مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

حقيقة الرّسالة الإسلامية من خلال خطبة السيدة الزهراء(ع)(2): الزكاة تزكية للنّفس

حقيقة الرّسالة الإسلامية من خلال خطبة السيدة الزهراء(ع)(2): الزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق

والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق..
وحين تستقي الزهراء(ع) معالم التّشريع من منبعه الأصيل -كتاب الله العزيز- كذاك تستقي الصُّورة التي سطر بها القرآن الكريم معالم التشريع، فقد اعتاد القرآن -مثلاً- أن يذكر مفهوم الزكاة بعد ذكره لمفهوم الصّلاة، وهذه الصّيغة تتعدّد في كثير من آيات التشريع المبارك، ولهذا السّر عينه راحت الزّهراء تجلّي فلسفة الزّكاة، بعد ان ذكرت فلسفة الصّلاة، وانطلاقاً من التلقين القرآني لمثل هذه التعليمات الإلهية الجليلة، وإذا اتضّح لنا هذا فإنّما يتجسّد أمامنا المدى البعيد الذي أثّره القرآن الكريم بنفسيّة الصّدّيقة الزّهراء(ع) فهي تمثّل شخصيّة إسلاميّة رسم القرآن الكريم كلّ معالمها حتى في مثل هذه الأمور.
كما أنّ هذه الحقيقة تعكس لنا صورةً حيّة عن أهل البيت(ع) ومدى تطبيقهم لمعارف التّشريع الإلهي على سلوكهم في اصوله ودقائقه ومعالمه وتفصيلاته، والزهراء(ع) بعد ذلك تعلن فلسفة الزّكاة، فتقول عنها: إنّها تزكية للنّفس الإنسانية، ولكنّها لم تحدّد بعد ذلك مفهوم التزكية هذا ومداه ومنطلقه وحدوده، فما الغاية التي استهدفتها الزّهراء(ع) من ذكر مفهوم التزكية هنا؟
خلق الله الإنسان وخلق معه غرائز وطاقاتٍ لا يمكن التغاظي عن إشباعها بأيّ حال من الأحوال وتأتي في طليعة هذه الطّاقات غريزة حبّ التملُّك، فالإنسان مجبول على تملُّك ما تناله قواه من ثروات -أنّى كان نوعها- وقد تستبدُّ هذه الغريزة بالإنسان فتجعل من حياته حياةً جافّةً سلبيةً لا تحمل في رحابها أيّ نوع من أنواع الرّحمة والعطف، فتزدحم الحياة بالصّراع العنيف بين الدُّموع والإبتسامات، ويحدث التّناقض المرير بين أصحاب الثّراء الفاحش وسواهم من الفقراء والمعدمين.
وهذا ما يجري فعلاً في المجتمعات الرّأسمالية الجائرة -اليوم- حيث تستبدُّ غريزة التملُّك لدى الأفراد فتتحوّل الحياة إلى شبح من الأنانيّة والإستئثار، ضحيته الأخلاق والرّحمة والعطف ومحصله الصّراع والإضطراب النفسي والاجتماعي، واستبداد هذه الغريزة يزداد شدّة وخطراً إذا وجد مقياسٌ، يجعل من الحياة مجرّد لذّة مادية ومنفعة بهيمية خالصة محدودة بإطار الحياة الموقوتة، وهذا ما ينطبق -فعلاً- على الحياة الّتي جسّدتها الحضارة الغربية الهوجاء.
ويتطرّف لون جديد من الحضارة تحت مطارق العسف والإستئثار، فيعلن: أنّ علّة هذا الفساد الاجتماعي، إنّما هو غريزة حب التملُّك، ولذا وجب أن تمحى هذه الغريزة من برامج الحياة الإنسانية -مهما غلا الثمن وعظمت التضحيات- ولذا وضعت برامج الكبت والقتل الجماعي، ومصادرة الحريات، تحرّياً عن هذه الغريزة الفطرية.
ولكنّ هذا المذهب الاجتماعي المتمثل بالنّظام الاشتراكي قد تعرّض للتحوير والتّبديل -غير مرّة- بحجة التدرُّج في التغيير الاجتماعي، ولكنّ الحقيقة: أنّ الفطرة هي التي حتّمت هذا التبديل المتكرّر، بل إنّ غريزة التملُّك هي التي وقفت سدّاً منيعاً في مواجهة المشاريع التي أُريد منها أن تلغي هذه الغريزة من قاموس الحياة الإنسانية.
ووقوع النّظام الإشتراكي في هذا الخطأ كان نتيجةً للتّصور الخاطىء الذي تُصوّر إزاء قضية التملُّك، فاعتقد -خاطئاً- أنّ أساس المحنة إنّما كان بسبب وجود غريزة التملُّك التي جسّدتها الحضارة الرأسمالية التي امتدت سيطرتها على الإنسانية -زمناً غير قصير-.
وهذا التّصُّور خاطىء لا طائل تحته، لأنّ المشكلة إنّما نشأت بسبب المفهوم المادّي للحياة الذي تبنّته الرأسمالية ، فجعلت من الفرد كائناً همُّه أن يجمع المال، ويكرّس طاقته لتكديس الثّروات بصفتها منشأ للسّعادة واللذة والمنفعة -بزعمها-(1).
وحين تخطىء الإشتراكية هذه الحقيقة، تبحث عن سببٍ آخر، فتعتقد أنّ المشكلة منشؤها غريزة التملُّك -لا غير- ولذا وجب محوها -أنّى كان الثمن-.
ويأتي دور الإسلام بصفته مذهباً اجتماعياً يتناول نشاطات الأفراد وميولهم بصورة شاملة، فلا بدّ له من رأي مذهبيًّ صميم إزاء هذه المشكلة، ولا بدّ له -بعد ذلك- أن يعطي الدّواء النّاجع والحلّ الحاسم للواقعة التي يواجهها، سيّما
وهو منهج الله، خالق هذا الإنسان ومدبّر أُموره والمطّلع على ما تنطوي عليه خلجات نفسه.
ليعلن: أنّ منشأ هذه المشكلة إنّما هو المقياس المادّي الذي دانت به الحضارة الغربية وليست المشكلة كامنة في غريزة التملك عينها لأنّ غريزة التملُّك أصيلة في كيان الإنسان، لا يمكن محوها إلاّ إذا بُدّل هذا الإنسان إلى غير هذا الإنسان.
ولما كانت المشكلة تحمل هذا اللون من الثُّبوت والإستقرار، فلا بدّ أن يبحث الإنسان عن تطوير جديد للمفاهيم عن الحياة، ليخفّف من وطأة هذه الغريزة، فينشأ للإنسان مفهومٌ جديدٌ للسّعادة واللذة والمنفعة.
وفعلاً، حقّق الإسلام هذه المعجزة بإعلانه مفهوماً جديداً للسّعادة، ومفهوماً جديداً عن الحياة ، ومفهوماً جديداً عن اللذة والنفعة.
وحين يعلن الإسلام هذه المفاهيم، فإنّما يعلن: أنّ المشكلة لا تحلُّ إلاّ عن طريق واحد: هو طريق الإعتراف بغريزة التملُّك -كحقيقة فطرية- والعمل على توجيه هذه الغريزة عن طريق تربية روحيّة ونفسيّة على أُسس منهجيّة رصينة، يُصمّمُها خالق الفطرة لأنّه أعلم بصلاحها من سواه.
وكانت إحدى المقوّمات التي رسمها الإسلام الحنيف لتوجيه غريزة التملُّك توجيهاً تربوياً ينتفع منه الفرد والمجتمع بعيداً عن عنفوان الأنانيّة والإستئثار، كانت إحدى هذه المقوّمات المتينة: فرض ضريبة الزّكاة على الاغنياء الذين يتمتّعون بحق المواطنة الاسلامية في نطاق الدّولة الإسلامية، وهذه الزكاة تمثل ضريبة سنوية لا يمكن الهروب عن دفعها إطلاقاً ما داموا يعيشون في مستوىً لائق من العيش.
ومن الحكمة البالغة: أنّ الإسلام حين يفرض هذه الضريبة لم يجعلها مجرد ضريبة يلزم الاغنياء الإتيان بها -فحسب-. وإنّما أضفى عليها طابعاً روحيّاً حين أعلن كونها عبادةً من العبادات الأُخرى كالصّلاة والصّيام، والإنسان مسؤول عن دفعها أمام ربّه الذي «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصُّدور». ومن ثم ينطلق الإسلام ليعطي هذه الفريضة صفة قانونية صارمة يعاقب عليها القانون الإسلامي في الدُّنيا عقاباً صارماً، وحين يلزم الإسلام أتباعه بأداء فريضة الزّكاة إنّما يستهدف توجيه غريزة التملُّك توجيهاً يجني الفرد والمجتمع ثماره بحيث تكون الثورات ملكاً لجميع أبناء الأُمّة لا يستبدُّ بها فردٌ من النّاس -أو فئة- على حساب الآخرين.
وتعطينا هذه الصُّورة الوضّاءة من منهج الله سبحانه تلقيناً تجعلنا نؤكّد أنّ الفرد والمجتمع في المنهج الإسلامي لا حدود بينهما، وإنّما تتشابك مصالحهما، فيعمل الفرد من أجل المجموع، ويعمل المجموع من أجل الفرد، وفقاً لنظام رصين بعيد عن الإصطدام والإعتساف، ولا تتحقّق هذه الفضيلة ـ بل هذه المعجزة إلا بتزكية النفوس من عنفوان الأنانيّة والأثرة التي فرضت الزّكاة لتحقيقها في كيان الإنسانية.
وهذا السّرُّ ذاته هو الذي دعا الزهراء بنت محمد(ص) لتعلن كون الزكاة تزكيةً للنّفس، فإنّها -لعمر الحق- تزكية للنُّفوس البشرية من أنانيّتها واستئثارها ودوافعها الفرديّة الجافّة، وتحويلها إلى طاقات إنسانيّة هادفة تخدم المجموعة الإنسانية.
وثمت حقيقة أُخرى نلمسها من كشف الزّهراء(ع) لفلسفة الزّكاة، تلك الحقيقة، تتمثّل في أنّ النُّفوس البشريّة سيختفي ما تنطوي عليه من بغضاء وأحقاد، سيّما نفوس المحرومين، فهم حين يرون اصحاب الثروة يدفعون لهم نصيبهم منها متمثّلاً بضريبة الزّكاة، فستكون نظرتهم لهؤلاء نظرة حبًّ وإكبار، يتحوّل التناقض والعداء بعدها إلى إخاءٍ وإخلاص ومحبّة.
وحين تكشف الزهراء(ع) الوجه الأول من فلسفة الزّهراء تكشف -بعد ذلك- الوجه الثاني لها، فتقول : «ونماءً في الرّزق» فليست الغاية من الزكاة تزكيةً للنفوس من الأنانيّة والبغضاء -فحسب- وإنّما لها غاية تتعلّق بمحيط الإنسان -نفسه- فينمو رزقه وتزداد ثروته وتكثر خيراته.
وحين تعلن الزهراء(ع) هذه الحقيقة لم تقلها عفواً أو شططاً، وإنّما تلتمس هذه الحقيقة من كتاب الله سبحانه حين يعلنها بقوله: «ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السّماء والأرض»(2).
والزكاة عبادة يعد منكرها في عداد الكافرين، ومن يمنع قيراطاً منها، فليمت إن شاء يهودياً أم نصرانياً -كما ورد في السُّنة الشّريفة-.
وحين تملك الزكاة هذا المقام الرفيع بين معالم التّشريع الإسلامي، فلا بد إذاً أن تكون في طليعة شروط الإيمان والتّقوى، ولما كانت البركات منوطة بالإيمان، فقد انكشف لنا السرُّ الذي أعلنته الزّهراء(ع) من أنّ الزكاة نماءٌ في الرّزق، ذلك لأنّها عنوان الإيمان والخضوع الحقيقي لله سبحانه، فلا بدّ أن يكافىء الله عباده بالتفضُّل عليهم من رزقه بعد استجابتهم لندائه المقدّس.

الهوامش:
(1) المدرسة الإسلامية ج1 محمد باقر الصدر.
(2) سورة الأعراف، آية: 96.

المصدر: الزّهَراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله: الشهيد عبد الزهراء عثمان محمد (الكتابُ الذي أحرز الجائزة الثانية في مُباراة التأليف عن حياة الصديقة الزهراء عليها السلام).

التعليقات (0)

اترك تعليق