دور السيدة زينب(ع) في المسيرة الحضارية
جاءت الرسالة الإسلامية لتقدم منهج تحرير الإنسان من كل ما يعيقه عن الحركة على طريق كرامته.. تحريره من الجهل والخرافة وعبودية الطاغوت وعبودية الهوى ومن الخضوع والاستسلام لكل ما يريد للإنسان أن يكون ضعيفًا ذليلاً مقهورًا.
بهذا المنهج خلق الإسلام في المجموعة المسلمة طاقةً روحية والصبر على مواصلة المعاناة، وهذه الطاقة الروحية كانت وراء كل ما ظهر في التاريخ الإسلامي من فتوحات وعلوم وفنون وحضارة مشرقة.
الإسلام ركز في مفاهيمه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره الضمان اللازم لمقاومة المعوقات التي تظهر أمام المسيرة الحضارية، وهذا المبدأ يضع المسلمين أمام مسؤولية مواجهة هذه المعوقات وبذل الغالي والنفيس لإزالتها.
هذه المعوقات غالبًا ما تكون طبيعية ناتجة عن خصلة الطين الموجودة في البشر. وتكون هيّنة حين تبرز على الساحة الفردية، فتتوجّه دعوة الإسلام إلى هذا الفرد أو ذاك للهداية ولتقويم الاعوجاج، ومن ثم لدفع هذا الإنسان على مسيرة الكرامة والكمال. غير أنها تكون خطرة حين تتحوّل إلى عائق يقف أمام كل المسيرة الاجتماعية نحو الكرامة. فيصاب المجتمع بالذل، وتنتكس المسيرة برمّتها. من هنا فإن الرساليين -وهم الذين استعلوا بإيمانهم عن السقوط في أوحال الذلّ- يتحملون من مسؤوليات التضحية بمقدار حجم الانحراف الهائل.
المجتمع الإسلامي بعد عصر الخلافة الراشدة مُني بسبب عوامل عديدة بهذه النكسة، وأوشكت حالة الذلّ أن تخيّم على المجتمع الإسلامي بعد أن أطبق عليها التخويف والتجويع والإرهاب في أفظع صوره.
من هنا كان لابدّ من إجراء عملي كبير لإحداث هزّة نفسية في المجتمع، تُشعره بكرامته المهدورة وعزته الضائعة، وكان الإمام الحسين عليه السلام يتحمل هذه المسؤولية باعتباره إمام ذلك المجتمع. (محمد مهدي شمس الدين، ثورة الحسين).
كل مواقف الحسين وحركاته وسكناته وكل ما قاله وخاطب به أصحابه وأهل بيته وما خاطب به الجيش القادم على قتاله يؤكد هذه الحقيقة.. حقيقة أنه قادم لإعادة الكرامة إلى المجتمع الإسلامي.
ليس حديثنا عن الحسين، بل عن عقيلة بني هاشم زينب بنت علي التي كان لها الدور الأكبر بعد الحسين في عملية إحياء المجتمع المسلم، فماذا كان دورها الرسالي في تحقيق هذا الهدف الكبير؟
لابدّ أن أذكر أولاً أنها كانت -في اعتقادي- مؤهّلة تمامًا لحمل هذا الدور. لا تتوفر لدينا وثائق كثيرة عن شخصيتها، ولكن ما ذكره لنا التاريخ من نتف عابرة هو كاف لمعرفة شخصية هذه المرأة وتأهّلها لهذا الدور. يكفي ما ذكره لنا التاريخ أن هذه المرأة يخاطبها الحسين في أعظم وأصعب موقف، في ليلة الاستعداد للقتل والسبي.. في ليلة العاشر من محرم ويقول لها: "يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل"!!
إني أفهم من هذه العبارة شيئًا كثيرًا.. بعضه أستشعره دون أن أتمكن من بيانه، وبعضه يمكن بيانه، إنها عبارة تبين ارتفاع الأخ والأخت إلى مستوى يفوق بكثير الحالات التي تصيب الناس العاديين حين يواجهون موقفًا رهيبًا، تبين مدى ارتباط الأخوين بالهدف الكبير ومدى سموّهما في القرب الإلهي.
وثمة وثيقة أخرى بقيت خالدة عن هذه المرأة هي قولها عنـد وقوفها على جسد أخيها المدمى المقطع بالسيوف المحزوز الرأس.. وهو مشهد يهدّ الجبال ويضعف الأبطال، قولتها المشهورة:
"اللهم تقبل منّا هذا القربان"!! ومن الأفضل للإنسان أن يكفّ عن أي تعليق على هذا القول ويكتفي بما يُحدثه في النفس من عاصفة تحيّر العقول وتدهش النفوس!!
وثمة وثيقة ثالثة تبيّن تأهل هذه المرأة لمثل هذا الدور الرسالي ما ذكره المؤرخون أنها أدت ليلة الحادي عشر من محرم صلاة الشكر..
يا إلهي كفى على عظمتك شهيدًا أنك خلقت أمثال هؤلاء العظماء الذين لا تقاس بهم عظمة سماواتك وأرضك.!!!
وهل يمكن أن نقبل أمام هذه العظمة ما يصرّ بعضنا على روايته من ضعف وانهيار أصاب هذه المرأة الكبرى.. أنا على يقين من أن روح الضعف والهزيمة التي مُنينا بها هي التي تجعلنا نصوّر زينب بما لا يليق بهذه المرأة العظيمة.
الدرس الكبير العملي الذي قدمته زينب للأمة الإسلامية هو كيف يمكن تبديل حالة الذل إلى حالة العزّة والكرامة.
والبديع في الأمر أن أسرها ساعدها في النهوض بهذا الدور الرسالي التاريخي.
لو كانت زينب عزيزة بإخوتها وأهل بيتها وعشيرتها وأصحابها لما استطاعت أن تؤدي هذه المهمة. ولكنها وقعت في ذلّ الأسر بعد أن فقدت إخوتها وأهل بيتها وحماتها، ولا شك أن الأسر ذلّ ما بعده ذلّ خاصة حين يكون بيد أناس ذبحوا ابن بنت رسول الله، وأحرقوا خيم عياله، ورضّوا أجساد القتلى بالخيل، ومارسوا ألوان الفظاظة والقسوة والدناءة.
ولكن دور زينب هو أنها حوّلت هذا الذل إلى عزّة وكرامة، وكأني بها قالت للمجتمع الذي خيّم عليه الذل: أنا امرأة وحيدة لا ناصر لي ولا مُعين حوّلت حالة الذلّ التي وقعتُ فيها إلى حالة عـزّ فهل فيكم من بقايا كرامة ؟!
كيف مارست زينب هذا الدور الرسالي الكبير؟
1 ـ عدم الشعور بالهزيمة:
وهذه صفة هامة لمن يتأهّل لتحويل الهزيمة إلى انتصار. لو بدا على زينب الانكسار أو الضعف والانهيار لما استطاعت أن تؤدي مهمتها، لكنها في مواقفها كانت من القوة بحيث جعلت المؤرخين يتحدثون عن هذه المواقف. قال بشر بن خزيم الأسدي وهو يصف موقف زينب لدى خطبتها في الكوفة:«ونظرت إلى زينب بنت علي (عليها السلام) يومئذ فلم أر خَفرة أنطق منها كأنها تُفْرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدّت الأنفاس وسكتت الأجراس».
هذا الموقف يدل على أن صلابة شخصية زينب قد أثّرت في هذا الرجل كما أثرت في كل المخاطبين. يقول الراوي: «لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخًا واقفًا إلى جنبي يبكي حتى اخضلَّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل لا يُخزى ولا يبزى».
هذه الصلابة وعدم الإحساس بالضعف أفقدت صواب والي يزيد، عبيد الله بن زياد، فما بالك بالآخرين الحاضرين في مجلسه؟! حين أُدخل عيال الحسين على ابن زياد فدخلت زينب متنكرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتى جلست ناحية من القصر، وحفّت بها النساء. فقال ابن زياد: مَنْ هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل. فقالت بعض النساء: هذه زينب بنت رسول الله(ص).
لاحظوا عظمة الموقف: دخلت على أعتى مستكبر وأبشع قاتل وأفظع طاغية، فما التفتت إليه، ولا وقفت أمامه، ولا استأذنته في الجلوس، بل أهملته وانحازت وجلست مع النساء في جانب من القصر، ثم لم تجب على سؤال الطاغية رغم أنه كرره ثلاثًا.
هذا يعني أنها لم تستشعر أيّ ضعف ولم يساورها أي شعور بالهزيمة.
2 ـ المحافظة على روح العزّة:
حرصت زينب عليها السلام على صيانة روح العزّة لدى سبايا أهل البيت كي لا يستشعروا الذلة في أسرهم، ولكي يكونـوا هم أيضًا صورة لمن يأبى أن يُذلّ.
في الرواية أن السبايا بالشام حين أُدخلوا في دار إلى جانب المسجد الأعظم كان من الطبيعي أن تزورهم النساء، فتجمّعن على باب هذا البيت للدخول على زينب، فخشيت زينب أن يساور نساء آل بيت النبوة نوع من الإحساس بالذلة أمام بقية النساء، فرفضت زينب دخول النساء عليها وقالت: «لا تدخل علينا إلا مملوكة أو أُمّ وَلَد فإنهنّ سُبين كما سُبينا».
لاحظ أنها سمحت لدخول نوع خاص من النساء يشاركن أهل بيت النبوة في الأحاسيس والمشاعر، دون بقية النساء اللاتي لا يحملن مثل هذا الإحساس والتاريخ المشترك.
وفي الرواية أن قافلة السبايا حين دخلت الكوفة قدّ م بعض أهل هذه المدينة تمرًا وخبزًا. فصاحت زينب: "إن الصدقة حرام علينا أهل البيت". فرمى كلّ واحد منهم ما في يده أو فمه رغم ما كان يعانيه من جوع وراح يقول: لصاحبه: إن عمتي تقول إن الصدقة حرام علينا أهل البيت!!
بهذا الشكل جعلت هذه الأسرة الكريمة تستشعر عزتها وكرامتها في انتسابها لآل بيت رسول الله(ص).
3 ـ الإيمان بالمستقبل:
من عناصر التربية القرآنية في تحقيق النصر الإيمان بالمستقبل، الإيمان بانتصار العدل على الظلم وانتصار الدم على السيف وانتصار المستضعفين على المستكبرين. هذا الإيمان كان راسخًا في نفس زينب وكان له الأثر الكبير في تحقيق هدفها الكبير.
في الرواية أنها رأت التأثر الكبير على علي بن الحسين وهو يستعرض ذكريات الواقعة الأليمة في كربلاء، ومشهد الأجساد المتناثرة على الرمضاء، فقالت له: "مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فو الله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنةُ هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والأجسام المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علمًا لقبر أبيك سيد الشهداء، لمّا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على مرور الليالي والأيام، وَلَيَجْتَهِدَنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلاّ علوّا".
وبهذا الإيمان بمستقبل تسقط فيه دولة الظالمين تخاطب يزيد قائلة: «فَكِدْ كيدَك واسعَ سعيَك، وناصبْ جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تُميتُ وحينا، ولا تُدرك أمدَنا، ولا ترحَضُ (تغسل) عنك عارها، وهل رأيك إلا فَنَد، وأيامك إلا عَدَد، وجَمُعك إلا بَدَد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.
فالحمدُ لله الذي خَتَم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل».
4 ـ الشـجاعـة:
وهي خصلة بارزة في مواقف السيدة زينب، وقد ورثتها عن أبيها، بل عن مدرسة أبيها وجدها، وهي مدرسة القرآن التي تعلّم الإنسان أن يخشى الله ولا يخشى سواه، تربّت على أن الحوادث مهما كانت جسيمة لا يهتز لها قلب، ولا يرتجف لها جسد، وعلى أن تستقبل الموت وتطلبه، ومن طلب الموت كُتبت له الحياة وكُتب له الخلود.
فهي تقف أمام طاغية زمانها لتقول له: «ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرَك واستعظم تقريعَك، واستكبر توبيخَك، لكن العيون عبرى والصدور حرّى».
الطاغية المتفرعن أمامها لا يستحق حتى التقريع والتوبيخ، فهي أكبر من أن تخاطبه بأي شيء حتى بالتقريع والتوبيخ.. أية شجاعة هذه؟!!
برزت شجاعتها ورباطة جأشها في دفاعها عن آل بيت النبوة أمام كلّ تهديد، فتنقّلها بين الخيام المشتعلة راكضة لتجمع الأطفال وتقيهم من النار والتشرّد موقف لا يصدر إلا عن امرأة لم تفقد السيطرة على نفسها حتى في ذلك الموقف الرهيب الذي يزلزل أعاظم الرجال.
وهكذا وقوفها مدافعة عن علي بن الحسين (عليه السلام) حين أمر ابن زياد أن تُضرَب عنقه، «إذ تعلّقت به عمّته وقالت: يا ابن زياد حسبك من دمائنا. واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه».
وموقفها من الرجل الذي طلب من يزيد أن يهب له فاطمة بنت الحسين باعتبارها جارية، إذ نهضت زينب وقالت: «كذبت والله ولؤمت ما ذاك لك ولا له (أي ولا ليزيد)».
فغضب يزيد وقال: كذبتِ إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت.
فأجابته العقيلة: «كلاّ والله ما جعل الله لك ذلك إلاّ أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها».
فاستشاط الطاغية غضبًا وقال: إياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.
فقالت له دون أن تؤثر فيها حدّة الخصم: «بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك لو كنت مسلمًا».
فَقَدَ يزيد صوابه وصرخ: كذبت يا عدوّة الله.
فأجابته بما يُنهي هذا التصعيد بعد أن سجلت موقفها الشجاع وقالت: «أنت أمير تشتم ظالمًا وتقهر بسلطانك».
وتقول الرواية: فكأنه استحيا وسكت.
وتنتقل أخبار هذه المواقف إلى العالم الإسلامي وتتناقلها الأفواه التي أُلجمت، والألسن التي بُكمت باعتبارها ملاحم آل بيت رسول الله فتفعل فعلها في النفوس.
5 ـ مفهوم النصر والهزيمة:
من العوامل الهامة التي تستطيع أن تحوّل الهزيمة إلى نصر والذلّ إلى عزّة ما يحمله الإنسان من مفهوم عن معنى النصر والهزيمة.
والإسلام ربّى أبناءه كي لا يعرفوا للهزيمة معنى، فهم ينالون على أي حال إحدى الحسنيين، وانحسار الحق لا يعني فشله وضعفه بل يعني تمحيص المؤمنين الصادقين، وانتفاش الباطل لا يعني انتصاره لأنه هو استدراج أهل الباطل كي يزدادوا إثمًا. هذه المفاهيم كانت زينب عليها السلام تبثها في المجتمع محاولة تصوير يزيد المنتصر في الظاهر على أنه المهزوم، وتصوير آل البيت المنهزمين في الظاهر بأنهم المنتصرون.. المنتصرون بما نالوا من فوز الشهادة.. والمنتصرون على المدى البعيد حين تهدم دماؤهم عروش الطواغيت.
تقول(ع) مخاطبة يزيد: «أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أن بنا هوانًا على الله وبك عليه كرامة؟! وأن ذلك لِعَظم خَطَرك عنده؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عِطفك جذلان مسرورًا، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمورَ متّسقة، وحيث صفا لك ملكنا وسلطاننا!!
فمهلاً مهلا، لا تطش جهلا. أنسيت قول الله تعالى: «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ».
وتقول مخاطبة ابن زياد حين قال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.
تقول له: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد(ص)، وطهّرنا من الرجس تطهيرًا. إنما يُفتضح الفاسق ويُكذَبُ الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله».
يعاود ابن زياد الطعن فيقول: كيف رأيتِ فعلَ الله بأهل بيتك؟
تجيبه بنفس تلك المفاهيم فتقول: «كتب الله عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاجون وتتخاصمون عنده».
وفي رواية أخرى هي الراجحة في رأيي أنها قالت: «ما رأيت إلا جميلاً.. وسيجمع الله بينك وبينهم..»
نعم .. ما رأيت إلا جميلاً.. في هذه العبارة تتلخّص كل شخصية زينب بنت علي (عليهما السلام).. وكل نظرتها العرفانية إلى الأمور.
أيّ جمال هذا الذي ينجلي لسليلة بيت النبوة ولا تراه العيون المحجوبة عن رؤية الجمال الحقيقي في هذا الكون!!.. وأي جمال تستشعره هذه العارفة بالله ولا تحسّه القلوب القابعة في أكنّة الآثام والرذائل!!.
وفي عبارة أخرى تخاطب يزيد مؤكدة أن ما فعله فإنما هو قد أباد نفسه بنفسه تقول له:
"فوالله ما فَرَيت إلاّ جلدك، ولا هززت إلا لحمك.... «ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يُرزقون».
هذه المفاهيم بثتها زينب في المجتمع، وانتشرت وذاعت بفضل الدماء التي سُفكت في كربلاء، وكانت الشرارة التي أيقظت الناس من سباتهم العميق.
6 ـ التبكيت:
حينما تكون الضمائر هامدة والنفوس رخوة والإرادة مهتزّة لا بدّ من التبكيت الشديد لتكون صَعْقة لاستثارة بقايا الحياة في هذا الجسد واستنهاض بقايا الهمّة فيه.
القرآن مارس هذا التبكيت مع المهزومين والضعفاء والمترددين.
وزينب انطلاقًا من هذه المدرسة القرآنية خاطبت أهل الكوفة الذين التفّوا حول موكب الأسرى يبكون لهول الجريمة.. يبكون ولكن بكاء من فقد إرادته واستسلم للواقع السيء.. ولا قيمة لهذا البكاء.. تخاطب زينب هؤلاء فتقول:
«يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رَقَأت الدمعة، ولا قُطعت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نَقَضَت غزلها من بعد قوة أنكاثًا..
أتبكون وتنتحبون ؟! أي والله فابكوا كثيرًا واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدًا…
ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأي حرمة له انتهكتم؟! »
ولا تقريع أكثر من أن يسمعوا بأنهم فَرَوا كبد رسول الله، وأبرزوا كرائمه وانتهكوا حُرَمَه.
وتخاطب يزيدَ فتستعرض ما نزل بآل بيت النبوة بصورة مؤثرة جدًا تحرّك حتى الضمائر الميتة فتقول:
«أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرُك حرائرك وإمائك وسَوقُك بنات رسول الله سبايا، وقد هُتكت ستورهنّ وأُبديت وجوهُهُنَّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، يستشرفهنَّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنَّ القريب والبعيد والدنيء والشريف، ليس معهنَّ من حماتهنَّ حميّ، ولا من رجالهنَّ وليّ؟!!.
وكيف تُرجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟!»
بهذا النهج نهضت زينب عليها السلام بدورها التاريخي، فقد استنهضت الهمم وأيقظت العزائم، فانتفضت الأمة تطالب بكرامتها وتستعيد عزّتها، وبذلك تواصلت حركة التاريخ الإسلامي التي أوشكت أن تقف وتنتكس، وقدمت عطاءها على مرّ الزمن، ولا يزال هذا العطاء متواصلاً إلى يومنا هذا يؤتي أكله كل حين. غير أن المسيرة يعتريها دائمًا وبشكل طبيعي التلكّؤ بسبب العوامل المضادة، بل قد يعتريها الركود والخمود، لذلك فإنها بحاجة دائمًا إلى نهج زينب وصوت زينب ليدفع بالمسيرة إلى أهدافها المنشودة.
المصدر: موقع المجلس الثقافي- الاجتماعي للنساء والأسرة.
بهذا المنهج خلق الإسلام في المجموعة المسلمة طاقةً روحية والصبر على مواصلة المعاناة، وهذه الطاقة الروحية كانت وراء كل ما ظهر في التاريخ الإسلامي من فتوحات وعلوم وفنون وحضارة مشرقة.
الإسلام ركز في مفاهيمه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره الضمان اللازم لمقاومة المعوقات التي تظهر أمام المسيرة الحضارية، وهذا المبدأ يضع المسلمين أمام مسؤولية مواجهة هذه المعوقات وبذل الغالي والنفيس لإزالتها.
هذه المعوقات غالبًا ما تكون طبيعية ناتجة عن خصلة الطين الموجودة في البشر. وتكون هيّنة حين تبرز على الساحة الفردية، فتتوجّه دعوة الإسلام إلى هذا الفرد أو ذاك للهداية ولتقويم الاعوجاج، ومن ثم لدفع هذا الإنسان على مسيرة الكرامة والكمال. غير أنها تكون خطرة حين تتحوّل إلى عائق يقف أمام كل المسيرة الاجتماعية نحو الكرامة. فيصاب المجتمع بالذل، وتنتكس المسيرة برمّتها. من هنا فإن الرساليين -وهم الذين استعلوا بإيمانهم عن السقوط في أوحال الذلّ- يتحملون من مسؤوليات التضحية بمقدار حجم الانحراف الهائل.
المجتمع الإسلامي بعد عصر الخلافة الراشدة مُني بسبب عوامل عديدة بهذه النكسة، وأوشكت حالة الذلّ أن تخيّم على المجتمع الإسلامي بعد أن أطبق عليها التخويف والتجويع والإرهاب في أفظع صوره.
من هنا كان لابدّ من إجراء عملي كبير لإحداث هزّة نفسية في المجتمع، تُشعره بكرامته المهدورة وعزته الضائعة، وكان الإمام الحسين عليه السلام يتحمل هذه المسؤولية باعتباره إمام ذلك المجتمع. (محمد مهدي شمس الدين، ثورة الحسين).
كل مواقف الحسين وحركاته وسكناته وكل ما قاله وخاطب به أصحابه وأهل بيته وما خاطب به الجيش القادم على قتاله يؤكد هذه الحقيقة.. حقيقة أنه قادم لإعادة الكرامة إلى المجتمع الإسلامي.
ليس حديثنا عن الحسين، بل عن عقيلة بني هاشم زينب بنت علي التي كان لها الدور الأكبر بعد الحسين في عملية إحياء المجتمع المسلم، فماذا كان دورها الرسالي في تحقيق هذا الهدف الكبير؟
لابدّ أن أذكر أولاً أنها كانت -في اعتقادي- مؤهّلة تمامًا لحمل هذا الدور. لا تتوفر لدينا وثائق كثيرة عن شخصيتها، ولكن ما ذكره لنا التاريخ من نتف عابرة هو كاف لمعرفة شخصية هذه المرأة وتأهّلها لهذا الدور. يكفي ما ذكره لنا التاريخ أن هذه المرأة يخاطبها الحسين في أعظم وأصعب موقف، في ليلة الاستعداد للقتل والسبي.. في ليلة العاشر من محرم ويقول لها: "يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل"!!
إني أفهم من هذه العبارة شيئًا كثيرًا.. بعضه أستشعره دون أن أتمكن من بيانه، وبعضه يمكن بيانه، إنها عبارة تبين ارتفاع الأخ والأخت إلى مستوى يفوق بكثير الحالات التي تصيب الناس العاديين حين يواجهون موقفًا رهيبًا، تبين مدى ارتباط الأخوين بالهدف الكبير ومدى سموّهما في القرب الإلهي.
وثمة وثيقة أخرى بقيت خالدة عن هذه المرأة هي قولها عنـد وقوفها على جسد أخيها المدمى المقطع بالسيوف المحزوز الرأس.. وهو مشهد يهدّ الجبال ويضعف الأبطال، قولتها المشهورة:
"اللهم تقبل منّا هذا القربان"!! ومن الأفضل للإنسان أن يكفّ عن أي تعليق على هذا القول ويكتفي بما يُحدثه في النفس من عاصفة تحيّر العقول وتدهش النفوس!!
وثمة وثيقة ثالثة تبيّن تأهل هذه المرأة لمثل هذا الدور الرسالي ما ذكره المؤرخون أنها أدت ليلة الحادي عشر من محرم صلاة الشكر..
يا إلهي كفى على عظمتك شهيدًا أنك خلقت أمثال هؤلاء العظماء الذين لا تقاس بهم عظمة سماواتك وأرضك.!!!
وهل يمكن أن نقبل أمام هذه العظمة ما يصرّ بعضنا على روايته من ضعف وانهيار أصاب هذه المرأة الكبرى.. أنا على يقين من أن روح الضعف والهزيمة التي مُنينا بها هي التي تجعلنا نصوّر زينب بما لا يليق بهذه المرأة العظيمة.
الدرس الكبير العملي الذي قدمته زينب للأمة الإسلامية هو كيف يمكن تبديل حالة الذل إلى حالة العزّة والكرامة.
والبديع في الأمر أن أسرها ساعدها في النهوض بهذا الدور الرسالي التاريخي.
لو كانت زينب عزيزة بإخوتها وأهل بيتها وعشيرتها وأصحابها لما استطاعت أن تؤدي هذه المهمة. ولكنها وقعت في ذلّ الأسر بعد أن فقدت إخوتها وأهل بيتها وحماتها، ولا شك أن الأسر ذلّ ما بعده ذلّ خاصة حين يكون بيد أناس ذبحوا ابن بنت رسول الله، وأحرقوا خيم عياله، ورضّوا أجساد القتلى بالخيل، ومارسوا ألوان الفظاظة والقسوة والدناءة.
ولكن دور زينب هو أنها حوّلت هذا الذل إلى عزّة وكرامة، وكأني بها قالت للمجتمع الذي خيّم عليه الذل: أنا امرأة وحيدة لا ناصر لي ولا مُعين حوّلت حالة الذلّ التي وقعتُ فيها إلى حالة عـزّ فهل فيكم من بقايا كرامة ؟!
كيف مارست زينب هذا الدور الرسالي الكبير؟
1 ـ عدم الشعور بالهزيمة:
وهذه صفة هامة لمن يتأهّل لتحويل الهزيمة إلى انتصار. لو بدا على زينب الانكسار أو الضعف والانهيار لما استطاعت أن تؤدي مهمتها، لكنها في مواقفها كانت من القوة بحيث جعلت المؤرخين يتحدثون عن هذه المواقف. قال بشر بن خزيم الأسدي وهو يصف موقف زينب لدى خطبتها في الكوفة:«ونظرت إلى زينب بنت علي (عليها السلام) يومئذ فلم أر خَفرة أنطق منها كأنها تُفْرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدّت الأنفاس وسكتت الأجراس».
هذا الموقف يدل على أن صلابة شخصية زينب قد أثّرت في هذا الرجل كما أثرت في كل المخاطبين. يقول الراوي: «لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخًا واقفًا إلى جنبي يبكي حتى اخضلَّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل لا يُخزى ولا يبزى».
هذه الصلابة وعدم الإحساس بالضعف أفقدت صواب والي يزيد، عبيد الله بن زياد، فما بالك بالآخرين الحاضرين في مجلسه؟! حين أُدخل عيال الحسين على ابن زياد فدخلت زينب متنكرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتى جلست ناحية من القصر، وحفّت بها النساء. فقال ابن زياد: مَنْ هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل. فقالت بعض النساء: هذه زينب بنت رسول الله(ص).
لاحظوا عظمة الموقف: دخلت على أعتى مستكبر وأبشع قاتل وأفظع طاغية، فما التفتت إليه، ولا وقفت أمامه، ولا استأذنته في الجلوس، بل أهملته وانحازت وجلست مع النساء في جانب من القصر، ثم لم تجب على سؤال الطاغية رغم أنه كرره ثلاثًا.
هذا يعني أنها لم تستشعر أيّ ضعف ولم يساورها أي شعور بالهزيمة.
2 ـ المحافظة على روح العزّة:
حرصت زينب عليها السلام على صيانة روح العزّة لدى سبايا أهل البيت كي لا يستشعروا الذلة في أسرهم، ولكي يكونـوا هم أيضًا صورة لمن يأبى أن يُذلّ.
في الرواية أن السبايا بالشام حين أُدخلوا في دار إلى جانب المسجد الأعظم كان من الطبيعي أن تزورهم النساء، فتجمّعن على باب هذا البيت للدخول على زينب، فخشيت زينب أن يساور نساء آل بيت النبوة نوع من الإحساس بالذلة أمام بقية النساء، فرفضت زينب دخول النساء عليها وقالت: «لا تدخل علينا إلا مملوكة أو أُمّ وَلَد فإنهنّ سُبين كما سُبينا».
لاحظ أنها سمحت لدخول نوع خاص من النساء يشاركن أهل بيت النبوة في الأحاسيس والمشاعر، دون بقية النساء اللاتي لا يحملن مثل هذا الإحساس والتاريخ المشترك.
وفي الرواية أن قافلة السبايا حين دخلت الكوفة قدّ م بعض أهل هذه المدينة تمرًا وخبزًا. فصاحت زينب: "إن الصدقة حرام علينا أهل البيت". فرمى كلّ واحد منهم ما في يده أو فمه رغم ما كان يعانيه من جوع وراح يقول: لصاحبه: إن عمتي تقول إن الصدقة حرام علينا أهل البيت!!
بهذا الشكل جعلت هذه الأسرة الكريمة تستشعر عزتها وكرامتها في انتسابها لآل بيت رسول الله(ص).
3 ـ الإيمان بالمستقبل:
من عناصر التربية القرآنية في تحقيق النصر الإيمان بالمستقبل، الإيمان بانتصار العدل على الظلم وانتصار الدم على السيف وانتصار المستضعفين على المستكبرين. هذا الإيمان كان راسخًا في نفس زينب وكان له الأثر الكبير في تحقيق هدفها الكبير.
في الرواية أنها رأت التأثر الكبير على علي بن الحسين وهو يستعرض ذكريات الواقعة الأليمة في كربلاء، ومشهد الأجساد المتناثرة على الرمضاء، فقالت له: "مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فو الله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنةُ هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والأجسام المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علمًا لقبر أبيك سيد الشهداء، لمّا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على مرور الليالي والأيام، وَلَيَجْتَهِدَنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلاّ علوّا".
وبهذا الإيمان بمستقبل تسقط فيه دولة الظالمين تخاطب يزيد قائلة: «فَكِدْ كيدَك واسعَ سعيَك، وناصبْ جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تُميتُ وحينا، ولا تُدرك أمدَنا، ولا ترحَضُ (تغسل) عنك عارها، وهل رأيك إلا فَنَد، وأيامك إلا عَدَد، وجَمُعك إلا بَدَد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.
فالحمدُ لله الذي خَتَم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل».
4 ـ الشـجاعـة:
وهي خصلة بارزة في مواقف السيدة زينب، وقد ورثتها عن أبيها، بل عن مدرسة أبيها وجدها، وهي مدرسة القرآن التي تعلّم الإنسان أن يخشى الله ولا يخشى سواه، تربّت على أن الحوادث مهما كانت جسيمة لا يهتز لها قلب، ولا يرتجف لها جسد، وعلى أن تستقبل الموت وتطلبه، ومن طلب الموت كُتبت له الحياة وكُتب له الخلود.
فهي تقف أمام طاغية زمانها لتقول له: «ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرَك واستعظم تقريعَك، واستكبر توبيخَك، لكن العيون عبرى والصدور حرّى».
الطاغية المتفرعن أمامها لا يستحق حتى التقريع والتوبيخ، فهي أكبر من أن تخاطبه بأي شيء حتى بالتقريع والتوبيخ.. أية شجاعة هذه؟!!
برزت شجاعتها ورباطة جأشها في دفاعها عن آل بيت النبوة أمام كلّ تهديد، فتنقّلها بين الخيام المشتعلة راكضة لتجمع الأطفال وتقيهم من النار والتشرّد موقف لا يصدر إلا عن امرأة لم تفقد السيطرة على نفسها حتى في ذلك الموقف الرهيب الذي يزلزل أعاظم الرجال.
وهكذا وقوفها مدافعة عن علي بن الحسين (عليه السلام) حين أمر ابن زياد أن تُضرَب عنقه، «إذ تعلّقت به عمّته وقالت: يا ابن زياد حسبك من دمائنا. واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه».
وموقفها من الرجل الذي طلب من يزيد أن يهب له فاطمة بنت الحسين باعتبارها جارية، إذ نهضت زينب وقالت: «كذبت والله ولؤمت ما ذاك لك ولا له (أي ولا ليزيد)».
فغضب يزيد وقال: كذبتِ إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت.
فأجابته العقيلة: «كلاّ والله ما جعل الله لك ذلك إلاّ أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها».
فاستشاط الطاغية غضبًا وقال: إياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.
فقالت له دون أن تؤثر فيها حدّة الخصم: «بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك لو كنت مسلمًا».
فَقَدَ يزيد صوابه وصرخ: كذبت يا عدوّة الله.
فأجابته بما يُنهي هذا التصعيد بعد أن سجلت موقفها الشجاع وقالت: «أنت أمير تشتم ظالمًا وتقهر بسلطانك».
وتقول الرواية: فكأنه استحيا وسكت.
وتنتقل أخبار هذه المواقف إلى العالم الإسلامي وتتناقلها الأفواه التي أُلجمت، والألسن التي بُكمت باعتبارها ملاحم آل بيت رسول الله فتفعل فعلها في النفوس.
5 ـ مفهوم النصر والهزيمة:
من العوامل الهامة التي تستطيع أن تحوّل الهزيمة إلى نصر والذلّ إلى عزّة ما يحمله الإنسان من مفهوم عن معنى النصر والهزيمة.
والإسلام ربّى أبناءه كي لا يعرفوا للهزيمة معنى، فهم ينالون على أي حال إحدى الحسنيين، وانحسار الحق لا يعني فشله وضعفه بل يعني تمحيص المؤمنين الصادقين، وانتفاش الباطل لا يعني انتصاره لأنه هو استدراج أهل الباطل كي يزدادوا إثمًا. هذه المفاهيم كانت زينب عليها السلام تبثها في المجتمع محاولة تصوير يزيد المنتصر في الظاهر على أنه المهزوم، وتصوير آل البيت المنهزمين في الظاهر بأنهم المنتصرون.. المنتصرون بما نالوا من فوز الشهادة.. والمنتصرون على المدى البعيد حين تهدم دماؤهم عروش الطواغيت.
تقول(ع) مخاطبة يزيد: «أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أن بنا هوانًا على الله وبك عليه كرامة؟! وأن ذلك لِعَظم خَطَرك عنده؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عِطفك جذلان مسرورًا، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمورَ متّسقة، وحيث صفا لك ملكنا وسلطاننا!!
فمهلاً مهلا، لا تطش جهلا. أنسيت قول الله تعالى: «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ».
وتقول مخاطبة ابن زياد حين قال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.
تقول له: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد(ص)، وطهّرنا من الرجس تطهيرًا. إنما يُفتضح الفاسق ويُكذَبُ الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله».
يعاود ابن زياد الطعن فيقول: كيف رأيتِ فعلَ الله بأهل بيتك؟
تجيبه بنفس تلك المفاهيم فتقول: «كتب الله عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاجون وتتخاصمون عنده».
وفي رواية أخرى هي الراجحة في رأيي أنها قالت: «ما رأيت إلا جميلاً.. وسيجمع الله بينك وبينهم..»
نعم .. ما رأيت إلا جميلاً.. في هذه العبارة تتلخّص كل شخصية زينب بنت علي (عليهما السلام).. وكل نظرتها العرفانية إلى الأمور.
أيّ جمال هذا الذي ينجلي لسليلة بيت النبوة ولا تراه العيون المحجوبة عن رؤية الجمال الحقيقي في هذا الكون!!.. وأي جمال تستشعره هذه العارفة بالله ولا تحسّه القلوب القابعة في أكنّة الآثام والرذائل!!.
وفي عبارة أخرى تخاطب يزيد مؤكدة أن ما فعله فإنما هو قد أباد نفسه بنفسه تقول له:
"فوالله ما فَرَيت إلاّ جلدك، ولا هززت إلا لحمك.... «ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يُرزقون».
هذه المفاهيم بثتها زينب في المجتمع، وانتشرت وذاعت بفضل الدماء التي سُفكت في كربلاء، وكانت الشرارة التي أيقظت الناس من سباتهم العميق.
6 ـ التبكيت:
حينما تكون الضمائر هامدة والنفوس رخوة والإرادة مهتزّة لا بدّ من التبكيت الشديد لتكون صَعْقة لاستثارة بقايا الحياة في هذا الجسد واستنهاض بقايا الهمّة فيه.
القرآن مارس هذا التبكيت مع المهزومين والضعفاء والمترددين.
وزينب انطلاقًا من هذه المدرسة القرآنية خاطبت أهل الكوفة الذين التفّوا حول موكب الأسرى يبكون لهول الجريمة.. يبكون ولكن بكاء من فقد إرادته واستسلم للواقع السيء.. ولا قيمة لهذا البكاء.. تخاطب زينب هؤلاء فتقول:
«يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رَقَأت الدمعة، ولا قُطعت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نَقَضَت غزلها من بعد قوة أنكاثًا..
أتبكون وتنتحبون ؟! أي والله فابكوا كثيرًا واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدًا…
ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأي حرمة له انتهكتم؟! »
ولا تقريع أكثر من أن يسمعوا بأنهم فَرَوا كبد رسول الله، وأبرزوا كرائمه وانتهكوا حُرَمَه.
وتخاطب يزيدَ فتستعرض ما نزل بآل بيت النبوة بصورة مؤثرة جدًا تحرّك حتى الضمائر الميتة فتقول:
«أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرُك حرائرك وإمائك وسَوقُك بنات رسول الله سبايا، وقد هُتكت ستورهنّ وأُبديت وجوهُهُنَّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، يستشرفهنَّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنَّ القريب والبعيد والدنيء والشريف، ليس معهنَّ من حماتهنَّ حميّ، ولا من رجالهنَّ وليّ؟!!.
وكيف تُرجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟!»
بهذا النهج نهضت زينب عليها السلام بدورها التاريخي، فقد استنهضت الهمم وأيقظت العزائم، فانتفضت الأمة تطالب بكرامتها وتستعيد عزّتها، وبذلك تواصلت حركة التاريخ الإسلامي التي أوشكت أن تقف وتنتكس، وقدمت عطاءها على مرّ الزمن، ولا يزال هذا العطاء متواصلاً إلى يومنا هذا يؤتي أكله كل حين. غير أن المسيرة يعتريها دائمًا وبشكل طبيعي التلكّؤ بسبب العوامل المضادة، بل قد يعتريها الركود والخمود، لذلك فإنها بحاجة دائمًا إلى نهج زينب وصوت زينب ليدفع بالمسيرة إلى أهدافها المنشودة.
المصدر: موقع المجلس الثقافي- الاجتماعي للنساء والأسرة.
اترك تعليق