السيدة المجتهدة أمين مثال بارز للأشخاص الذين يصنعون التاريخ
"اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَيناحَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً بِرَحْمَتِكَ يَاْ أَرْحَمَ الراْحِمِيْن"
السيدة المجتهدة أمين، مثال بارز للأشخاص الذين يصنعون التاريخ، حيث أنها قضت عمرها في التهذيب والتعليم والتعلّم وتركت وراءها عطاءً خالداً. لقد كانت أسوة في النظم والتقوى. فقد عرفت ذاتها ووجدت مكانتها في عالم الوجود، ثم سارعت إلى إرشاد مثيلاتها من النساء وهدايتهن إلى الطريق القويم.
مولدها ونشأتها العلمية:
ولدت في مدينة أصفهان سنة 1308هـ، ونشأت وترعرعت في أحضان والديها، في بيت ملؤه الإيمان والتقوى وحبّ العلم والعلماء، وفي بيئة بُنيت على أساس الولاء المطلق لأهل البيت عليهم السلام ولا شكّ ولا ريب أنّ هكذا بيت وهكذا بيئة قد رسما لهذه المولودة طريقها، وكانت لهما كبير الأثر في مسيرة حياتها المباركة.
بدأت بتعلّم القرآن الكريم ودراسة الكتب الفارسيّة، وهي في الرابعة من عمرها، وتزوّجت بابن عمها وهي في الخامس عشرة من عمرها.
لكنّ واجبات البيت وتربية الأطفال لم تمنعها من التعلّم وقراءة الكتب والاستزادة من المعرفه والثقافة الإسلاميّة، بل استمرت في الانتهال من المعارف الإسلاميّة رغم الظروف السياسيّة الصعبة التي كانت تعيشها كلّ الاُسر المتديّنة، وتعاني منها كلّ فتاة تريد الاستمرار في دراستها الإسلاميّة. فالحاكم الظالم رضا شاه كان قد بدأ حملته الشرسه في منع الحجاب الإسلامي، وفرض الثقافة والعادات الغربيّة على المجتمع الايراني المسلم.
فبدأت رحمها الله ـوهي في العشرين من عمرهاـ بقراءة المقدّمات الأدبيّة وجانباً من أوائل الفقه والاُصول وأوّليات العلوم العقليّة عند أفاضل عصرها كالشيخ علي اليزدي المعروف بالحاج آخوند زفرهاى، والميزا علي أصغر الشريف، والحاج أقا حسين نظام الدين الكجوئي، والسيّد أبي القاسم الدهكردي.
وحينما أتمّت مرحلة المقدّمات والسطوح، بدأت بدراسة الفقه والاُصول العاليين والعلوم العقليّة على كبار الأساتذة في ذلك الوقت كالشيخ محمد رضا الأصفهاني المسجد شاهي (أبوالمجد)، والسيّد محمّد النجف آبادي، والسيّد علي النجف أبادي. وهذا الأخير هو أكثر من استفادت منه علماً وعملاً.
كانت رحمها الله جادّة في تحصيل العلم غاية الجدّ، ومداومة على المطالعة والقراءة، شديدة المواظبة على الحضور لدى الأساتذة في الساعات المعيّنة للدراسة، لم تفوّت الفرصة لتحصيل العلم واكتساب الآداب، ولم تثن عزمها الموانع التي كانت تعترض طريقها في كثير من الحالات.
نقلَ استاذها السيّد علي النجف آبادي أنّه سمع أنّ طفلاً لها قد توفّي، فظنّ أنّها سوف تنقطع عن الدرس لمدّة طويلة حداداً على فقيدها، كما تقتضيه عواطف الامّهات، ولكن خادمها جاء بعد يومين يطلب منه الاستمرار في الدرس. فتعجّب الاستاذ من هذا الالتزام بالدرس والمقاومة الروحيّة في الشدائد والمصائب.
وحينما بلغت الأربعين من عمرها، كانت قد استكملت دراستها الإسلاميّة، ووصلت إلى مرحلة عالية تؤهّلها لاستنباط الأحكام الشرعيّة، فقد امتحنها أجلّة الفقهاء في عصرها بأسئلة كتبيّة، فكانت أجوبتها قويّة جدّاً بحيث أثبتت جدارتها العلميّة ومؤهّلاتها العالية في استنباط الأحكام الشرعيّة، فكتبوا لها إجازات صرّحوا فيها بأنّها بلغت درجة الاجتهاد، وعظّموا مكانتها من العلوم الدينية، ومن هؤلاء الفقهاء السّادة المراجع: السيّد أبو الحسن الأصفهاني، والسيّد الاصطهباناتي، والشيخ محمد كاظم الشيرازي، والشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي(1).
وقد قضت هذه العلويّة العالمة النصف الثاني من عمرها بالتدريس والافادة وتربية الطالبات الدارسات للعلوم الدينيّة، وأصبح بيتها في أصفهان منتدىً للنساء العالمات يفدنَ إليها من مختلف المدن وعلى مختلف المستويات الثقافيّة، لغرض التعلّم والاستفادة ممّا آتاها الله من العلم والمعرفة، والاستشارة في اُمور دينهن وما اُلقي على عاتقهن من المسؤليات.
واشتهرت شهرة كبيرة في آفاق ايران وغيرها من المراكز العلميّة، وعرفها كبار العلماء والفقهاء، وأصبحت لها معهم علاقات علميّة وطيدة، حيث كانوا يأتون إلى بيتها لأجل أن يتباحثوا معها في العلوم الإسلاميّة ، أو يراسلوها مستفسرين عن رأيها في بعض الأحكام الشرعيّة، منهم المفسّر الكبير السيّد محمّد حسين الطباطبائي، والفيلسوف الشهير الشيخ محمّد تقي الجعفري، والعلاّمة الكبير المجاهد الشيخ عبدالحسين الأميني(2).
وقد سَعَتْ رحمها الله في انشاء مدارس ومؤسسات لتربية البنات تربيّة اسلاميّة صحيحة، وكانت تتعهدّها بنفسها وترعاها، فمن مؤسساتها مدرسة للبنات عُرفت بـ «دبيرستان دخترانه أمين»، و «مكتب فاطمة »، حيث تخرّج منها نساء فاضلات تولّينَ التدريس وبعض الشؤون العلميّة والدينيّة للنساء في عصرها وبعد وفاتها.
ومن صفات هذه العالمة المترجَم لها أنّها كانت منذ بدايات نشأتها العلميّة تميل إلى التفكّر والتدبّر في الآفاق والأنفس ودرك الحقائق عن طريق العقل والكشف، لا عن طريق النقل من الأفواه والتقليد. فساقها هذا الميل النفسي إلى ما يُسمّى بالعرفان. واشتد عندها عندما درست الفلسفة والعلوم العقلية، وظهرت هذه الظاهرة بارزة في كتابيها «الأربعين الهاشميّة» و «النفحات الرحمانية».
ومن صفاتها أيضاً التواضع الكبير ونكران الذات، فهي مع مقامها الرفيع في العلم وموقعها في المجتمع الإسلامي، كانت تتجنّب وسائل الإعلام وما يؤدي إلى الشهرة، فتُجيب الذي يسألها عن حياتها وعلمها بأجوبة جزئية، حتى إنّها طبعت بعض مقالاتها وكتبها باسم «بانويه ايراني» أي سيّدة إيرانيّة(3).
وقد ابتليت رحمها الله بفقد أطفالها، حيث أنجبت ثمانية أطفال، لم يعش منهم إلاّ واحداً(4).
____________
1 ـ المسلسلات في الإجازات 2: 451.
2 ـ انظر كتاب «بانوى مجتهد ايرانى».
3 ـ المسلسلات في الإجازه 2: 451 ـ 453.
4 ـ يادنامه بانو مجتهد.
اترك تعليق