مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

حقيقة الرّسالة الإسلامية من خلال خطبةالزهراء(ع)(5): العدل تنسيقاً للقلوب

حقيقة الرّسالة الإسلامية من خلال خطبة السيدة الزهراء(ع)(5): العدل تنسيقاً للقلوب

والعدل تنسيقاً للقلوب..
ثم تنطلق الزهراء(ع) لتبيان الغاية التي شُرّع العدل من أجلها، لماذا العدل في القضاء بين المتخاصمين، ولماذا العدل بين الأجناس، ولماذا العدل في الحكم، ولماذا العدل بين الغنّي والفقير؟؟
تجيب الصّدّيقة الزّهراء(ع) فتقول: شُرّع ذلك لتنسيق القلوب. وجمع شتاتها وتأكيد إخائها وتحقيق صفائها وتوادّها وائتلافها، ولكن إلى أيّ مدىً سيحقّق هذا العدل الذي جعله الإسلام ركناً من أركان بنائه التّشريعيّ الضّخم -التنسيق والصفاء، في قلوب أبناء النّوع الإنساني-؟؟
جلجل نداء الإسلام في الآفاق معلناً إلغاء الفروق، وإلغاء الطّبقات، وإلغاء كلّ أنواع التّمايز بين أبناء الجنس البشريّ. ولأجل تحقيق هذه الشّعارات أعلن أحكاماً سياسيّة واحدة، وأحكاماً جنائيّة واحدة واجتماعية واحدة يخضع لها كلُّ إنسان دون تمييز على أساس الطّبقة أو الجاه أو المال أو اللون أو الجنس أو القبيلة، فإذا سَرَقَ أعلى الناس جاهاً أو أكثرهم مالاً أو أعزّهم قبيلةً، فإنّ حكم قطع اليد ينطبق عليه كما ينطبق على أقلّ الناس حظاً من المال أو الجاه، كما يقف إمامُ الأُمّة وقائدها للترافع أمام القضاء الإسلاميّ إلى جانب أمةٍ حبشيّة.
وقد تجلّى ذلك على لسان خاتم الرُّسل محمد(ص) حيث يقول -موضّحاً حدود العدالة الإسلامية- : «لو سرقت فاطمةُ بنت محمد لقطعتُ يدها».
وعلى ضوء هذا المفهوم الرّصين للعدل الإسلامي تحقّق أروع إخاء في تاريخ البشريّة بين شتّى الأجناس ومختلف الطّبقات، حيث كان المجتمع الإسلامي يحتضن البدويّ الفقير إلى جانب المكيّ المتموّل، ويحتضن الفارسيّ إلى جانب العربيّ ، ويحتضن الروميّ كما يحتضن الحبشيّ.
وحين تتحقّق العدالة بين المجموعة البشريّة -على هذا الأساس- تدرأ الأخطار التي تتصدّع المجتمعات بوقوعها، وتختفي كلُّ اشباح الفرقة والعصيان والتصدُّع الإجتماعي والثّورات والتّكتُّلات الجانبية.
وما الثّورات العسكريّة والرّجات السياسيّة والإضطرابات الإجتماعيّة التي ترزح المجتمعات تحت وطأتها اليوم ـ إلا حصيلةً لفقدان عنصر العدالة في الحضارات التي تنظم حياة الأفراد والمجتمعات -اليوم-.
وحين يملك عنصر العدل هذه الفاعليّة في خلق المجتمع المتراصّ المتوادد، فقد انكشفت لنا الغاية التي من أجلها أعلنت الزّهراء(ع) كون العدل تنسيقاً للقلوب.
أجل، إنّ العدل تنسيقٌ للقلوب، لأنّه السبيل الأوحد الذي يجد الإنسان فيه كرامته وقيمته إزاء غيره من الناس. وحين يعلم الإنسان أنّ في الواقع قوّةً تتمثّل بعنصر العدل تحفظ له كيانه وحقوقه بين الآخرين، كان حريّاً بهذا الإنسان أن ينحاز إلى هذا العدل الذي حفظ حقّه وقيمته دون أن يبحث في وسائل العصيان أو التمرُّد أو التكتُّل الجانبيّ، لأنّ هذه الأمور لا تقوم في واقع الحياة الإنسانية ما لم يختفِ عنصر العدل في الواقع الإنساني مما يضطر الإنسان لنفض غبار الذُل والظُّلم بأساليب تختفي فيها لغة التفاهم والرّحمة، الأمر الذي يفرّق الجماعات ويوهن الأُمم ويقوّض الدّول.

وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة:
وهنا تُبرز الزهراء(ع) مفهوماً إسلاميّاً، ما اختلفت الاُمّة الإسلامية في شيء كاختلافها فيه، ذلك: هو المفهوم السياسيّ الإسلاميُّ الذي يبتني على أساسه الكيان الدُّولي والإداريّ لهذه الأمّة.
ومع الإيجاز الذي سلكته الزّهراء(ع) في تبيان معالم الرسالة الإسلامية، إلاّ أنّها قد أبرزت هذا المفهوم بجانبيه: التشريعيّ والتطبيقيّ، لأنّ المفهوم السياسيّ -كما هو معلوم- يمتلك السُّلطة التي تموّنه بالتّشريع والأحكام التي تستند الدولة عليها في فعالياتها، كما أنّ المفهوم السياسيّ أيضاً يمتلك إلى جانب ذلك القوّة الفاعليّة التي تتولّى مهمّة التنفيذ لعنصر التشريع.
وقد عبّرت الزهراء(ع) عن العنصر الأول -عنصر التّشريع- بالفقرة الأولى من عبارتها : «وطاعتنا نظاماً للملّة».
حيث أعلنت: أنّ طاعة أهل البيت(ع) سيحفظ الشّرع المقدس من كلّ اختلاف أو تصدُّع، وسيسير على نسقٍ واحد، بعيداً عن الآراء والظنون المرتجلة التي تبعد الشرع عن حقيقته.
وهنا تبرز عظمة الزهراء(ع) حتى في حديثها المسترسل حيث تقول: «وطاعتنا» فهي لم تقل: محبّتنا أو مودّتنا أو حبُّنا، وإنّما أعطت هذا المفهوم جانبه الثابت غير الخاضع للجدل والتأويل، إذ أنّها لو استعملت لفظة: الموّدة أو المحبّة، لأمكن صرف اللفظ هذا إلى غير معناه ، لقيل -مثلاً- محبة أهل البيت واجبة ولكن لا يعني عدم جواز اتّباع غيرهم والخضوع له سياسياً أو إداريّاً. والزهراء حين تعلن أنّ طاعة أهل البيت على الصّعيد التّشريعيّ أمر فرضه الله سبحانه كما فرض الإيمان والصلاة -إنّما تقرّر بذلك حقيقة منطقيّة ثابتة نطق الرسول الأكرم(ص) بها وأكدّتها عشرات المواقف بشهادة كبّار الصحابة والتابعين.
وقد اتخذ ذلك الطّابع الإلزامي الصّارم على لسان الرسول القائد يوم أعلن أمام الاُلوف المحتشدة -وبعد عودته من حجّة الوداع- إمامة عليًّ(ع) بقوله: «من كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه ...».
ومهما يحاول بعض الكُتّاب والباحثين في صرف لفظ هذا الحديث عن معناهُ الحقيقيّ، فإنّهم غير قادرين مهما أُوتوا من قوّة استدلاليّة على إبراز مفهوم غير مفهوم الطّاعة والإنقياد أو يزيغون عن الحق.
وآخر ما اجتمعت عليه كلمة هؤلاء الباحثين هو القول بأنّ الحديث أراد مجرّد المحبّة والعطف لا غير. ولكنّنا -مع استغرابنا لهذه التآويل- نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل المؤمنين إخوة، وقد جعلهم نفساً واحدة كقوله تعالى: «إنّما المؤمنون إخوة» «ولا تلمزوا أنفسكم ...».
فاذا كان الله سبحانه قد قرّر هذا المفهوم التشريعيّ الثابت في خلق الأُمّة المتحابّة المتراصّة، فما معنى استيقاف الرسول(ص) لتلك الجموع الإسلاميّة الغفيرة في غدير خم ليقول لها: من كنت محبوباً عنده فليحبّ عليّاً(1).
ألم يكن هذا القول عبثاً ما دام القرآن والرّسول قد قرّرا سابقاً مبدأ الأُخوة الذي يؤلّف مفهوماً أوسع من المحبّة، بل إنّ مبدأ الأُخوة إذا تمكن في النفوس البشريّة، منحها أعظم تيّار عاطفيًّ من المحبّة والوداد.
وثّمة نقطة أُخرى يجدر أن نشير إليها، تلك: هي أنّ الرسول القائد(ص) قد أعلن وجوب طاعة أهل البيت(ع) وعدم التمذهب بمذهب غيرهم في مئات المواقف وقد رواها الخاص والعام ـ وفي طليعتها قوله(ص): «إني تركتُ فيكم: ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله حبل ممدودٌ من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ...». وقوله(ص): «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق ...».
وحين يعلن الرسول(ص) ذلك، فإنه يعلنه بدافع الحرص على المصلحة الإسلاميّة العليا لكي تبقى هذه الأُمّة «خير أُمّة أُخرجت للناس» وهذا ما دفع الزهراء لتلعن بأنّ طاعة أهل البيت «نظاماً للملّة».
أجل، إنّها حفظ للشريعة، وتنسيق لأحكامها، وصون لها من الظُّنون والتخمينات والآراء والتّمذهب على حسابها، أجل لو قُدّر لهذه الأُمّة أن تسلك 
درب أهل البيت(ع) في معرفة أحكامها واستلهام معرفتها، لما وجدنا للتّمذهب سبيلاً، ولا للإختلاف في الفتيا والأحكام مجالاً في قاموس حياتنا، -ولكنّها- ويا للأسف الشّديد ـ جناية الأجداد قد جنى ثمراتها الأحفاد.
ثم تكشف الزهراء(ع) الشّطر الثّاني من المفهوم السّياسي في الإسلام، فتقول: «وإمامتنا أماناً من الفرقة».
وإذا كانت الزهراء قد قصدت الجانب التشريعي من المسألة الإدارية لشؤون الأُمّة في العبارة الأُولى «وطاعتنا نظاماً للملّة»، فإنّها ترسم الآن -الشقّ الثاني من الموضوع -ذاته-، فتعلن كون إمامة أهل البيت(ع) وقيادتهم لهذه الأُمّة مفروضاً من الله سبحانه كسائر الواجبات، ولكنّ علّة هذا الفرض الجديد تتجلّى في تخليص الأُمّة من شبح التّمزق والتخرب والإنقسامات المصلحيّة، لأنّ إقصاء أهل البيت(ع) وهم معدن الحكمة وخريجو مدرسة الوحي- عن مركزهم القياديّ يجعل من الممكن قيام صراع سياسيّ على الحكم والإدارة، لأنّ سائر الناس -بعد أهل البيت- يرون أنفسهم جميعاً أهلاً لقيادة الأُمّة. أمّا إذا تولّى أهل البيت هذا المقام الرّفيع فإنّ أحداً من الناس غير قادر على بلوغ مقامهم الذي بوّأهم الله سبحانه فيه من معرفة تامة لمعالم الشّريعة الإسلامية أو من عصمة نفسيّة تحفظهم من كلّ شطط أو خطأ في أحكامهم وقراراتهم ومن كلّ إثم في سلوكهم وفعالياتهم وإذا كان لأهل البيت(ع) هذا المقام الرفيع في الأُمّة الإسلامية، أصبح بمقدورهم أن يقودوا الأُمّة الإسلاميّة الى شاطىء السّعادة الذي هيّأهُ الله سبحانه لهذه الأُمّة الكريمة، وإذن فإن الزهراء(ع) وهي غرس النبوّة ـ قد ضربت على الوتر الحسّاس من المسألة حين تعلن: أنّ إمامة أهل البيت(ع) ابتعاد عن الفرقة والإختلاف على الصعيد السياسي والاجتماعي.

____________
(1) المراجعات: شرف الدّين.

المصدر: الزّهَراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله: الشهيد عبد الزهراء عثمان محمد (الكتابُ الذي أحرز الجائزة الثانية في مُباراة التأليف عن حياة الصديقة الزهراء عليها السلام).

التعليقات (0)

اترك تعليق