زينب «عليها السلام» صرخة مجلجلة أكملت مسيرة أخيها الحسين «عليه السلام» المظفرة(1)
الحلقة الثانية: بطلة كربلاء زينب(ع) أطلقتها وهي مسبيّة: العلو لأعتابنا.. وكان وعدًا تحقق:
شعلة الإباء والكرامة ورفض الضيم والغيرة على العقيدة التي أوقدها الحسين بن علي(ع) بملحمته الخالدة وأوضحها بحبر جديد من دم الشهادة المحررة المنقذة فوق ثرى الطف.. كانت يتيمة الدهور، ولم يسجل التاريخ شبيهًا لها لا في المعنى ولا في المبنى وارتقت بعنفوانها درجات فوق الملاحم التي تجاد بها الأنفس وتسترخص لها الأرواح، فكان شمعة الإسلام أضاءت ممثلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وسيدًا للشهداء لم تشهد له الأديان مثيلاً، وفسيلاً في تربة النبوة وغصنًا مزهرًا في الشجرة القدسية لآل البيت(ع).
وقد كان انطفاؤه فوق ثرى الطف توهجًا لاشتعال أبدي، وخلدت ملحمته كعنوان صريح لقيمة الثبات على المبدأ ولعظمة المثالية في تمثل العقيدة، لذا غدا حبه كثائر واجبًا علينا كبشر، وحبه كسبط نبوي جزءًا من نفثات ضمائرنا، وإنزاله في القلوب المنزلة العليا كسيد للشهداء فيه رضى للحنايا وإثلاج للصدور، وتكريس للنصر الحقيقي المنسجم مع التوجه الينبوعي الطاهر.
سبحان المُنطق القادر على إيصال الوحي إلى عقول ما جال بها إلا الحق، ومسيِّره على ألسنة ما نطقت إلا بالفصاحة القرآنية، إذ بلغ الأمر بيقظة الضمائر بعد انتهاء مذبحة كربلاء بالمقتل وعودة السبي والدفن.. أن صارت حممها تتأجج وتعلو لتنير كل ما حولها، وإذا بالولاء لأهل البيت سُنَّة سنَّها الناس لأنفسهم، والتبرك بعتباتهم العالية صار فرضًا على كل مؤمن، وذكرهم يُحيَي سنة بعد أخرى وجيلاً بعد جيل ومناقبهم تعلن من فوق المنابر، ومزاراتهم وقبورهم وكل مكان وطئوه صارت محجات للملايين من أمم الأرض، تهرع إليها من كل فج عميق ضارعة مستغفرة، قارعة الصدور ندمًا، ذائبة على آل البيت حبًا.
وهذه إحدى معجزات الشهادة وما تلاها من خوارق أنزلها اللَّه تعالى الضمائر فكيف استمرت نيران هذه الشرارة التي قدحها سيد الشهداء فوق أرض خلاء لا يراه فيها أحد..كيف استمرت وتأججت وفردت سناها فوق رؤوس الخلائق وقت انطفأت فيه نيران متأججة كثيرة؟
أليست معجزة الخالق التي خططت لهذه الثورة بهذه الكيفية.. وما قول أولئك الذين ما زالوا بعد كل هذا الفيض من الانتصارات الذي أحرزته ثورة فرخ النبي(ص)، يتصدون لها بمقاييس تقليدية تبعد بها أميالاً عن حقيقة جوهرها السرمدي؟
إلا أن هذه الثورة رغم ما تعرضت له على مر السنين من مغالطات وتشويه..ما ازدادت إلا سطوعًا وعلوًا، وهذا ما تنبأت به زينب فيما قالته لابن أخيها الإمام السجَّاد(ع) قبل أن يترك الركب أرض كربلاء الحادي عشر من محرم:
«مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟ فواللَّه إن هذا لعهد من اللَّه إلى جدك وأبيك.. إن قبر أبيك سيكون علمًا لا يُدرس أثره، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهد أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا عُلوًا».
وهكذا شاءت العناية الإلهية أن تكون السيدة الحوراء(ع) شاهدة على المجزرة التي لم يكن فيها خصمان بقدر ما كان فيها قاتل ومقتول، وجزار وضحية، وأن تكون مواقفها وكلماتها بعد المجزرة.. مواقف وكلمات المعاينة المعانية بكل أعصابها وإحساسها النسوي الأمومي، ولم يكن كزينب(ع) أهل لهذه المهمة الصعبة تناط بها، وهي التي شاهدت وفاة جدها الرسول(ص)، وعاشت محنة أمها الزهراء(ع) وندبها لأبيها بيت الأحزان، وانتهاك حرمتها ومنع إرثها وكسر جنبها وإسقاط جنينها، وتلطيخ سمعتها وهي تنادي فلا تجاب.
وهي التي شاهدت قتل أبيها أمير المؤمنين(ع) ورأت مكان الضربة رأسه، وعاينت مظاهر سريان الدم من جسده، واحترقت بدموعه الطاهرة تفيض من عينه وهو يقلِّب طرفه فيها وبأخويها الحسن والحسين(ع).
وهي التي شاهدت أخاها الحسن(ع) وهو يجود بنفسه مصفر اللون متهالك القوى يلفظ كبده قطعًا قطعًا من تأثير السم، ورأت عائشة تمنع دفنه مع جده وتركب بغلة وتصيح: «واللَّه لا يدفن الحسن هنا أبدًا».
أما مصيبة المصائب وخاتمة الأرزاء التي عاشتها ورأتها.. فكانت فيما عاشته إلى جانب أخيها الشهيد كربلاء، وفيما عانته خلال مسار سبيها برفقة العليل والنساء والأطفال، مصائب يعجز عن وصفها لسان، وأرزاء لا يحتملها بشر، فاقت قوتها وتأثيرها كل ما مر بها من محن وآلام توالي أيامها المتخمة بالأحزان والمصائب.
فكيف عاشت العقيلة(ع) هذه التجارب.. وكيف تحملت كل هذه الآلام.. وكيف صبرت على كل هذا القدر من البلاء الذي حل بها؟
المألوف هنا مثل هذه المواقف أن تُتعتَع أشد العقول رزانة وتُعمى أشد البصائر رويَّة، فتتخبط خبطًا عشواء تدل على اختلال الأعصاب التي لا تبقي على أي أثر لتعقل أو اتزان.
فهل فقدت زينب(ع) رباطة جأشها.. هل ارتجَّت أعصابها فاختل توازنها.. هل تزعزعت ثقتها بنفسها وبإيمانها وبحكم ربها.. هل جدفت أو رفعت رأسها إلى السماء تتساءل: لمَ هي دون غيرها يجب أن تتحمل كل هذا.. هل فقدت حس الأمومة وإحساس القدسية والقدرة على التصرف قولاً وفعلاً؟
أبدًا، فإن شيئًا من ذلك لم يحدث.. حفيدة النبي(ص) لم تفقد إيمانها، ابنة علي وفاطمة(ع) لم تتزعزع، أخت الحسنين(ع) لم تكفر بحكمة اللَّه، بل ما زادتها المحن والآلام إلا ثبات جنان ورجاحة عقل واعتصامًا بحكمة الخالق وإذعانًا لمشيئته.
ولا عجب، فهي غذيَّة حكمة أبيها أمير المؤمنين(ع) صاحب نهج البلاغة(1) ووارثة مبادئ آل البيت(ع) التي لقنها إياها أبوها وهي لمَّا تزل طفلة تحبو، حيث كانت تسمعه يجاهر بهذا المبدأ الذي حفر وجدانها الغض:
« إن أشد الناس بلاء النبيون، ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يُبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسُن عمله اشتد بلاؤه، ذلك أن اللَّه لم يجعل الدنيا ثوابًا لمؤمن ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه ضعف عمله وقل بلاؤه، وإن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض».
وإذا كنا قد تكلمنا حتى الآن عن معجزات الشهادة الروحية التي ردَّت إلى الضمائر إحساسها البشري وجعلتها تقف على فداحة تقصيرها تجاه الحسين(ع) وعن دور زينب(ع) إزكاء الحمية الرؤوس وإيقاظ النفوس الهاجعة وحمل لواء الحرب النفسية التي هي تتمة لحرب أخيها الحسين(ع) فوق ثرى كربلاء.. فإن لبقية عقيلات آل البيت(ع) أدوارهن المكملة لدور الحوراء تبيان الحقيقة، وإثارة شعور الندم القلوب.
فها هي فاطمة بنت الحسين(ع) ما أن رأت عمتها زينب(ع) تنتهي من خطبتها جموع الكوفة.. حتى وقفت تخطب هذه الجموع وتوضح لها دورها المتخاذل عن نصرة أبيها وحقدها على رسالة النبي، وحذرتهم ألا يشتطوا كثيرًا فرحتهم بما أصابوا من دمائهم ونبهتهم إلى توقع اللعنة والعذاب من السماء، ولعنت الظالمين منهم.
وما إن أتمت خطبتها..حتى ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب ندمًا وحزنًا، وصاحت الجموع بصوت واحد: «حسبك يا ابنة الطاهرين فقد أحرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا(2)».
وتلتها أم كلثوم(ع) في اللوم والتقريع وإثارة الضمائر، قرَّعتهم على نزع الرحمة من قلوبهم وحذرتهم من لعنة الدماء الزكية التي سفكوها ومن غضبة اللَّه على قتلهم خير الرجالات بعد النبي(ص)، فضج الجمع بالبكاء ونشرت النساء شعورهن وخمشن وجوههن ولطمن خدودهن ودعون بالويل والثبور، حتى صار الجمع بين باك ولاطم.
ولما جيء بعلي بن الحسين على بعير والجامعة في عنقه والغل يديه إلى عنقه وأوداجه تشخب دمًا.. بادر الجمع بهذه الأبيات:
يا أمة السوء لا سقيًا لربعكم
يا أمة لم تراع جدنا فينا
لو أننا ورسول الله يجمعنا
يوم القيامة ما تقولونا
تسيِّرونا على الأقتاب عارية
كأننا لم نُشد فيكم دينا
وأومأ إلى الناس.. فسكتوا، بينما أخذ يعرِّفهم من هو قائلاً:
«أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهكت حرمته وسُلبت نعمته وانتُهب ماله وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من قُتل صبرًا وكفى بذلك فخرًا».
ثم أخذ(ع) يبين لهم كيف خانوا أباه حينما استصرخهم بعد أن أعطوه من أنفسهم العهود والمواثيق والبيعة، وقاتلوه.. وسألهم بأية عين ينظرون إلى رسول اللَّه بعد قتلهم لعترته وانتهاك حرمته..؟
فارتفعت الأصوات ضاجة بالبكاء وقالوا بأجمعهم:
«نحن يا ابن رسول اللَّه سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا راغبين منك، فمرنا بأمرك يرحمك اللَّه، فإنَّا حربٌ لحربك وسلمٌ لسلمك، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا».
ولكن الوقت كان قد فات ولم يعد ينفع الندم وجلد الذوات.. فرد عليهم السجَّاد(ع):
«هيهات أيها الغَدَرة المكَرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليَّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلا وربَّ الراقصات، فإن الجرح لما يندمل، قُتل أبي بالأمس وأهل بيته، ولم يُنس ثكل رسول اللَّه وثكل أبي وبني أبي».
وكان لهذا الخطاب رد فعل قوي في النفوس، فانفعلت معه انفعالاً عميقًا كان كفيلاً ببعث الروح النضالية الهامدة جذوة جديدة، وهزِّ الضمائر الميتة هزات أحيتها، فكان أن خطت ثورة الحسين الوليدة أولى خطواتها الدرب الذي طمحت للسير فيه ففتحت عيون الناس على زيف الحياة الروحية التي كانت تحتويهم، وبدأ الإطار الديني المغلِّف لحكم الأمويين يتزعزع ويتشقق تمهيدًا لانهيار قريب، وتنبهت النفوس إلى الروح الجاهلية التي تغلغلت في أركان الحكم وبدأ الشعور بالإثم يتفاعل داخل القلوب وبدأت معه أولى خطوات نقد الذات وتقويم المجتمع لنفسه والبحث عن مناقبية جديدة للإنسان المسلم بعد أن فقد إنسانيته فجاءت ثورة الحسين لتنبهه إلى فقدان هذه النعمة الربانية.
وقد ساهمت معركة الطف وحوادث السبي إيقاد جذوة الإيمان من جديد وجدان الأمة، ساعدها ذلك ما ظهر من وحشية الأمويين في مناجزة الحسين وقتله مع نخبة كريمة من آله وصحبه، وما رافق ذلك من مظاهر البربرية المتمثلة حمل الرؤوس على الحراب إلى الشام، والذي برهن على التجرد من كل نزعة دينية وإنسانية.
وكانت اليقظة الروحية لأمة الإسلام هي الأعجوبة الخارقة التي شكلت أساس كل المعجزات التي اجترحتها الشهادة فوق أرض كربلاء، وكما شكلت فيما بعد المحور الذي دارت عليه المعجزات المتتالية، الاجتماعية منها والزمنية.
إذ كما هو متفق عليه نظريات علم النفس، أن يقظة الضمير وتفتح البصيرة بعد موات وهمود..من شأنه أن يقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب، ويجعله يحطم كل ما يحيط به ويذكره بهوانه وتقصيره الذي أدى به إلى ما وقع له أو به(3).
ولعل ما زاد في تأجج عامل الندم نفوس المسلمين..تلك الفرص التي أتاحها لهم الشهيد، سواء ما كان منها قبل المعركة أو خلالها للكف عن قتاله وتلويث أيديهم بدماء آل البيت وتجنيبهم الندم، كما سبق ذكره في متن الكتاب.
وعندما يبدأ التأجج كما عُرف في علم الطبيعة والفيزياء فإن الحمم تصب فوق بعضها وتُحمي ذرات بعضها البعض، فيزداد اللهب وتتضاعف الحرارة.
وكما قيل فإن الإقناع يزداد كلما كان الشاهد أقرب إلى المشهود عليه(4)، وهذه نقطة مهمة ودالة على معجزات شهادة الحسين الروحية، فقد كشف همجية مجزرة الطف.. الجنود العائدون، وأذاعوا تفاصيلها طول البلاد الإسلامية وعرضها، وكان لكلامهم وشهاداتهم أبلغ الأثر في تأجيج نار المشاعر ضد الذين فكروا وقاموا بهذه المجزرة المشينة.
وعلى الرغم من نشاط فرقة المرجئة التي أنشأها النظام الأموي لتغطية نشاطه السياسي وإسباغ صفات دينية على تصرفاته.. فإن الغضبة التي اشتعل أوارها لم تكن لتهدأ إلا لتثور مجدداً وبشكل أعنف.
وقد أعادت ملحمة كربلاء إلى الأذهان ما أفتى به الفقهاء الموظفون من أنه لا يجوز الخروج على الأئمة، وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين ففُتحت هذه الأذهان على عمليات التمويه الرسمية التي موَّلها حكام بني أمية لوأْد كل مطالب عادلة، والوقوف أمام كل تحريف للسُّنة، والسكوت عن مخارف الجور والانتهاكات.
وفي مقابل تفتح الأذهان على أضاليل فرقة المرجئة ومؤسسيها.. تفتحت هذه الأذهان على مبدأ الإمام الشهيد الذي قال مخاطبًا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان:
«أيها الأمير.. إنَّا بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح اللَّه وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر وقاتل النفس المحرمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله».
فهذه الكلمات على بساطتها تدل دلالة واضحة على جواز نقد الخليفة والثورة على أحكامه والخروج عليه، وتبين في الوقت ذاته أساليب المراوغة والتحريف التي رفعها الأمويون فوق الرؤوس لإيهام الناس وإخافتهم.
وكان لا بد للفرد المسلم من المقارنة بين هذا المبدأ الحسيني، وذلك المبدأ الأموي وما كان من نتيجتيهما.. كي يخلُص إلى نتيجة واحدة لا مزاحم لها في النهاية، ألا وهي أن الحكم الأموي حكم يمتطي المشاعر الدينية ليغتصب باسمها البيعة والخلافة حتى لو كان الثمن تكريس مبادئ لم ترد في صلب العقيدة.
فكيف إذا كان على رأس هذا الحكم خليفة مثل يزيد يجاهر باستهتاره ويتحدى اللَّه ورسوله ويزاحم آل بيته على حق الخلافة.. فذلك معناه موافقة ضمنية على أفعاله ومساعدة غير مباشرة له على مخالفة السنن، وعندما يعلن إمام كالحسين منحدر من معدن النبوة: «أن يزيد رجل فاسق وقاتل النفس المحرمة(5) ومعلن بالفسق».. فمعنى ذلك أنه إفتاء للأمة الإسلامية بجواز إسقاطه والثورة عليه، لأن معنى المبايعة هو بيع النفس للخليفة الذي يرمز إلى الشريعة وجوهر الدين، وحامي القرآن الكريم، وولي عهد الرسول المصطفى على المسلمين، ومبايعته إقرار ضمني بالاستماتة في سبيله عملاً بقوله تعالى: «أطيعوا اللَّه والرسول وأولي الأمر منكم» فألزم على المسلم طاعة الخليفة لأنها تدخل في طاعته عز وجل.
وعندما يكتشف الإنسان المسلم أن بيعة نفسه لخليفة غير أمين على جوهر دينه كلَّفه التفريط بعقيدته، وبيع نفسه للباطل الذي يمثله هذا الخليفة، وبالتالي كسب غضبة اللَّه جرَّاء عصيانه.. فإنه يحتقر نفسه ويزدري قلة تعقله حينما بايع هكذا خليفة، ويتحرك ضميره ويتفاعل إحساسه بازدراء نفسه ولومها، فيثور ويحطم أصنامه ويموت دون مبدئه راضيًا مؤمنًا.
وبدءًا من فرضية الندم ثم مراجعة النفس والوقوف على حقيقتها وحقيقة الأمور والظروف التي دوَّمتها في دوامتها، وتبيان الحقيقة الساطعة مرورًا بفترة المراجعة وكمون الأفكار والانفعالات، ونجاحها في تحويل صاحبها من إنسان خامل بلا عقيدة إلى إنسان ديناميكي معبأ بالمبادئ، فضلاً عن تحرك الظروف خارج نفس الإنسان وتفاعلها نواح أخرى بما يدعم مبدأه الجديد وعقيدته المستيقظة.. كل ذلك يزيد من تصميمه على استمرار الاستسلام لهتافه الداخلي الذي يقوده إلى دروب لم يكن يحلم بالمسير بها ويفتح أمام بصيرته مغاليق كانت كالسُّدِّ في وجهه، فيندفع بإيحاء من فقدان ثقته بما كان وانسجامًا مع هتافه الداخلي ورغبة منه في تغيير الأوضاع.. إلى الثورة والتحطيم واقتلاع كل زيف من جذوره.
وشهادة الحسين(ع) كربلاء وما تلاها من حوادث السبي، نجحت في إيصال الإنسان المسلم إلى بدء رحلة الألف ميل نحو تحرره وتمكين جذور عقيدته في نفسه بخطوة واحدة، إذ ما كاد ركب السبي يدير ظهره لدمشق عائدًا إلى الأرض التي تضم الجسوم الطاهرة.. حتى بدأ الندم يستشري في ضمير أمة الإسلام، وبدأت معه عملية مراجعة النفس التي ستشكل محور ما سيأتي بعدها من تغيرات وانتفاضات تعم هذه الأمة التي ابتلاها اللَّه بالضعف من بعد قوة، فيتنادى للتغيير والثورة أقصاها وأدناها(6).
الهوامش:
(1) يصف السيد الرضي كتاب نهج البلاغة بـ «الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عقبة من الكلام النبوي» والكتاب يعتبر من أعظم الكتب بعد القرآن الكريم، إذ وصفه العظماء بأنه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق.
(2) لقد ثبت علميًا أن مشاعر الغضب والحزن والندم، تبدل كيماوية الجسم، فيشعر صاحبه بالحرقة في قلبه، وبالاكتواء في حجابه الحاجز، بالتآكل في معدته.
(3) لسيجموند فرويد رأي في كتابه «سيكولوجية الشذوذ النفسي» ص 189 يقول فيه: إن يقظة ضمير الإنسان تحيل صاحبها إلى ديَّان رهيب لا يخاف لوم ذاته ومعاقبتها بأقصى العقوبات الممكنة.
(4) السيد المسيح قال: «من فمك أدينك».
(5) «.. ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق..» راجع النص الكامل للآية 33 من سورة الإسراء.
(6) شهادة الحسين في كربلاء بحاجة إلى دراسة علمية ونفسية وروحية وزمنية وافية، على أعلى المستويات، ففي طوايا هذه اللحمة تكمن أسس أخلاقية لو أظهرت للبشرية بشكل علمي مدروس لتغيرت نظريات كثيرة، ولأعطت أجوبة شافية للعديد من المسائل الروحية والزمنية، وكيفية الربط بينها. والمعاني والعبر والرموز والدروس والدساتير والأساليب والنتائج ذات الصلة الماسة بمختلف الأصعدة الإنسانية بشكل عام، وبالعديد من قضايا الإنسان المعاصر بشكل خاص، فهل تلقى دعوتنا لهذه الدراسة تقبلاً وإقناعًا؟
المصدر: موقع النمر.
د. أنطون بارا - «جريدة الدار الكويتية».
اترك تعليق