا أحدثكم بأشبه أهله به وأحبهم اليه الحسن بن علي(7).
وهذا عبدالله بن عمر وهو جالس في مسجد الرسول(ص) بالمدينة في حلقة فمرّ الحسن بن علي، فقال: «هذا أحب أهل الأرض الى أهل السماء»(8).
ويقول عمرو بن اسحاق: ما تكلم أحد أحب اليّ أن لا يسكت من الحسن بن علي وما سمعت منه كلمة فحش قط(9).
وعن واصل بن عطاء: كان الحسن بن علي عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك(10).
وقال محمد بن اسحاق: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله(ص)، ما بلغ الحسن كان يبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس، انقطع الطريق، فما يمر أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فمر الناس، ولقد رأيته في طريق مكة ماشياً فما من خلق الله رآه الا نزل ومشى، وحتى رأيت سعد بن أبي وقاص يمشي(11).
ولأن الإمام الحسن بعد ذلك وصي أبيه أمير المؤمنين، فلهذه العوامل جميعاً بادر الناس إلى مبايعته، فقد انبرى عبيدالله بن العباس مخاطباً الجمع الحاشد الذي اجتمع بعد مقتل الإمام علي قائلاً:
معاشر الناس هذا ابن نبيكم -يعني الحسن- ووصي إمامكم فيايعوه فهتف الناس مستجيبين قائلين: «ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا، وأحقه بالخلافة»(12).
وهكذا بويع الإمام الحسن بالخلافة في الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة (40 هـ)، بايعه الناس في الكوفة والبصرة والمدائن وجميع أهل العراق، وبايعته فارس والحجازيون واليمانيون وجميع البلاد الإسلامية، لكن معاوية بن أبي سفيان أصر على التمرد كما كان موقفه من خلافة الإمام علي، بل وبدأ يعد العدة ويحشد الجيوش للزحف على عاصمة الخلافة الشرعية الكوفة، ولم تنجح الجهود التي بذلها الإمام الحسن من رسائل ومبعوثين إلى معاوية من ثنيه عن موقفه المتمرد الخارج على الشرعية.
فصصم الإمام الحسن على مواجهة بغي معاوية، واستنهض جمهوره وعبأهم للقتا، بعد ما بلغته أنباء تحرك جيش معاوية باتجاه العراق وقوامه (60 ألفاً)، وقيل أكثر من ذلك(13).
لكن الظروف لم تكن في صالح الإمام الحسن، فقد كان جيشه وجمهوره متعباً منهكاً من الحروب الثلاثة التي خاضها مع الإمام علي، كما كان الجيش والجمهور موزّع الولاء والاتجاه للتيارات المختلفة ومنها الخوارج وأصحاب المطامع، وبلغ تعداد جيش الإمام الحسن (40 ألفاً) على أرجح الروايات التاريخية(14).
واجتهد معاوية بن أبي سفيان كثيراً لتفتيت وتخريب الجبهة الداخلية لمعسكر الإمام الحسن فبث في أوساطه العملاء الذين ينشرون الأشاعات المثبطة والتشكيكات، كما كثف مساعيه لأغراء واستقطاب العديد من الزعماء والرؤساء والشخصيات في معسكر الإمام، بتقديم المبالغ المالية الضخمة لهم وتطميعهم بالمناصب والمواقع.
وبالفعل فقد تخلى عن الإمام الكثير من قيادات جيشه حتى ابن عمه عبيدالله بن العباس والذي كان يقود مقدمة جيش الإمام لمواجهة معاوية ، حيث أغراه معاوية بمبلغ مليون درهم فتسلل منحازاً الى معاوية ومعه ثمانية الآف جندي من أصل اثني عشر ألفاً كان يقودهم!!.
كل ذلك أدى الى اضطراب جيش الإمام، مما جرأ البعض منهم على النيل من هيبة الإمام شخصياً ومحاولة اغتياله وقد هجم جماعة من معسكر الإمام على مضاربه وسرداقه وانتهبوا أمتعته، وتضيف بعض المصادر أنهم نزعوا بساطاً كان يجلس عليه وسلبوا رداءه، كما خاطبه أحد الخوارج وهو الجراح بن سنان قائلاً: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!.
وجرت ثلاث محاولات لاغتيال الإمام في معسكره(15).
هذه الظروف المؤلمة الحرجة دفعت الإمام الحسن لأعادة النظر في قرار المواجهة والقتال مع معاوية، لعدم تكافؤ المعسكرين عدداً وعدة وتماسكاً، مما يجعل مستقبل المواجهة والحرب لصالح معاوية حتماً، وذلك يعني الأخطار والمضاعفات الكبيرة على وضع الأمة الإسلامية ككل وخط أهل البيت(ع) بشكل خاص.
لذلك قرر الإمام الحسن الأستجابة الى دعوة الصلح التي كان معاوية يلح في طرحها ، وتنازل الإمام عن الخلافة والحكم بشروط قبلها معاوية ومن أهمها العمل بكتاب الله وسنة نبيه ، وعدم الظلم والأعتداء على حقوق الناس وخاصة أهل البيت وأتباعهم، وأن تكون الخلافة بعد معاوية للإمام الحسن أو حسب اختيار المسلمين.
وتم الصلح حوالي شهر ربيع الأول سنة (41 هـ) أي بعد ستة أشهر من خلافة الإمام الحسن(ع).
بالطبع كان مؤلماً للإمام الحسن ولأهل بيته وأتباعه أن يروا معاوية متسلطاً على المسلمين متحكماً في أمورهم، وأن يلاحظوا الانحرافات الكبيرة الخطيرة التي يقوم بها دون رادع أو مانع، لكن ماذا يصنع الإمام الحسن وقد خانته الظروف ولم تخلص له الأمة؟.
وانفعل العديد من المخلصين من أتباع الإمام لما حدث، ووجهوا للإمام الحسن عتابهم الحاد الجارح على قرار الصلح، لكن الإمام بقلبه الواسع وحلمه الكبير كان يعذرهم على انفعالهم، ويوضح لهم حقيقة الموقف وأبعاده.
وبعد الصلح بقي الإمام في الكوفة أياماً وهو مكلوم القلب قد طافت به الهموم والآلام، يتلقى من شيعته مرارة الكلام، وقسوة النقد، ويتلقى من معاوية وحزبه الاستهانة بمركزه الرفيع، وهو مع ذلك صابر محتسب، قد كظم غيظه، وأوكل إلى الله أمره، وقد عزم على مغادرة العراق، والشخوص إلى مدينة جده(16).
وطلب منه بعض أهل الكوفة البقاء عندهم، لكنه لم يستجب لهم وكان يوم سفره مشهوداً في الكوفة حيث خرج الناس بمختلف طبقاتهم إلى توديعه، وهم ما بين باك وآسف.
ولم تكن العقيلة زينب بعيدة عن تلك الأحداث القاسية، بل كانت الى جانب أخيها الحسن تشاطره معاناته، وتعيش معه آلام الأمة المنكوبة.. وقد غادرت الكوفة مع أخيها إلى مدينة جدها ومسقط رأسها بعد أن قضت في الكوفة حوالي خمس سنوات مليئة بالحوادث والآلام، ومن أشدها وأفجعها فقد أبيها علي.
وفي المدينة واصلت السيدة زينب تحمل مسؤليتها في الهداية والأرشاد وبث المعارف الوعي، كما كانت تشارك أخاها الإمام الحسن مواجة إساءات الحكم الأموي وانحرافاته، حيث لم يلتزم معاوية بأي شرط من شروط الصلح، وصار يحكم المسلمين حسب رغباته وشهواته بعيداً عن تعاليم كتاب الله وسنة رسوله، كما كان يوجه سهام بغيه وحقده صوب أهل البيت(ع) وشيعتهم، فسن شتم الإمام علي على المنابر، وقتل خيار أتباعه، وضيق على شيعته، وصار يخطط لتنصيب ولده يزيد خليفة وحاكماً على الأمة من بعده.
بالطبع كان وجود الإمام الحسن يقلق معاوية، ويعرقل بعض مخططاته الفاسدة، لذلك فكر في تصفية الإمام الحسن والقضاء على حياته، فأغرى زوجته جعدة بنت الأشعث بمائة ألف درهم، ووعدها بأن يزوجها ولده يزيداً إن هي دست السم للإمام الحسن وقضت على حياته.
واستجابت جعدة لتلك الأغراءات وألقت السم الفتاك الذي بعثه اليها معاوية في طعام الإمام الحسن، فتقطعت بذلك كبده وامعاؤه واستعد لمفارقة الحياة.
ورأته أخته زينب وهو في فراش الموت، فانفطر قلبها لمأساة أخيها وتجددت عليها المصائب والأحزان.
ومما زاد في آلام السيدة زينب وأحزانها ما تعرضت له جنازة أخيها من إساءة وهوان، حيث كان الإمام الحسن قد أوصى بأن يدفن عند قبر جده رسول الله(ص) أولاً أقل أن يمر به على قبر جده ليجدد به عهداً، لكن الحزب الأموي اعترض جنازة الإمام وأثاروا السيدة عائشة لتتبنى مواجهة الهاشميين ومنعهم من الاقتراب بجنازة الإمام الحسن عند قبر جده بحجة أنه يقع في بيتها وأنها لا تسمح لهم بذلك!!.
وهكذا رافقت الظلامة والمأساة الإمام الحسن حتى بعد وفاته، ومنعوا اقتراب جنازته من قبر جده رسول الله(ص) وهو سبطه الحبيب وولده العزيز!.
كل ذلك ضاعف من أحزان السيدة زينب والهاشميين لذلك ورد في التاريخ أن نساء بني هاشم وفي طليعتهن السيدة زينب استمرين في النياحة على الإمام الحسن(ع) شهراً كاملاً، وأظهرن الحداد، ولبسن السواد سنة كاملة(17).
الهوامش:
(1) (حياة الإمام الحسن) القرشي ج 1، ص 96.
(2) (صحيح البخاري) ج 5، ص 33.
(3) (صحيح مسلم) ج 2، ص 367.
(4) (حياة الإمام الحسن) القرشي ج 1، ص 96.
(5) (الاصابة في تمييز الصحابة) ابن حجر ج 1، ص 329.
(6) المصدر السابق ص 329.
(7) المصدر السابق ص 329.
(8) (در السحابة في مناقب القرابة والصحابة) الشوكاني ص 289.
(9) (أئمتنا) علي دخيل ج 1، ص 167.
(10) المصدر السابق ص 168.
(11) المصدر السابق ص 168.
(12) (حياة الإمام الحسن) القرشي ج 2، ص 34.
(13) المصدر السابق ص 71.
(14) المصدر السابق ص 80.
(15) المصدر السابق ص 106.
(16) المصدر السابق ص 285.
(17) المصدر السباق ص 502.
المصدر: من كتاب المرأة العظيمة: قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام: حسن الصفار.
اترك تعليق