مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المؤرخة خيرية قاسمية.. تركت عٍلْماً يُنتفع به

المؤرخة خيرية قاسمية.. تركت عٍلْماً يُنتفع به

كانت مؤرخة ذكية جادة غزيرة الإنتاج لا تمل من العمل ولا تتعب منه. بل لعلها كلما عملت كلما ازدادت نشاطاً. عملها حياتها في مجمل ساعات اليوم وعلى مدار الأيام والفصول والسنين. وكانت إلى ذلك شخصية اجتماعية محببة مرحة تتقن فن الحديث والحوار والفكاهة. أما عن التزامها الفلسطيني والسوري خاصة، والعربي عامة، فحدِّث ولا حرج. كذلك لا حرج في الحديث عنها لجهة التزام الأمانة العلمية.
عرفتها من خلال صلتي بـ«مركز الأبحاث الفلسطينية» ببيروت أواخر الستينيات. امتدحها وحبب إليَّ التعرف إليها الصديق أنيس صايغ (رحمه الله) والصديق الحكم دروزه (مدَّ الله في عمره). واستمرت صافية صداقتي معها حتى وفاتها. بل ومن عجيب الصدف أنها في اليوم الذي انتقلت به الى رحمة الله أوصيت فضائية «تلاقي» السورية أن تدعوها لنتشارك معاً في ندوة بمناسبة الذكرى 14 لوفاة المفكر قسطنطين زريق.
وتزاملت معها في القاهرة مرتين. في أوائل السبعينيات كنا معاً في جامعة القاهرة، كلٌ منا يسعى للحصول على الدكتوراه. هي من قسم التاريخ وأنا من كلية الاقتصاد والسياسة. في تلك الأيام جمعتني بمصرية عروبية احتلت مكاناً متميزاً في الشأن العام العربي هي عواطف عبد الرحمن. معاً، كما أذكر، ضمتهما صورة كُتب فوق رسمها وزيرة خارجية دولة فلسطين، وكتب فوق رسم عواطف: وزيرة إعلام جمهورية مصر العربية. سيدتان عروبيتان باحثتان جادتان تختزنان من القدرات ما يؤهلهما لشغل أعلى المناصب السياسية والعلمية.
وتزاملتُ معها ثانية في معهد البحوث والدراسات العربية ومقره القاهرة خلال فترة كالحة من التاريخ العربي المعاصر. ففي تشرين الثاني 1977 زار السادات القدس. في العام الدراسي 1977-1978 عهد إليَّ برئاسة قسم السياسة في المعهد وعهد إليها بالتدريس في قسم التاريخ. تمتع المعهد في ذلك العام ولأول مرة في تاريخه بأساتذة متفرغين يأتونه يومياً. في تلك الأيام الصعبة كان اللقاء مع خيرية ضمن لفيف من أساتذة المعهد بينهم محمد أنيس وأحمد صدقي الدجاني وأحمد الصياد (رحمهم الله)، ويحيى الجمل (مد الله في عمره)، كان اللقاء معهم، وهي منهم، نتدارس أحداث الأمة، نسمة ارتياح في عاصفة قلق.
في زحمة الخطوب لم يتأثر إيمانها بالعروبة ولم تفتر همتها في المتابعة العلمية الرصينة لقضية فلسطين ولغيرها من الهموم العربية. بل لعل الخطوب أمدَّتها بمزيد من العزم.
لها إسهاماتها التاريخية المتميزة لا سيما في الشأنين السوري والفلسطيني. كتابها عن المملكة العربية السعودية في عهد فيصل لا يزال الأول في مجاله. وكتبها عن فلسطين مراجع لا بد منها للباحثين. إسهاماتها العلمية عبر المؤسسات الثقافية العربية معروفة على امتداد الوطن العربي. ومشاركاتها الفعالة في النشاطات الثقافية العالمية متنوعة ومقدرة. ولعلها قليلة المؤتمرات العالمية التي شاركتُ بها، عن تاريخ الشرق الأوسط، من دون أن أُسأَلَ عنها.
قادها ميلها ومعه الظروف إلى تكريس كثير من وقتها، ولا سيما في سنواتها الأخيرة، إلى الريادة في حقل تاريخي لم يعرف حتى الآن ازدحاماً في مرتاديه من العرب. هذا الحقل هو المذكرات والأوراق الشخصية. أَبدَعَت. أما آخر إنجازاتها التأليفية فقد زفت إلي نبأ حلواً عنه قبيل وفاتها بأشهر: «سوف ينشر (مركز دراسات الوحدة العربية) كتابي عن يهود البلاد العربية. هكذا قال لي خير الدين حسيب». حين أعلنت له النبأ الأليم كان سريعاً بقوله لي إن المركز يطبع آخر ما أنجزت. كيف لا وهي عضو في مجلس الأمناء؟
في الذكرى العشرين لوفاة مؤسس «معهد البحوث والدراسات العربية»، ساطع الحصري، وكان ذلك اواخر عام 1988، أطلقت عبر محاضرة عامة في اتحاد الكتاب العرب، فكرة إنشاء «رابطة أصدقاء ساطع الحصري». استجاب للفكرة عدد من كبارنا في طليعتهم العميد نور الدين حاطوم، شيخ المؤرخين السوريين. لكن لم تَؤل الأمور إلى شيء. في أربعين خيرية أعود إلى إطلاق الفكرة. فلننشئ «رابطة أصدقاء خيرية قاسمية». إن نجحنا فبها ونعمت. وإن لم ننجح تعادل حظ خيرية قاسمية مع حظ ساطع الحصري وحظ العلوم الاجتماعية العاثر في بلادنا.
ألا إن كل نفس ذائقة الموت. ألا إن آلاف الصفحات حياة دائمة. ولا ينقطع ذكر ابن آدم إذا كان له علم ينتفع به الناس.


المصدر: جريدة السفير.
جورج جبور.

التعليقات (0)

اترك تعليق