العوامل الغيبيّة وأثرها في التربيّة
من بين العوامل المؤثّرة في التربية -أيضاً- العوامل الغيبيّة التي هي أبعد من الأمور الطبيعية، وهي غير ملموسة ومحسوسة للإنسان، ولكنّ لها دورها المهمّ في الحياة وعلى صعيد تربية الإنسان؛ كالإمدادات والألطاف الإلهيّة. فالتّوجّه بالدُّعاء والمناجاة والتضرّع في محضر الله تعالى، والتوسّل بالذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام، والالتفات إلى الدور التربويّ للملائكة وطلب العون منهم، وغيرها... تُعدّ من عوامل الغيب وما وراء الطبيعة المؤثّرة في تربية الأولاد. فما أكثر الأبناء الذين سعدوا ووصلوا إلى أعلى درجات الكمال بفضل دعاء والديهم لهم بالخير. وما أكثر الأفراد الذين بتضرُّعهم ودعائهم وتوسُّلهم، كانوا السبب في نجاة أبنائهم من المهالك الجسديّة والرّوحيّة المختلفة، وحفظوهم من شرِّ الشياطين، وأعدّوا لهم أرضية النُّصرة الإلهيّة؛ لأجل تربيتهم بشكلٍ سليمٍ وصحيح!
ومن جملة عوامل ما وراء الطبيعة استناداً للعقيدة الإسلامية؛ الملائكة والشياطين، التي بسبب عدم محسوسيّتها وعدم إمكانيّة لمسها، لم يُجعل دورها في التربية مورد اهتمام جدِّي. فالملائكة والشياطين تؤثِّر في تربية الإنسان، وعلاقتها بالإنسان هي علاقةٌ طوليّةٌ؛ لأنّ الإنسان إذا أراد الخير فإنّ الملائكة تساعده وتعينه في هذا الاتّجاه، وإذا أراد الشرّ فإنّ الشياطين تسانده في ذلك الاتّجاه أيضاً، دون أن يكون أحدٌ منهما مسلّطاً على الإنسان؛ بمعنى أنّه لا يسلب الإنسان الإرادة والاختيار. فالإنسان طالما أنّه بنفسه لم يمهِّد الأرضية المناسبة ويفتح المجال للشياطين، فلا يمكن لأحدٍ أن يحمله على الشرّ.
وقد أشار الإمام علي عليه السلام -في ما يتعلّق بتربية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذه الحقيقة بقوله: "ولقد قَرَن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لَدُنْ أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره"1.
أمّا الشياطين، فإنّ كلّ من فسح لهم المجال لنفوذهم يجعلونه تحت ولايتهم ويسوقونه إلى الهلاك. يقول الله تعالى في ما يخصّ علاقة الشيطان بالإنسان: «قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ»2.
وعن الإمام علي عليه السلام ـ أيضاً: "إنّ الشيطان يُسَنّي لكم طرقه، ويريد أن يَحلَّ دينكُم عُقدةً عقدةً، ويُعطيكم بالجماعةِ الفُرقَة، وبالفُرقة الفتنة، فاصدِفوا عن نزغاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممّن أهداها إليكم، واعقِلُوها على أنفسكم"3.
وفقاً لهذا العامل التربويّ، يجدر بالوالدين أن لا يغفلوا عن الاستمداد من العوامل الغيبية؛ كالدّعاء، والتضرّع، والتوسّل، والذّكر، والمناجاة في ساحة قاضي الحاجات. فما أكثر ما غيّر دعاءُ الأمّ والأب النابع من حرقة القلب مصير ولدهم حتى غدا من زمرة الصالحين والحكماء؛ لأنّ دعاءهما هو من الأدعية التي تُستجاب سريعاً. وقد علَّمنا أهل البيت والعصمة والطهارة عليهم السلام هذا الدرس عملياً من خلال تضرّعهم وابتهالهم إلى الله سبحانه وتعالى بأن يحفظ لهم أولادهم، وأن يصحّ لهم دينهم وأخلاقهم، وأن يعافهم في أنفسهم وجوارحهم؛ كما في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللهمّ ومنّ عليّ ببقاء ولدي، وبإصلاحهم لي، وبإمتاعي بهم، إلهي امدد لي في أعمارهم، وزد لي في آجالهم، وربّ لي صغيرهم، وقوّ لي ضعيفهم، وأصحّ لي أبدانهم وأديانهم وأخلاقهم، وعافهم في أنفسهم وفي جوارحهم وفي كلّ ما عُنيت به من أمرهم، وأدرر لي وعلى يدي أرزاقهم، واجعلهم أبراراً أتقياء بُصراء سامعين مطيعين لك ولأوليائك محبّين مناصحين، ولجميع أعدائك معاندين ومبغضين آمين"4.
الهوامش:
1- نهج البلاغة، الخطبة 192.
2- الحجر، 39-42.
3- نهج البلاغة، الخطبة 120.
4- الصحيفة السجادية، من دعائه عليه السلام لولده عليهم السلام.
المصدر: التربيّة الأسريّة: دروس في ثقافة التربيّة الزوجيّة والأسريّة، مركز نون للتأليف والترجمة. ط1، جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، بيروت، 2013م.
اترك تعليق