مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مشاكل التربية عند بعض الأمهات

مشاكل التربية عند بعض الأمهات

تحبّ الأمّ ولدها وتتحمّل لتعليمه وتربيته كلّ أنواع الآلام والمتاعب والمصاعب ويدور في مخيّلتها تحت ظلّ هذه الآلام أكبر الأمنيّات وأعظم الآمال لتجعل من ولدها شخصيّةً مميّزةً في المجتمع، بحيث يستطيع أن يعرف نفسه ويخطو خطواتٍ محسوبةً وراسخةً في الحياة ويبتعد عن العشوائيّة في الحياة، ويتبع الحكمة في أعماله، ويمتلك الأفق الكبير والواسع، ويتمتّع بالعقل المهذّب من الخرافات وضعف التفكير، قال رسول الله(ص): "أَكْرِمُوا أَوْلادَكُمْ وَأَحْسِنُوا آدابَهُمْ يُغْفَرْ لَكُمْ"[1].
وهنا على الأمّ أن تلتفت إلى الأخطاء في التربية التي يمكن أن تصدر منها ممّا يؤدّي إلى توجيه ضرباتٍ قاسيةٍ للولد وتنتقل آثارها بصورةٍ غير مباشرةٍ إليه، وذلك نتيجةً لالتصاقه الدائم بها، لذا من الضروريّ أن تلمّ الأمّ بالثقافة التربويّة لتكون قادرةً على تربية الطفل بدون متاعب، ولكي تستطيع اجتثاث الخطأ من جذوره عليها أن تقيّم الأساليب التي تتّبعها في التربية وإلا ستجرّ أذيال الخيبة والندم والحسرة وثقل الشعور بالذنب إلى الأبد.

1. عدم التوازن بالسلوك:
تخطئ الأمّ عندما تكون أحيانًا كالنار المحرقة تنفجر بوجه الولد وتعاقبه بشدّةٍ وتقاوم كلّ ما يرغب به وتزجره على أمورٍ تافهةٍ ليس لها تأثيرٌ كبيرٌ على انحرافه ولا تستجيب لما يريد إلا في حالاتٍ نادرةٍ جدًّا، وأحيانًا أخرى تكون جامدةً وباردةً كالثلج تهمل ما يقوم به الولد من سلوكيّات منحرفةٍ وتستسلم لإرادة الولد وتلبّي كافّة رغباته بلا قيدٍ أو شرطٍ، وكأنّه الآمر والناهي وكلّ الأسرة ومن حوله ينبغي أن يكون في خدمته.
وليس من التربية الصحيحة أيضًا جعل الولد في خوفٍ دائمٍ من الأمّ وزرع روح الضعف والإحساس بالحقارة وخلق روح الاستعلاء والغرور فيه، فتنحطّ أخلاقه حيث ينشأ في منزلٍ هو مكانٌ للبؤس والشقاء وتخيّم عليه التعاسة والأمراض النفسيّة ويفتقد إلى التوازن الأخلاقيّ والاجتماعيّ والنفسيّ في التعامل مع الآخرين، ويعيش مع أمٍّ تعصّب وتغلي في تصرّفاتها أو لا تحلّ ولا تربط في بعض من الأحيان، يقول الإمام عليٌ(ع): "الحِلْمُ غِطاءٌ ساتِرٌ، والعَقْلُ حُسامٌ قاطِعٌ، فاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ، وَقاتِلْ هَواكَ بِعَقْلِكَ"[2].
لذا ينبغي أن تكون أخلاق الأمّ وسلوكها على منوالٍ واحدٍ وتتعامل بوضوحٍ وثباتٍ مع الولد لكي يستطيع أن يحدّد كيفيّة التعامل معها، والتربية لا تثمر إلا بصباحة الوجه والمحبّة، فالأمّ تستطيع عن طريق المحبّة والتتشجيع والرحمة أن تقود ولدها نحو الطهر والصلاح والاستقامة، فعندما تقدّم الأمّ نصائحها ممزوجةً بالعواطف والأحاسيس الحارّة وتنبّهه على أخطائه بنظرةٍ حنونةٍ وابتسامةٍ تطفئ بذلك جذوة الشرّ في نفسه.
 
2. تحطيم صورة الأب:
هناك محاولاتٌ من قبل بعض الأمّهات لتشويه صورة الأب كمحاولة للانتقام منه وتصفية الحسابات بينهما، ودائمًا من يدفع الضريبة الكبرى هو الولد، الأمر الذي يضعه بين صورتين متناقضتين للأب، وإذا استطاعت الأمّ أن تسلخ ولدها عن تأثير الأب وتغييب سلطته، حتمًا سوف تقع في مشاكل كثيرةٍ أثناء القيام بدورها التربويّ، لأنّ غياب سلطة الأب ينعكس تأثيرًا سلبيًّا على نمو الخصائص الأخلاقيّة والنفسيّة والتربويّة عند الولد.
إنّ الطفل الذي يتلقّى التربية والاهتمام من أحد الأبوين فقط يتولّد عنده إحساسٌ بأنّه مختلفٌ عن بقيّة الأطفال وينمو لديه شعورٌ بالدونيّة والنقص عن الآخرين، وعندما يبدأ الطفل في إدراك المشكلة القائمة بين أمّه وأبيه المؤثّرة على وجوده في الحياة نجده يعيش تجربة الإحساس بمرارة الحياة، وإذا أراد أن يتحدّث مع أبيه مثل بقيّة الأطفال يفاجأ بأنّ ذلك أمنيةً قد تكون مكلفةً له.
إنّ المساحة الزمنيّة لإقامة علاقة عاطفيّةِ بين الولد وأبيه غير كافيةٍ، لأنّ الأب قد يكون شبه غائبٍ عن التواجد في المنزل، ومن هنا لا يكون على الولد سوى الانصياع لرغبات أمّه التي تحمل مشاعر كراهيةٍ وغضبٍ تصبّها داخل عقل ولدها، حيث يجد أنّ السلوك الذي يقرّبه من أحد الوالدين يبعده عن الآخر هذا بالإضافة إلى الصور السلبية التي يشاهدها حيث الاتهامات والتحذيرات المتبادلة بين الوالدين، وقد بيّن رسول الله(ص) مواصفات الزوجة الصالحة حيث قال: "إذا نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ، وإنْ غابَ عَنْها حَفِظَتْهُ"[3].

3. تحطيم صورة المعلّم:
يعود الطفل إلى البيت أحيانًا شاكيًا من ظلم المعلّم وقسوته وما فعله به، ويعطي التبريرات والأعذار لكلّ التصرّفات السلبيّة التي يقوم بها في المدرسة، هنا تلجأ بعض الأمّهات لتحطيم شخصيّة المعلّم أمام الولد ممّا يؤدّي إلى أن يفقد المعلّم والتعليم قيمته لدى الولد، ويعطي للمتعلّم الجرأة للعودة إلى ممارسة أخطائه وتكرارها مستندًا إلى موقف الأمّ المتعاطفة معه.
وهذا من الأخطاء في التربية، لأنّه في الوقت الذي تقف فيه الأمّ إلى جانب الولد كي لا يشعر أنّه يواجه الموقف وحيدًا إلى درجةٍ يشعر فيها بالوحدة وعدم الحماية ومداراته ومساعدته لحلّ مشاكله، ينبغي عليها أن لا تشوّه صورة المعلّم المربّي، بل تقوم بدورٍ إيجابيٍّ من خلال بحث المشكلة مع المعلّم باحترامٍ وجديةٍ وتناقشه في أسباب القسوة على ولدها وتتّفق معه على علاج القضية وتلافي ما قام به في حالة التأكّد من ظلمه للولد، وإزالة آثار إحساس الولد بالظلم من ذهنه فيما لو كان الولد هو المخطئ.

4. تغافل ضرب الولد للأمّ:
يجب أن لا يؤدّي حبّ الأمّ وعطفها على ولدها إلى جرأته وتجاسره عليها بالضرب والاعتداء، فما أقبح المشهد عندما يضرب الولد أمّه وهي تتحمّل ذلك بدافعٍ من حبّ الأمومة والعطف والحنان، وأقبح من ذلك مشهد الأمّ التي تضرب ضربًا مبرحًا وبقسوةٍ من أجل أن تفرغ أزماتها النفسيّة، ومن ثمّ تبادره بالدلال لينشأ شخصيّةً مائعةً غير قادرةٍ على تحمّل المسؤوليّات.
لا تسمحي أيّتها الأمّ لولدك بأن يرفع يده عليك حتّى وإن كان مزاحًا، ولا تتغاضي عنه فيما لو فعل ذلك كي لا ينهار صرح وجودك أمام عينيه، وتتشوّه صورة الأمّ التي أُوكل إليها تربية الأجيال، فلا تليق الأمومة للمرأة التي لا تستطيع أن تحفظ هالة كيانها أمام الولد، وليس لها أن تتحمّل اعتداءات الولد وتجاوزاته عليها وتقضي حياتها بالاستسلام لآرائه وإرادته.
على الأمّ أن تؤكد حضورها الإيجابيّ أمام ولدها فتحافظ على احترامها وهيبتها وتأثيرها، بحيث لا يتجرأ الولد بأيّة لحظةٍ مجرّد التفكير على المسّ بهذه المكانة المرموقة، وإلى جانب ذلك تقوم بغرس روح المسؤوليّة عنده وتشحن روحه المعنويّة، وتنقذه من حالة الاسترخاء والدلال والميوعة والتطاول على الآخرين بالكلام القاسي والمهين أو الضرب والاعتداء على كراماتهم، فالحرية جميلةٌ إذا تزيّنت بحدود الأدب.

5. إيكال التربية للخادمة:
إنّ تربية الطفل وجعله متّزنًا ومعتدلاً من وظائف الأمّ الأساسيّة، فيحتاج الأولاد إلى أحضان الأمّ والمراقبة، ويمكن للآخرين أن يقوموا بهذه المهمّة ولكن لا يمكن لهم أن يقوموا بهذا الدور، لأنّ التجانس والموائمة مع الطفل تستلزم صبرًا وجلدًا وحنانًا لا تتوفّر لدى المربية والخادمة والحاضنة، فالطفل يفتقر إلى حنان الأمّ من جانبٍ ويحتاج إلى سيطرتها وقيمومتها من جانبٍ آخر من أجل ترسيخ مفاهيم الانضباط في ذهنه، وهذه الحالة لا تتوفّر عند المربية، لأنّه من الصعوبة أن تحقّق التوازن بين قطبي المحبّة والتحكم.
إنّ توكيل تربية الطفل للمربية يعتبر نوعًا من المكننة في التربية، وتشعر الأمّ انّها قامت بالدور المطلوب منها، وأمنت للطفل كلّ أسباب العناية والراحة، لكنّ الطفل يحسّ بألم الابتعاد عن أمّه وأنّه يعيش في ظلال أحضانٍ مصطنعةٍ، وكما يقول المثل اليونانيّ: "إذا وكلت تربية طفلك للخدم والعبيد فستكون عمّا قريبٍ صاحب عبدين"، فالطفل يشاهد العواطف والحبّ المصطنعين للمربية ويودّ أن لا يفترق عن أحضان أمّه أبدًا.
إذا لم يكن باستطاعة الأمّ تولي أمور الطفل لأسبابٍ مختلفةٍ، وإذا كانت مضطرةً لترك ذلك للمربية فعليه أن تنتخب المربية الصالحة، وتسعى بدقةٍ لتأمين ذلك، وتفحص مهاراتها لكي تكون متحليةً بالصبر والقدرة على التحمّل، وتتلذّذ بالعيش مع الطفل، وتعتبره ابنًا لها، ويفضلّ أن تكون بعمر الأمّ، وينبغي أن توكّل إليها أمر الطفل بالتدريج لكي يتعوّد عليها.

6. عدم الاهتمام بنفسها:
لا ينبغي للأمّ أن تهمل نفسها وتزهد بكلّ نعم الله تعالى في الحياة، وتجعل من حياتها جهنمًا لا تطاق، وكلّ ذلك من أجل إسعاد الولد وإشعاره بالراحة والأمان والطمأنينة، صحيحٌ أنّ غاية التربية هي بناء جيلٍ يحمل كلّ المثل والقيم ويمارسها في حياته اليوميّة وصحيحٌ أن مهمّة الأمّ تستدعي التضحية ببعض الجوانب والاستغناء عن بعض كماليات الحياة لأجل أن يكون نجاحها في تربية الطفل أقوى، لكن لا يعني ذلك أبدًا أن تهمل نفسها.
ليس من السهل التضحية بالميول والأحلام والآمال القلبيّة والعقليّة، إلا إذا أدركت الأمّ أنّ الأمومة تعتبر واجبًا ماديًّا ومعنويًّا، وأنّ المهمة الموكلة لها هي مهمّةٌ وصعبةٌ لا يمكن بلوغها إلا بالتضحية والتفاني، حينئذٍ تبادر الأمّ إلى التغلّب على نفسها في الوقت الذي تستطيع أن تحقّق بعضًا من أحلامها الورديّة، لأنّها تدرك أنّ مصلحة ولدها تأتي على رأس سلم الأولويّات في حياة الأسرة، وهنا تكمن عظمة الأمّ وتجسد عمليًّا بموقفها هذا لماذا جعل الله الجنّة تحت أقدام الأمّهات.
وينبغي للأمّ أن تكون مثاليةً تتحلّى بالصبر والعصاميّة في مقابلّ كلّ الأزمات التي تواجهها، فالصبر مطلوبٌ عند الإحساس بالفقر والحاجة، وتكون أصبر في مقابل زوجٍ متعصّبٍ خشن الأخلاق لكي لا يؤثّر ذلك سلبًا على تربية الولد، فالأمومة تعني تقبل المحدوديّات والقيود الممزوجة بلذّة الحياة.

7. الإنشغال بالعمل:
جعل الإسلام النفقة حقًّا للمرأة لكي تتفرّغ إلى مهامّها التربويّة والأسريّة والرعائيّة، وتضفي على البيت بهجةً ورونقًا، لأنّ ثقل مسؤليّة تربية الأبناء وتعليمهم والقيام بشؤون المنزل كافّةً هي من أصعب المهامّ التي يمكن أن يقوم بها إنسانٌ، لكن قد يستوجب الوضع الماديّ أحيانًا أن تختار المرأة العمل كي تؤمّن موردًا جديدًا لدخل الأسرة، وهنا يمكن أن يكون العمل خدمةً للمجتمع بشرط أن لا يُستفاد من ذلك الملاك الطاهر المليء بالحنان كوسيلةٍ لتحصيل المال.

لكن على الأمّ فيما إذا اختارت العمل أن تلتفت إلى الأمور التالية:

الأوّل: أن لا تغفل عن الجوانب العاطفيّة والتربويّة والقيمومة للأسرة، فعليها أن تمنح الأبناء أكبر قدرٍ ممكنٍ من وقتها، وتقتنع بالقليل من الدخل الماديّ، لأنّه من غير المعقول أن تهمل دورها في تربية الأبناء ومن غير المستحسن أن تترك أبناءها يتعذّبون لفقدانهم الحنان والحبّ من أجل العمل.
الثاني: أن لا تشعر بأنّها من خلال العمل تحقّق نوعًا من الكسب الماديّ الذي يعطيها التحرّر والإستقلاليّة وإثبات الذات، بحيث تكون ندًّا لزوجها في إدارة شؤون الأسرة بكلّ تفاصيلها اليوميّة، تفرض رأيها على الجميع، وتجتنب أصول الحوار الهادئ، ولا تؤمن بتوزيع المسؤوليّات.
الثالث: أن لا تقصّر في القيام بالمهام المطلوبة منها اتّجاه زوجها الذي اختار العمل والتضحية والتفاني في سبيل إسعاد الأسرة، فتعطيه بعضًا من وقتها وحبّها وحنانها لكي تعيش الأسرة تحت ظلال ٍآمنةٍ وأمينةٍ يسودها التفاهم والحوار والمحبّة.

إنّ لعمل الأمّ مهما كانت أسبابه أضرارًا كثيرةً نذكر بعضًا منها:
الأوّل:
الأضرار على الحياة الأسريّة، تضطرّ الأمّ التي تعمل خارج المنزل إلى إهمال شؤون البيت بشكلٍ يفقده الدفء ويظهر فيه الخراب والضجر والملل والشجار، فلا تؤدّي الأمّ مسؤوليّاتها التربويّة والأسريّة والمنزليّة لأنّها تشعر بالاستقلالية والحرية، وهذا الشعور يفقد الأمّ دورها كمربيّةٍ حنونةٍ يستأنس الولد بها ويركن إليها، وبالتالي لا تستطيع التحكّم بالجوانب الانضباطيّة لتصرّفات الولد.
الثاني: الأضرار بشخصيّة الولد، تخرج الأمّ من المنزل للعمل مكرهةً في الوقت الذي لا يشعر الطفل بهذا الاضطرار وسوف يتعلّق بأذيال ثيابها لكنّها تسحب يديه ليس من أذيال ثيابها فحسب بل ومن رأفتها وعاطفتها وعنايتها وتوجّه إليه طعنةً نفسيّةً بليغة الأثر، ولكي تتلافى شعورها بالتقصير تقتني اللعب الكثيرة وتقدّمها للطفل عند عودتها من العمل وتبالغ في إبراز حبّها والاهتمام به ممّا يؤدّي إلى تهيئة الأجواء المناسبة لنشأته مدلّلاً.
الثالث: الإضرار بشخصيّة المرأة، العمل في بيئةٍ غير ملائمةٍ لأنوثة المرأة وكمال حيائها والحفاظ على طهرها وعفافها، يوجب دفع أثمانٍ باهظةٍ أحيانًا، لأنّ محيط عمل المرأة غير المناسب قد يساهم في انحراف أفكارها ويبرز سوء تصرّفاتها ويقضي على حالة التقوى لديها، ويميت روح التضحية في شخصيتها، فالمرأة التي تعمل في المؤسّسات والمراكز التجاريّة تصبح أحيانًا وسيلةً من أجل أن تملأ جيوب الآخرين، وتكون أداةً مبتذلةً للدعاية والإعلام.


________________________________________
[1]وسائل الشيعة ج21 ص475
[2]نهج البلاغة ص 551
[3]وسائل الشيعة ج20

المصدر: موقع جمعية التعليم الديني الإسلامي.
٭ الشيخ صلاح العس _ مدير الإشراف الديني في جمعية التعليم الديني الإسلامي

التعليقات (0)

اترك تعليق