الزهراء(ع) قدوة
القدوة:
إنّ القدوة يجب أن لا يُعرّف ويُقدّم لنا كقدوة، ويقال: لنا هذا قدوتكم؛ فمثل هذا الإقتداء تعاقدي ومفروض وخالٍ من الجاذبية.
فنحن الذين يجب أن نختار قدوتنا بأنفسنا، أي أن ننظر في أُفق رؤانا ومعتقداتنا الحقّة، ونلاحظ الصورة التي نرتضيها لأنفسنا من بين تلك الصور.. هكذا تصبح تلك الصورة وتلك الشخصية قدوة لنا.
ولا أعتقد بوجود صعوبة في حصول الشاب المسلم، وخاصة الشاب المطّلع على حياة الأئمة وأهل البيت في صدر الإسلام، على قدوة له.. الأشخاص القدوة ليسوا قليلين.
أذكر بضع كلمات حول الزهراء(ع)، ولعل هذه الكلمات يمكن تعميمها في شأن الأئمة والأكابر، ويمكن لكم التأمّل في هذا المعنى.
أنتِ سيدة[1] تعيشين في عصر طغى عليه التطوّر العلمي والصناعي والتقني، وعالَمٍ رحب وحضارة مادية زاخرة بمختلف المظاهر الجديدة، فما هي الخصائص التي يتحقق فيها معنى الإقتداء بشخصية سبقكِ عهدها بألف وأربعمائة سنة مثلاً، هل تتوقّعين في القدوة التي تتأسين بها أن يكون لها وضع كوضعك، تقتفين أثره في حياتك الحالية، وتفترضين على سبيل المثال كيف كانت تذهب إلى الجامعة؟ أو كيف كانت تفكّر في القضايا العالمية، أو ما شابه ذلك؟
كلا، ليس الأمر كذلك، والأمور المطلوبة التي يُقتدى بها ليست هذه؟
بل هناك في شخصية كل إنسان خصائص أصيلة يجب تحديدها أولاً، ثم يُنظر إلى القدوة في ضوء تلك الخصائص والميّزات.
لنفرض على سبيل المثال كيفية التعامل مع وقائع الحياة اليومية المحيطة بالإنسان.
فقد تكون هذه الوقائع متعلّقة تارة بعهد انتشار المترو والقطار والطائرة النفاثة والحاسوب، وقد تكون تارة أخرى متعلّقة بعهد لا وجود لمثل هذه الأشياء فيه، إلاّ أنّ الإنسان لابدّ وأن يواجه وقائع وأحداث الحياة اليومية، وبإمكانه التعامل معها على نحوين متفاوتين -من دون فرق بين العهدين- فهو إما أن يتعامل معها تعاملاً مسؤولاً، وإمّا أن يقف منها موقف اللامبالي.
ويتفرّع التعامل المسؤول بدوره إلى عدّة أنواع وأقسام، فبأية روحية وبأية نظرة مستقبلية يكون التعامل؟.
فالإنسان يجب أن يبحث عن تلك الخطوط العريضة والأساسية في الشخصية التي يتخذها قدوة له؛ من أجل إتبّاعها والسير على خطاها[2].
ذكر القرآن أربع نساء كن نموذجيات: اثنتان نموذج الصلاح فـي العالم، واثنتان نموذج السوء فـي العالم «ضَرَبَ اللهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ»[3] زوجة نوح وزوجة لوط «كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا»[4]. هذان نموذجان نسويان للكافرين على مر التاريخ. حين يروم الله تعالى تعريف الكفار فـي القرآن والإشارة إلى نموذج لوجود حالة الكفر وإنكار النعمة الإلهية، يذكر بدل فرعون ونمرود وغيرهما من الناس امرأتين: امرأة نوح وامرأة لوط، كانت أبواب الرحمة الإلهية مفتّحةً بوجهيهما، وجميع أسباب العروج والرفعة مُعَدَّةً لهما، وزوجاهما نبيان من طراز النبي نوح ولوط، كانتا تعيشان في بيتيهما، والحجة تامة عليهما. بيد أن هاتين المرأتين لم تعرفا قدر هذه الأنعم«... فَخَانَتَاهُمَا...»، خانتا زوجيهما. ليست هذه الخيانة خيانة جنسية بالضرورة، إنها خيانة عقيدية، خيانة في المسلك، أي أنهما سارتا في الطريق المنحرف. الزوجان مع أنهما نبيّان لهما مقام شامخ لكنهما لم ينفعا مع هاتين المرأتين «فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا»[5] ليس لله تعالى مجاملة وصداقة وقرابة مع أحد. حين يسبغ محبته ولطفه ورحمته على أحد فإنما يفعل ذلك عن حساب وكتاب، لا عن مجاملات. ليس لله أقارب أو عشيرة. وهاتان أيضاً مع أن زوجيهما كانا نبيين إلاّ أن هذين النبيين لم يتمكنا من إنقاذ هاتين المرأتين من الغضب الإلهي. فكانتا نموذج الكافرين فـي كل التاريخ.
وفي المقابل يذكر الله تعالى امرأتين نموذجاً للمؤمنين: «وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ»[6] إحداهما زوجة فرعون والثانية السيدة مريم «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ»[7]. المرأة الأولى لم يفتنها قصر فرعون. امرأة متربية في بلاط فرعون، إنها زوجة فرعون، ولابد أن أباها وأمها وعائلتها كانوا من نفس هؤلاء الطواغيت، فكانت تعيش إذن في منتهى الراحة والنعمة والرفاه والعز الظاهري، بيد أن إيمان موسى فتن قلبها واحتله، فآمنت بموسى. وحين آمنت وعرفت السبيل.. تركت جانباً كل تلك الراحة والرفاه ولم يعد لذلك القصر العظيم أي جاذبية في نفسها، قالت «.. رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ..»[8]، أنا أفضِّل بيتاً في الجنة، إذ ليس للحياة الدنيا قيمة. والسيدة مريم أيضاً «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا..»[9]، صانت شرفها وعرضها، هذه هي القيم الإنسانية.
هذه النساء الأربع لسن نماذج وأمثلة للنساء وحسب، بل لكل النساء والرجال. تلكم المرأتان مع أن باب الرحمة كانت مفتوحة أمامهما لكنهما لم تسلكا ذلك الصراط ولم تنتفعا منه. تنكرتا للمعنوية من أجل أشياء تافهة وحقيرة- لم يذكر القرآن الأسباب، ولابد أنها أمور من قبيل الأخلاق السيئة أو الخصال الذميمة- شيء صغير يجتذب إليه هذه القلوب الضعيفة فينحرف بها عن سبيل الحق، فتغدو مثال الكفّار والإنسان غير الشاكر لربه. أما المرأتان الأخريان فكانتا مثال القيم. جاذبية الروح المعنوية وجاذبية كلام الحق كانت شديدة بالنسبة لها إلى درجة جعلتها تضرب عرض الجدار كل البلاط والبهرجة الفرعونية، والأخرى أيضاً تحلّت بالطُهر والعفاف والتقوى.
فاطمة الزهراء(ع) جمعت كل هذه الفضائل مع بعض. فثمة في القرآن حول مريم «وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ» وهناك في الروايات أنها سيدة نساء العالم في زمانها، بينما فاطمة الزهراء سيدة نساء العالم في كافة عصور التاريخ. هذه هي النموذج. إخوتي الأعزاء، نحن اليوم بحاجة لهذا النموذج[10].
هذه هي منزلة الزهراء(ع)، فماذا يقول الإنسان حول ابنة رسول الله(ص)؟ وماذا يقول حول هذا الموجود العظيم؟
إن عظمة الزهراء(ع) -أيها الأعزاء- مشهودة في سيرتها..[11].
وهنا توجد مسألتان:
المسألة الأولى: ما مدى معرفتنا بالزهراء(ع)؟
حسناً، إن محبّي أهل البيت(ع) قد سعوا طوال تاريخ الإسلام إلى احترام آل بيت رسول الله(ص) والتعلّق بهم وخصوصاً الزهراء(ع) بالقدر المستطاع، وليس لأحد أن يتصوّر أنّ هذه العظيمة أصبحت عزيزة على القلوب في عصرنا فقط، نعم في عصرنا ما في القلوب يجري على الألسن؛ لأنّه عهد الإسلام وحكومة القرآن، عهد الحكومة العلوية وحكومة أهل بيت(ع)، إنها كانت عزيزة دائماً.
فأقدم جامعة إسلامية في العالم الإسلامي والتي يعود تاريخها إلى القرنين الثالث والرابع الهجري هي باسم الزهراء(ع) ألا وهي جامعة الأزهر في مصر والمشتق اسمها من الزهراء(ع)، فكان الخلفاء الفاطميون الشيعة الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك يسمّون جامعاتهم باسم الزهراء(ع).
وقد سعى الشيعة على مدى القرون الماضية للتعلّق بهذه العظيمة.
المسألة الأخرى: هي أنّنا يجب علينا الاهتداء بالنجوم[12].
(أُم أبيها).. الزهراء(ع) مع رسول الله(ص):
لاحظوا أنّ الزهراء(ع) كانت في السادسة أو في السابعة من عمرها- والتردد لاختلاف الأخبار في تاريخ ولادتها- حينما وقع حصار شِعْب أبي طالب. وقد مرّت في الشِعْب على المسلمين فترة عصيبة من تاريخ صدر الإسلام.
فبعدما أعلن الرسول دعوته في مكة بدأ أهالي مكة يستجيبون له وخاصة الشباب منهم والعبيد.
أما أكابر الطواغيت من أمثال أبي لهب وأبي جهل فرأوا أنهم لا سبيل أمامهم سوى إخراج الرسول وأصحابه من مكة؛ وهكذا أخرجوهم وكان عددهم قد بلغ عشرات العوائل.. وفيهم الرسول وأهل بيته وأبو طالب الذي كان من أكابر قريش ووجوهها.
كان لأبي طالب شِعْب -والشِعْب هو الشق بين جبلين- على مقربة من مكّة يُسمّى بشِعْب أبي طالب، عزموا على الذهاب إليه مع ما يتّسم به جو تلك المنطقة من حرّ شديد في النهار وبرد قارص في الليل[13].
كابدت هذه السيّدة أشد العناء في فترة طفولتها حينما أغلقت على المسلمين وعلى الرسول(ص) منافذ العافية في شِعْب أبي طالب، فلم تتوفر لهم حينذاك متطلبات الحياة وأسباب العيش الكريم، وكانت فترة يسودها الاضطراب والفزع من غارات الأعداء، وتُباشر أسماعهم على الدوام الأخبار السيئة، وأصوات الأطفال وهم يتضورون جوعاً، ناهيك عن شتّى ألوان العناء والأذى وما يلقونه في ذلك الشِعْب الذي يلفّه الجفاف، حيث أُرغمت تلك المجموعة من عوائل المسلمين على المكث فيه ثلاث سنوات.
وكانت تلك الويلات تزحف من أولئك الناس كبيرهم وصغيرهم لتلقي بثقلها على كاهل الرسول؛ لأنه هو القائد، ولأنهم جميعاً كانوا يعوّلون عليه، ويعرضون بين يديه كل آلامهم وعنائهم، وكان هو يتحسس جميع ما يقع عليهم من ضغوط مرهقة[14].
وكانت تلك الفترة من الفترات العسيرة التي مرّت في حياة الرسول، الذي لم تنحصر مسؤوليته حينذاك في قيادة تلك المجموعة وإدارة شؤونها، بل كان ينبغي عليه أيضاً الدفاع عن موقفه أمام أصحابه الذين وقعوا في تلك المحنة.
فأنتم على بيّنة أنّ الجماعة الملتفّة حول القيادة، تُبدي ارتياحها ورضاها في حال الرخاء.. وتعبّر عن امتنانها.
ولكن حينما عرّضون للبلاء، أو يقعون في محنة يبدأ الشك يتسرّب إلى نفوسهم، ويُلقون على تلك القيادة مسؤولية قيادتهم إلى ذلك المآل، الذي لم يكونوا راغبين في الوقوع فيه أبداً.
من الطبيعي أنّ أصحاب الإيمان الراسخ يصمدون ويصبرون في مثل هذه الظروف، إلاّ أنّ جميع الضغوط تُصب في نهاية المطاف على كاهل الرسول.
وفي تلك الظروف العصيبة والضغوط النفسية الشديدة التي كان يواجهها رسول الله(ص) تُوفي في أسبوع واحد كل من أبي طالب الذي كان أكبر عون وأمل له، وخديجة الكبرى التي كانت خير سند روحي ونفسي له، فكانت حادثة مريرة بقي الرسول على أثرها وحيداً فريداً.
لا أدري إن كان فيكم مَن تّصدى لرئاسة فريق عمل وعرف معنى المسؤولية.
في مثل تلك الظروف يُغلب الإنسان على أمره.
ولكن لاحظوا دور فاطمة الزهراء في مثل تلك الظروف، وموقفها الإيجابي.. وإذا نظر المرء صفحات التاريخ يجد مثل هذه الموارد متناثرة بين ثناياها ولكن لم تُفرد بباب للأسف.
كانت فاطمة في تلك الظروف بمثابة الأم والمستشار والممرضة بالنسبة للرسول.
ومن هنا أُطلق عليها «أُم أبيها»[15] وهذه الصفة تتعلّق بتلك الفترة التي تكون فيها صبية عمرها ست أو سبع سنوات على هذا النحو..
ألا يمكن لمثل هذه الفتاة أن تكون قدوة للفتيات؛ ليصبح لديهن شعور مُبكّر بالمسؤولية إزاء القضايا المحيطة بهن، ويتفاعلن معها بنشاط[16].
فانظروا إلى حياتها كيف كانت؟ كانت إلى قبل الزواج حينما كانت فتاة، تعامل أباها -نبي الرحمة والنور ومؤسس الحضارة الحديثة، والقائد العظيم للثورة العالمية الخالدة، وحيث كان النبي(ص) آنذاك يرفع راية تلك الثورة- بصورة بحيث أصبحت (أمُّ أبيها) ولم يقال اعتباطاً (أُمُّ أبيها)، فكانت الزهراء(ع) -سواء في مكة أو في شعب أبي طالب أو عندما توفّت خديجة وبقي النبي وحيداً مكسور القلب بوقوع حادثتين في فترة قصيرة وفاة خديجة ووفاة أبي طالب، فأحسّ النبي بالغربة- تزيل بيديها الصغيرتين غبار الحزن والغمّ عن وجه رسول الله(ص)[17].
كان وجه فاطمة ينشرح بوجه أبيها، وتنشط قواها وهي تزيل بمنديل العطف والحنان غبار الهَمْ والحزن عن وجه أبيها، الذي تجاوز حينذاك الخمسين من عمره الشريف ودخل في سن الشيخوخة تقريباً، قبل أن تزيله بيدها[18].
لاحظوا هذه العظمة، فتاة صغيرة تهرع في أشد المحن قساوة وصعوبة لإغاثة أعظم إنسان! ليس هذا بالأمر الهيّن.
هذه هي الفتاة والمرأة التي طوت على مر الزمن؛ في أيام صباها وحتى الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أو الثامنة عشرة من عمرها، وإلى آخر حياتها كل هذه المراتب المعنوية، وأنجزت هذا العمل الكبير، وتركت هذا الأثر في تاريخ الإسلام والتشيّع، وأضحت كوكباً سيظل نوره الأبهى على مدى الزمان منيراً.
كل هذه الخصال اجتمعت في فاطمة وهي في سنّ الشباب[19].
ألا يمكن لهذه الفتاة أن تكون قدوة للشابّات؟ هذه قضية ذات أهمية بالغة طبعاً[20].
فقد واست النبي(ص) وتحمّلت العناء وعبدت اللّه وعزّزت إيمانها وهذّبت نفسها وفتحت قلبها للمعرفة والنور الإلهي، وهذه هي الأمور التي توصل الإنسان إلى الكمال[21].
في مجال الدعوة:
إنّ حياة فاطمة الزهراء(ع) في جميع الأبعاد كانت مليئة بالعمل والسعي والتكامل والسمو الروحي للإنسان، وكان زوجها الشاب في الجبهة وميادين الحرب دائماً، وكانت مشاكل المحيط والحياة قد جعلت فاطمة الزهراء(ع) مركزاً لمراجعات الناس والمسلمين[22].
جهادها:
ومن جهة ثانية كانت حياتها(ع) مكتظة بالجهاد فقد كانت كجندي مضحّ في الميادين المختلفة، لها تواجدها ودورها الفعال والمؤثر منذ فترة الطفولة في مكة وفي شعب أبي طالب ومساعدة والدها العظيم وشحذه بالمعنويات، إلى مواكبة أمير المؤمنين في مراحل حياته الصعبة في المدينة.. في الحرب، وفي غربته، وحيال التهديدات التي واجهته، وفي صعوبات الحياة المادية ومختلف الضغوط، وكذلك خلال فترة محنته -أي بعد رحيل الرسول(ص)- سواء في مسجد المدينة أو على فراش المرض، خلال كل هذه المراحل والأطوار كانت هذه الإنسانة الكبيرة مجاهدة ساعية مكابدة.. كانت حكيمة مجاهدة وعارفة مجاهدة[23].
وبعد وفاة الرسول قصدت المسجد ذات يوم وألقت فيه خطبة عصماء. وهذا من مواقفها الداعية إلى العَجَب، ونحن أصحاب الخطابات والكلمات الارتجالية نعرف مدى عظمة مثل هذه الخطبة، وما معنى أن تُقدم امرأة في الثامنة عشرة أو العشرين أو الرابعة والعشرين على أغلب الاحتمالات -والحقيقة أنّ عمرها الشريف غير معروف على وجه الدقّة؛ بسبب عدم وجود تاريخ مُوحّد لولادتهاـ مع كل ما كانت تحمله من هموم ومصائب، وتدخل المسجد وتخطب أمام حشد غفير من المسلمين، ويُسجّل التاريخ كل كلمة من تلك الخطبة[24].
قال العلاّمة المجلسي: "إنّ على كبار الفصحاء والبلغاء والعلماء أن يجلسوا ويوضّحوا كلمات وعبارات هذه الخطبة"[25].
فقد كانت قيّمة إلى هذه الدرجة، ومن حيث الجمال الفنّي فإنّها كانت مثل أجمل وأرفع كلمات نهج البلاغة وفي مستوى كلام أمير المؤمنين(ع).
ذهبت فاطمة الزهراء(ع) ووقفت في مسجد المدينة وتكلّمت ارتجالاً أمام الناس حوالي ساعة كاملة بأفضل وأجمل العبارات وأصفى المعاني[26].
كان العرب مشهورين بقوّة الحفظ. فكان الرجل يأتي ويلقي قصيدة من ثمانين بيتاً، ثم ترى عشرة رجالٍ- مثلاً- يسارعون إلى كتابتها عن ظهر قلب، وأغلب الأشعار المنقولة حفظت على هذه الطريقة. وعلى غرار حفظ القصائد كانت تحفظ الأحاديث والخطب. وعلى هذا المنوال دوّنت وحُفظت هذه الخطب أيضاً، وبقيت حتى يومنا هذا.
والكلمات لا يخلّدها التاريخ اعتباطاً.. وما كل كلام يُحفظ؛ فلطالما قيلت كلمات وأُلقيت خطب وأشعار، إلاّ أنّ أحداً لم يأبه لها ولم تحفظ، ولكن الشيء الذي يحفظه التاريخ بين جوانحه، وحينما ينظر إليه الإنسان بعد ألف وأربعمائة سنة يشعر إزاءه بالخشوع، لا شكّ أنّ فيه دلالة على العظمة[27].
إنّ جهاد تلك المكرّمة في الميادين المختلفة هو جهاد نموذجي، في الدفاع عن الإسلام وفي الدفاع عن الإمامة والولاية، وفي الدفاع عن النبي(ص)، وفي المعاشرة مع أكبر القادة الإسلاميين وهو أمير المؤمنين الذي كان زوجها.
وقد قال أمير المؤمنين(ع) مرّة بشأن فاطمة الزهراء(ع): «ما أغضبتني ولا خرجت من أمري[28].
ومع تلك العظمة والجلالة فإن فاطمة الزهراء(ع) كانت زوجة في بيتها، وامرأة كما يقول الإسلام، وعالمة رفيعة في محيط العلم[29].
هكذا كانت عبادتها وفصاحتها وبلاغتها وحكمتها وعلمها ومعرفتها وجهادها وسلوكها كزوجة وكأم، وإحسانها إلى الفقراء[30].
ودافعت عن حق الولاية دفاع المستميت وتحمّلت في ذلك كل ذلك العذاب وتلك المصائب ثم استقبلت تلك الشهادة العظيمة بكل رحابة صدر. فهذه هي فاطمة الزهراء(ع)[31].
الصديقة الزهراء(ع) ومحنة أمير المؤمنين(ع):
"لقد كانت مهمّة الأنبياء، بأسرهم، إيصال البشرية إلى نقطة تمثّل بالنسبة لها- أي للبشرية- بداية لحياة جديدة.
لكن ماذا كان على نبينا الخاتم أنْ يفعل كي يؤدّي هذه المهمّة في ضوء رسالته الخاتمة؟.
كان عليه أنْ يحافظ على المسار التربوي الذي كرّسه ليبقى مستمرّاً وحيّاً على مدى الأجيال.
لكنّ النبي رحل عن الدنيا «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ»[32]، إذن كان لا بدّ له من تنصيب مَن يقوم مقامه ويستمرّ بذات النهج النبوي ويستخدم ذات الأساليب، ولم يكن من أحد مؤهل لأن تناط به هذه المهمّة سوى علي بن أبي طالب.
وهذا هو المراد من (التنصيب) الذي شهده يوم الغدير.
ولو وعت الأمّة الإسلامية -في ذلك اليوم- المفهوم الحقيقي للتنصيب الذي قام به رسول الله(ص)، وتمسّكت به، واتبعت علي بن أبي طالب(ع)، وكُتِبَ للتربية المحمدية أنْ تستمر بواسطة أشخاص معصومين يتعاقبون بعد أمير المؤمنين ويسيرون بالأمّة تحت مظلّة التربية الإلهية، لتسنّى للبشرية الوصول إلى تلك النقطة التي من المفترض أن تصل إليها، ولم تصلها لحد الآن، بأسرع ما يكون. ولتقدّم العلم البشري، وارتفعت المنازل المعنوية والروحية للناس، وساد الأمن والسلام بينهم، وانطوت صفحات الظلم والجور والرعب والخوف والتمييز.
تقول فاطمة الزهراء(ع)- وهي ذلك اليوم أعرف الناس برسول الله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب-:
"وأيم الله لو تكافوا[33] عن زمام نبذه إليه رسول الله لاعتلقه[34] ثم لسار بهم سيرا سجحا[35]، لا يكلم[36] خشاشه[37]، ولا يتعتع[38] راكبه، ولأوردهم منهلا[39] رويا صافيا فضفاضا[40] تطفح ضفتاه، ثم لأصدرهم بطانا[41] قد تخير لهم الري غير متحل منه بطائل إلا بغمر الماء وردعه سورة الساغب[42]، ولانفتحت عليهم بركات من السماء والأرض، ولكنهم بغوا فسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون"[43].
>إنّ الأخطاء الجسيمة التي ترتكب من شأنها تغيير مجرى التأريخ بأسره، وهي عادةً ما تلقي بظلالها على البشرية فتخلق لها مشاكل وأزمات كبيرة جدّاً.
وقد كان تأريخ صدر الإسلام تأريخاً حافلاً بالأحداث والمواقف، وقد تضمّن فلسفةً عميقة جدّاً.
ومن المناسب ونحن في عام أمير المؤمنين[44]-وهذا العام والأعوام التي تليه كلها أعوامه- أنْ نقف عند هذه الفلسفة ونتأمّلها بإمعان.
كما لا بدّ للبشرية اليوم من السير على ذلك النهج الذي خطّه أمير المؤمنين. وعلى سائر الأمم إذا ما أرادت الوصول إلى ذلك المستقبل الموعود أنْ تتمسك بالعدل وتهتم بالجانب المعنوي، وتتجنّب الرذائل الخلقية والأهواء والشهوات والآثام.
ولطالما سارت البشرية في سبل منحرفة أقصتها بعيداً جداً عن مستقرّها النهائي"[45].
"لم تسبب الخسارة لذلك الزمان فحسب، إنما عادت بالخسارة على كل التاريخ الإنساني. فاطمة الزهراء(ع) قالت لنساء المدينة قبل خمسة وعشرين عاماً من ذلك التاريخ وهي على فراش المرض لو كانوا قد أمّروا علياً «لسار بهم سيراً سُجُحاً» و«السُجُح» هو السير المستوى المرن، أي أنه كان سيجعل طريق حياة الناس سالكاً سوياً. «لا يُكلِمُ خُشاشة»، لن يدع -حسب تعبيري- قوة الحكومة وروح السلطة الإسلامية تجرح جسد المجتمع الإسلامي حتى أبسط الجروح. ما كان سيسمح بأية أضرار أو خسائر. كان سيسيّر الأمور من دون أية آفات أو تبعات. أفضل أنماط الحكم هو أن لا تسبب الحكومة جراحاً أو خدوشاً للناس، فتعمِّر حياة الناس مادياً ومعنوياً. «ولا يكلّ سائره ولا يملّ راكبه ولأوردهم منهلاً غيراً صافياً رويّاً». هذا ما قالته فاطمة الزهراء يومذاك. تأخر هذا الحدث خمساً وعشرين سنة، إلاّ أن الأمة الإسلامية اجتمعت أخيراً وأمّرت أمير المؤمنين. خلال هذه الأعوام المعدودة أي منذ ذي الحجة سنة 35 حتى شهر رمضان سنة40- أربعة أعوام وتسعة أو عشرة أشهر- قام أمير المؤمنين بأعمال كبيرة. أسّس لأمور لولا سيف الغدر والخيانة، ولو لم تقع هذه الجريمة الكبرى على يد ابن ملجم والعناصر التـي اختبأت خلف الكواليس، لواصل أمير المؤمنين هذا الطريق ولكان ذلك ضماناً وحصناً إضافياً للعالم الإسلامي ربما إلى قرون من الزمن. لذا فإن الكارثة التـي حلت يومذاك كانت جسيمة الخسائر على العالم الإسلامي وتاريخ الإسلام. أبعدوا هذا المنهل الروي الصافـي الزلال الذي كان بوسعه إرواء العالم الإسلامي عن متناول أيدي العالم الإسلامي، لذلك كانت مصيبة خالدة"[46].
"لو كانت الأمة الإسلامية قد وعت يومها التنصيب الذي بادر إليه النبي(ص) بمغزاه الحقيقي وأحسنت استيعابه، واقتفت أثر علي بن أبي طالب(ع) وتواصلت التربية النبوية، وظلّل المعصومون من بعد أمير المؤمنين(ع) الأجيال البشرية المتعاقبة بظلال تربيتهم الإلهية بعيداً عن الهفوات كما صنع رسول الله(ص)، لأفلحت البشرية في بلوغ المستوى الذي عجزت عن بلوغه لحد الآن بسرعة فائقة، من تطوّر في العلم البشري وتسامٍ في المراتب الروحية للإنسان، واستتباب للسلام والوئام بين الناس، وزوال للظلم والجور وانعدام الأمن والتمييز والحيف بين الناس، وهذا ما صرّحت به فاطمة الزهراء(ع) -التي كانت أعرف أهل زمانها بمنزلة النبي وأمير المؤمنين- من أنّ الناس لو اتبعوا علياً لسلك بهم هذا الطريق وبلغ بهم هذا المآل. غير أنّ الإنسان كثيراً ما يقع في الأخطاء.
طالما أوقعت الأخطاء الكبرى، التي شهدها التاريخ، الإنسانية في خضمّ من المحن الجسام، وإنّ مسيرة البشرية خلال عهد خاتم النبيين(ص) زاخرة بالحوادث والقصص المهمة وتنطوي على فلسفة غاية في العمق، ونحن إذ نعيش عام أمير المؤمنين(ع) -وهذا العام وغيره من الأعوام إنما هي أعوامه(ع) أيضاً- خليق بأن تحظى هذه الفلسفة بمزيد من التأمّل والتمحيص، وعلى البشرية المعاصرة أن تبادر إلى نفس تلك الحركة والمسعى، وكلما تزيّنت المجتمعات البشرية بالعدالة والمعنويات وتنزّهت الإنسانية عن رذائل الأخلاق والأنانية والنوايا السيئة والنزعات الشهوانية وحب النفس؛ إذ ذاك ستكون أكثر قرباً من ذلك في المستقبل، فلقد وقعت البشرية ضحية الانحرافات على مدى التاريخ، وسلكت طريقاً ابتعد بها كثيراً عن غايتها المنشودة"[47].
عبوديتها:
"فيجب علينا الاهتداء بها إلى الله وإلى طريق العبودية، وإلى الصراط المستقيم. فالزهراء(ع) قد سلكت هذا الطريق فأصبحت الزهراء، وإن رأيتم أن الله قد جعل طينتها طينة متعالية؛ لأنه كان يعلم أنها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان في عالم المادة والناسوت [الطبيعة الإنسانية]، وإلاّ فالطينة الطيبة كانت كثيرة، لكن هل تمكّن الجميع من الصبر على الامتحان؟ "امتحنك الله قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة"[48].
هذا جانب من حياة الزهراء(ع) التي نحتاج إليها لتطهير أنفسنا، فالحديث ورد من طريق الشيعة أنّ النبي(ص) قال لفاطمة(ع): "يا فاطمة، إنّني لا اُغني عنك من الله شيئاً"[49] أي يجب عليك أن تفكّري بنفسك، فكانت تفكّر في نفسها من صغرها إلى نهاية عمرها القصير"[50].
"إنّ قيمة فاطمة الزهراء(ع) تكمن في عبوديتها لله، ولولا عبوديتها لَما اتّصفت بالصدّيقة الكبرى، فالصدّيق هو الشخص الذي يظهر ما يعتقده ويقوله على سلوكه وفعله، وكلما كان هذا الصدّيق أكبر، كانت قيمة الإنسان أكثر، فيكون صدّيقاً، كما قال تعالى: «فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ»[51]، حيث جاء ذكر الصدّيقين بعد النبيين.
فكانت هذه العظيمة صدّيقة كبرى، أي أفضل صدّيقة، وكانت صدّيقيّتها بعبادتها لله، فالأساس هو عبادة الله؛ وهذا لا يختصّ بفاطمة الزهراء(ع) فحتى أبوها الذي يعدّ مصدر فضائل المعصومين جميعاً، والذي يشكّل أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء(ع) قطرات بحر وجوده المتلاطم، إنما كانت قيمته عند الله بفضل عبوديته (أشهد أنّ محمداً عبده ورسوله) فقد جاء ذكر العبودية قبل الرسالة، بل إنّ الرسالة إنما أعطيت له لعبادته؛ لأن الله تعالى يعلم بمخلوقه وما تصنع يداه، أفلسنا نقرأ في زيارة الزهراء(ع): "امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك"؟[52].
إنّ أعمالنا معلومة لله تعالى، فعندما نتعرّض للمعاصي والأهواء والأموال والشهرة، فهل نحاول الوصول إليها، وإن على حساب التخلّي عن الشرف والإيمان والتكليف وأمر الله ونهيه أوْ لا؟.
هنا يكمن اختيارنا، فأي طريق نسلك؟ فحينما يؤدّي التكلّم بشيءٍ إلى إلحاق ضرر مادي بشخص ما، وحينما يُلبّي فعلُ هوى الإنسان في اقتراف المعاصي، نقف على مفترق طريقين، فأي الطريقين ننتخب؟ هل نختار طريق الهوى والمعصية والمال، أو طريق العفّة والتقوى وعبادة الله؟ سنختار واحداً من هذين الطريقين، فالنتيجة نحن من يختار، والله تعالى يعلم ما سنختاره؛ لأنه من علم الله سبحانه وتعالى؛ فإذا كنت شخصاً قادراً على الصمود أمام جبل من القيم المادية التي تلبّي الأهواء، فعندها سيكتب لك الله مقاماً محموداً: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا»[53].
إنّ الله سبحانه وتعالى لم يتفضّل عل
اترك تعليق